أحمد فؤاد نجم... هل للجنون حدود؟

أحمد فؤاد نجم... هل للجنون حدود؟

أحمد فؤاد نجم... هل للجنون حدود؟


16/03/2025

أحمد فؤاد نجم اسم لواحد من أهم شعراء العامية في مصر، حتى لو لم يكن الأفضل، لكنّه كان الأجرأ والأكثر مشاكسة، لم يسلم من لسانه كل من جلس على كرسي مصر، ربما لأنّه أحبها كحبيبة فلم يرَ رجلاً يليق بها تماماً، فعابهم جميعاً وأغضبهم، إلى درجة أنّ عبد الناصرأقسم ووزير داخليته بأنّ نجم لن يرى الشمس ثانية، ووصفه السادات بأنّه "شاعر بذيء".

كتب مُغضباً أصحاب العروش والكروش، لم يفلت منه أحد، حتى رئيس أمريكا، ولا أصدقاؤه من كبار كتّاب مصر آنذاك، فهاجم هيكل وجاهين والأبنودي وغيرهم، وهاجم أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، أقوى مطربين عربيين.

فمن كان نجم حتى يصل في تحديه إلى حدود الجنون؟ وبماذا كان مسنوداً ومن كان يحمي ظهره؟ وما الذي قوّى قلبه على هذا المَسلك الوعر؟ الغريب أنَّ نجم لم يكن له وصف غير أنّه رجل متشرد وصعلوك، بذلك المعنى الذي يصف فيه حياته الشخصية ويصف محيطه العائلي المُتجرد من أيّ قوى يمكن أن تسنده وتساعده إن سقط، وبما يُثبته هو نفسه في مذكراته "الفاجومي"، فقد كان أبوه ضابطاً، لكنه لم يترك له ولإخوته صيتاً أو إرثاً يعينهم، فلم يستطيعوا أن يكملوا تعليمهم، ولم يكن له في أهله عزوة، بذلك المعنى الذي يجعله مثل هيكل أو السباعي. والدته سيدة كملايين الفلاحات المصريات من عصرها، امرأة أمّية وواعية، وما رواه نجم عنها في مذكراته يجعلنا نخمّن أنّ "اللماضة" و"المشاكسة" وذكاء تشخيص الموقف وعبقرية المفردة اللغوية العامية كانت جينات هذه الأم البسيطة الصعبة معاً. لم يكن في حياة نجم أيّ مسند يجعله يواجه دولة بوليسية جبارة معروفة بتاريخها العريق في تصفية معارضيها، فبمن كان يحتمي، وعلى من كان يستند؟ يجيب في مذكراته بأنّه وجد الخلاص من شعوره بالخوف والقلق من بطش النظام وعيون الدولة الناصرية والساداتية في رواية يوسف إدريس "البيضا"، حيث كان يهرب بطله في الناس، يلتحم في الناس، ويجعل منهم دفاه وونسه. وأظن أنّ جزءاً من عبقرية "نجم" هي التحامه الشديد بالروح الشعبية للبسطاء والمهمشين، بل إنّ إنتاجه هو صنيعة وجوده في أحشاء القاهرة، وصناعة فنه وسط الناس ومع الناس ومن قلب الناس، إنّه يصح بمعنى من المعاني أن نقول إنّ إنتاج نجم هو إنتاج للخيال الشعبي المصري والروح الوطنية الجمعية على غرار السرديات العربية الكبرى من المغازي والأخبار والسير.

أقسم عبد الناصر ووزير داخليته بأنّ نجم لن يرى الشمس ثانية، ووصفه السادات بأنّه "شاعر بذيء"

كانت أمّ نجم أولى مصادر تشكيل هذه الشخصية "الغلباوية"، وعزبة نجم مسقط رأسه ومرتع صباه، بكل ما اختصها به في مذكراته من حنين ودفء واضحين، كانت مصدراً ثانياً لنحته، هذه العزبة الصغيرة التابعة لقرية أبو حماد من أعمال محافظة الشرقية بمفرداتها وشخصياتها الشديدة المصرية التي انعجن بها نجم حتى تشرّبها، وراح فيما بعد يعبّر بنَفَس مصري حقيقي عن آلام هذه الأمّة ومواجعها...، وأعتقد أنّ المهن التي امتهنها نجم جعلته يعترك الحياة ويعرفها من أكثر وجوهها قسوة وتصبغ شعره بالواقعية المرة، إذ عمل في الغيطان صبي أنفار ثم كلافاً، وعمل صانع أحذية ومكوجيّاً، وعمل في معسكرات الإنجليز، وكان ظلم أعمامه له ولأخواته كفيلاً بأن يجعله يذوق باكراً مشاعر الغضب المرّة. ثم جاءت تجربة السجن، التي كانت من وجهة نظري، بعد النكسة أقسى تجربة عايشها نجم؛ أنضجته وأخرجت طاقاته، هناك في سجن أرميدان، حيث السجن جامعة أيضاً لها خرّيجوها، ليس بالشكل التقني والأكاديمي للجامعات المعتادة، لكنّهم خرّيجو حياة وخبرات، فكان أن دخل نجم "مصارين" مصر، واحتك بالنشالين والنصابين والقتلة ومساجين الرأي العالم والشيوعيين وأصحاب المظالم والظلمات، وهناك أيضاً عرف أخاه علي عزت الذي رحل عن الأسرة منذ أعوام دون حسٍّ أو خبر، ليفاجأ به في زنزانة جواره، واحداً من أعمدة المساجين ووجهائهم. وأتاحت له تجربة السجن الاقتراب من الوطنيين المصريين وتشكيل وعيه السياسي ووجدانه الوطني، ورأى لأول مرة أشخاصاً يقدمون مصلحة مصر على أيّ مصلحة أخرى، فقال في مذكراته عنهم: "إيه الكلام العجيب دا؟! ومين الناس دول!". وفي عام سجنه الثالث والأخير عرض أشعاره على مسرح السجن ونشرها في جريدته، ونسخ له الرائد سمير قلادة أشعاره على مكنة السجن، ثم وأرسلها إلى مجلس الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية...، ثم خرج الشاعر من السجن ليعود إليه ثانية في مواقف لا يكون متهماً فيها بالنصب، ولكن بالحب "وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات، وكل يوم بحبك أكتر من اللّي فات...".

الشاهد في حياة نجم أنّه لم يكن ربيب مدارس أو جامعات، ولم يكن قارئاً بشكل أكاديمي ولا بحاثة بالشكل النهم، ولكن كان ذكياً ولمّاحاً وتلميذاً في مدرسة الحياة، مراجعاً لأفكاره، مستهزئاً وساخراً من نفسه وتصرفاته، راكم خبراته ومعارفه من التجارب والاستماع والاستخلاص، كان متأملاً في الناس والأحوال، أو بلغة أخرى كان فيه فراسة أولاد البلد. يقول في مذكراته إنّه تعلم كيف يكون إنساناً، وكيف يكون مستمعاً من صمت حجازي الرسام.

نجم لم يكن ربيب مدارس أو جامعات، ولم يكن قارئاً بشكل أكاديمي ولا بحاثة بالشكل النهم، ولكن كان ذكياً ولمّاحاً وتلميذاً في مدرسة الحياة

انفتحت له دنيا الثقافة من أوسع أبوابها بعد خروجه من السجن، فقابل سهير القلماوي والسباعي اللذين شجعاه ودعماه، حتى حدثت المصادفة التي قلبت حياة "الفاجومي" الأدبية رأساً على عقب، فقد قابل الشيخ إمام بمصادفة بحتة، أو هكذا أرادت الحياة أن يجتمعا، فكان بهذا اللقاء أن فُتح لكلمته عالم أكثر جماهيرية، وتكتسب الساحة المصرية الفنية والثقافية قُطب جاذبية جديداً يواجه صوت ثقافة السلطة الموحد، فيقابل مصادفة رفيق دربه الشيخ إمام مواليد قرية أبو النمرس محافظة الجيزة، ويصبح لكلمته منذ ذلك اللقاء نغمة وصدى وترديد. اجتمع الشيخ الضرير والملحن الموهوب والصوت المتميز مع الكلمات الشديدة اللذوعة والسخرية المرة والصراحة الفجة والجرأة غير المكترثة للعواقب، فكانت هذه التوليفة الصعبة أخلص لسان مُعبّر عن حال الشعب المصري والعربي في واحدة من لحظاته التاريخية الكبرى، وتحولت غرفة محمد علي في حوش أدم حيث يقطن الثنائي إلى مزار سياحي تؤمّه كل الطبقات، يستمعون فيه إلى ثقافة مضادة لثقافة السلطة، ويصنعون خطاً موازياً لأغاني تلك الفترة التي جُعلت كلها في تمجيد الحاكم. فبينما كان يغني عبد الحليم "قول ما بدالك إحنا رجالك..."، وتغني أم كلثوم "يا جمال يا جمال..."، كان نجم وإمام يغنيان "يعيش أهل بلدي...". وعلى تواضع المكان والإمكانيات سيكون من المبالغ فيه جدّاً أن يكون  نجم وإمام حالة مثلت ندّاً مماثلاً لثقافة النظام وفنه، لكن كانت هناك أسباب ساعدت على اختراق هذا الصوت ووصوله، وأهمّ هذه الأسباب على الإطلاق هي النكسة، والطريقة التي قرر نجم أن يعبّر بها، فكان لسانه الحرّاق هو لسان حال الشعب المنطفئ والمنكفئ على جرحه، في وقت لم تعبّر فيه السلطة وفنها الرسمي بصدق عن عُمق الجرح وحقيقته، ففي الوقت الذي اختار فيه عبد الرحمن الأبنودي وعبد الحليم حافظ أن يتحدثا عن النكسة والعار الحقيقي الذي لحق بالبلاد بأسلوب شاعري مخجل، لا يتناسب وألم الحدث في الوجدان المصري، ولا يصف حالة الانكسار العامة، بل يتفق مع أسلوب البيانات العسكرية المُضللة، راح نجم والشيخ إمام يعبّران بلغة أولاد البلد الجالسين على المقاهي والمصاطب ونواصي الشوارع والغيطان عن إحساسهما تجاه الهزيمة.

انفتحت له دنيا الثقافة من أوسع أبوابها بعد خروجه من السجن، فقابل سهير القلماوي والسباعي اللذين شجعاه ودعماه، حتى حدثت المصادفة التي قلبت حياة "الفاجومي" الأدبية رأساً على عقب، فقد قابل الشيخ إمام بمصادفة بحتة

كان هناك فارق شاسع بين قول الأبنودي: "والمغربية جايه تتخفى ورا ضهر الشجر... وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر"، وبين قول نجم: "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا محلى رجعة ظباطنا من خط النار... يا أهل مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار... إيه يعني في العقبة جرينا ولا في سينا... هي الهزيمة تنسينا إننا أحرار... كفاية أسيادنا البعدا ... عايشين سعدا... بفضل ناس تملي المعدة وتقول أشعار... أشعار تمجد وتماين حتى الخاين... وإن شا الله يخربها مداين عبد الجبار". ولم يكن يخفى على أحد من هو عبد الجبار، وبذلك يكون نجم قد حمّل عبد الناصر المسؤولية الكاملة عن الهزيمة، وهو ما لم يجرؤ أحد في برّ مصر على فعله. كما كان ردّه الأول على الهزيمة في قصيدته "بقرة حاحا النطاحة" أبلغ تشخيص للهزيمة، وأبلغ تصوير لسقوط البلد دون تهويم أو شاعرية أو لفّ ودوران، كما اختار معظم مثقفي السلطة أن يصوروا الأمر.

لقد اختار نجم أن يواجه الهزيمة باسمها الحقيقي دون تعديل أو تخفيف، واختار أن يرش على الجرح الملح، ربما لأنّ آخر العلاج هو الكي، لكنّ هذه اللغة لم تعجب ثقافة السلطة السائدة التي اختار نجم أن يكون خارج حدودها،  فلم تكن هذه الشخصية مناسبة على أيّ حال لأن توضع داخل إطار.

غير أنّ علاقة نجم بعبد الناصر عجيبة، كذلك بكثير من  الشخصيات المصرية المعارضة، فكثير ممّن عارضوا عبد الناصر ولم يرتاحوا لسياساته كانوا يحبونه، والكثير ممّن رماهم في معتقلاته بكوه يوم وفاته. إنّ أكبر خطأ وقع فيه عبد الناصر هو أنّه اعتبر كلّ معارض عدوّاً، وكل صوت مخالف نشازاً، فلم يستطع أن يحتوي شبّاناً في حقيقة الأمر يقدّرونه ويمجدون الديمقراطية، وكان قضاء عبد الناصر على هامش الحرية وجعل الوطنيين والشرفاء في قبضة صلاح نصر والشعراوي، واحداً من أهم أسباب غفلته ونكسته، فلم يخفَ أبداً على طبقة المثقفين في مصر ظهور طبقة من الأثرياء الجدد، شريحة سمنت من قوت الشعب ومدخراته، وجلست على أكثر كراسي البلد حساسية، وكان تنبيه شباب المثقفين، وخاصة رسامي الكاريكاتير، لعبد الناصر من خطورة هذا الأمر، كان كفيلاً باحتواء أوضاع كثيرة، ومنع مصائب عظيمة أخطرها على الإطلاق النكسة، فلو كان عبد الناصر رأى في المعارضة مظهراً صحياً لتعديل أوضاع مؤسساته، ورأى في معارضة قوية مظهراً لبلد قوي، ورأى في معارضة قوية عيوناً مُخلصة تكشف ثغور الوطن وأوضاعه لإصلاحها، ما كنّا دخلنا حرباً خسر فيها جيشنا معظم عتاده في (6) أيام، بينما البوق الإعلامي يصوّر للناس أننا سنصلي العصر في تل أبيب.

هاجم نجم عبد الناصر، أو عبد الجبار كما أطلق عليه في قصائده، لكنّه بكاه وهو في المعتقل الذي زجّ به فيه، فأيّ عماء كانت تتسم به تلك المرحلة!

يتبع...



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية