السودان: صراع محتوم بين ميليشيا الإسلاميين وطموحات جنرالاتهم

السودان: صراع محتوم بين ميليشيا الإسلاميين وطموحات جنرالاتهم

السودان: صراع محتوم بين ميليشيا الإسلاميين وطموحات جنرالاتهم


27/05/2025

عبدالمنعم همت

في معظم دول العالم الثالث تشهد الساحة السياسية ظاهرة خطيرة تتمثل في عسكرة الأحزاب وتحويلها من كيانات مدنية إلى مؤسسات ذات طابع أمني وعسكري. فبدلا من أن تكون الأحزاب أداة للتعبير السياسي والتنافس السلمي على السلطة، تتحول في الكثير من الأحيان إلى أدوات صراع مسلح، وسراديب تجسس، وتنظيمات رديفة للقوى النظامية. السودان، للأسف، ليس استثناء من هذه القاعدة، بل يمثل أحد أبرز تجلياتها.

تسعى الأحزاب في السودان، كما في غيره من دول الهشاشة السياسية، إلى بناء أجنحة مسلحة، سواء داخل القوات النظامية أو خارجها، تحت لافتات متنوعة تبدأ بالميليشيات وتنتهي بكتائب الظل. هذا التوجه ليس مجرد تكتيك عابر، بل هو جزء من بنية ثقافية وسياسية تؤمن بأن الحماية الحقيقية للسلطة، أو الطموح للوصول إليها، لا يمكن أن يتم إلا عبر القوة. ومع مرور الزمن، تنمو داخل هذه الأحزاب أجهزة أمنية حزبية، تستنسخ التجارب المخابراتية الرسمية، وتُخضع القيادات والكوادر والخصوم لرقابة صارمة، وتوظيف ناعم أو قمع مباشر.

عند الأزمات، كما في لحظات الانقلابات أو الحروب، يطفو الجناح العسكري على السطح، مزيحا الجناح السياسي إلى الخلف، وتصبح القرارات رهينة العقلية الأمنية التي لا تؤمن بالحوار ولا تقوم على التعدد، بل تنزع نحو الحسم بالقوة والتصفيات. ومع مرور الزمن، تترسخ هذه العقلية، فيهيمن “الكادر الأمني” على مفاصل الحزب، ويُعاد تعريف السياسة بوصفها تدبيرا أمنيا أكثر من كونها تعبيرا عن مشروع وطني جامع.

لقد أتقن الإسلاميون في السودان هذا النموذج، إلى درجة أصبح فيها الجهاز الأمني هو الحاكم الفعلي داخل الحزب وخارجه، حتى حين وصلوا إلى السلطة عبر الانقلابات، كما حدث في عام 1989، حين أسسوا نظاما أمنيا مهيمنا استخدم الدولة نفسها كجهاز تجسس ضخم. ولكن المفارقة أن هؤلاء العسكريين الذين استخدمهم الإسلاميون، مثل عبدالفتاح البرهان، لا يلبثون أن ينقلبوا على من صنعهم، مدفوعين بإحساس متضخم بالقوة والجدارة. فالعسكري، بطبيعته التكوينية، لا يؤمن بالسياسة كفنّ للتوافق، بل كحلبة صراع يجب أن يخرج منها منتصرا.

اليوم، يعيش البرهان هذه المواجهة الحاسمة مع رعاته الإسلاميين، مواجهة تحمل بين طياتها إرثا دمويا قد لا يخرج منه أحد سالما. تجربة الإسلاميين مع الجيش أثبتت أن التحالفات المبنية على القوة لا تدوم، وأن من يظن نفسه قادرا على السيطرة الدائمة على العسكريين إنما يزرع شتلة تنمو لتبتلعه. فالبرهان، الذي ارتضى أن يكون أداة في يد الإسلاميين، يواجه الآن حتمية الانفكاك عنهم، في محاولة متأخرة لغسل يديه من إرثهم الثقيل، ولإعادة تقديم نفسه إلى العالم بوجه أقل دموية.

لكن المفارقة أن هذا “الانفكاك” لا يذهب بعيدا، إذ يظل يعتمد على البندقية وعلى تحالفات جديدة مع تيارات إسلامية أخرى ترى في السلاح طريقا للمجد. وهكذا تستمر الحلقة الجهنمية: من عسكرة الأحزاب إلى تسييس الجيوش، ومن الانقلابات إلى الحروب الأهلية، ومن إسقاط الطغاة إلى إعادة إنتاجهم بثياب جديدة.

الراكوبة




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية