
يمثل "الجهاد" أحد المفاهيم المركزية في الفكر الإسلامي الكلاسيكي والمعاصر، وقد خضع لتأويلات متعددة تبعًا للسياق السياسي والاجتماعي. ومن بين أبرز المُنظّرين الإسلاميين في العصر الحديث الذين تناولوا مفهوم الجهاد يبرز حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام (1928). فقد أرسى في خطاباته ورسائله تصورات خاصة حول الجهاد، أثرت لاحقًا على الجماعات الإسلامية الأخرى، وخاصّة ما اتخذ طابعًا مسلحًا منها.
ورغم أنّ حسن البنا لم يكتب مؤلفًا خاصًا عن "الجهاد"، إلّا أنّ رسائله ومحاضراته كانت حافلة بالإشارات إلى مفهوم الجهاد. وقد عرّف الجهاد بأنّه فريضة إسلامية دائمة، ووسيلة "لإعلاء كلمة الله"، مؤكداً أنّ الإسلام لا يكتفي بالدعوة السلمية، بل يوجب الاستعداد "للجهاد المسلح" في الوقت المناسب.
الجهاد فريضة مستمرة
في رسالة "تعاليم الإخوان المسلمين"، صنّف البنا الجهاد ضمن "الفروض العينية" لكل مسلم ومسلمة. وقال: "نحن نعتقد أنّ الجهاد فرض عين على كل مسلم، وأنّ الاستعداد له فريضة لا تسقط حتى تقوم الساعة".
أمّا عن الغاية السياسية للجهاد، فقد ربط البنا الجهاد بهدف جعله غاية المسلم، وهو إقامة "نظام إسلامي عالمي"، وقال في إحدى خطبه: "الإخوان سيجاهدون لإقامة الدولة الإسلامية، ومن ثم الخلافة، ثم أستاذية العالم".
حاول البنا توظيف التراث الفقهي، واستند إلى مقولات تقليدية أخرجها عن سياقها التاريخي، من أجل تكوين رؤيته المختزلة في فهم الجهاد، حيث أعاد توجيه المفهوم بحمولته التاريخية لخدمة مشروع سياسي شامل، يهدف إلى إقامة دولة إسلامية يحكمها الإخوان المسلمون؛ ممّا جعل مفهوم الجهاد يتداخل مع فكرة التمكين السياسي للجماعة.
تأثير أفكار البنا على الحركات الجهادية المعاصرة
لم يكن حسن البنا مُنظِّرًا للعنف فقط، بل إنّ تأصيله لفكرة الجهاد السياسي المسلح فتح الباب أمام تيارات أكثر تطرّفًا. فقد أثّر خطاب البنا في تلميذه سيد قطب، الذي طوّره فيما بعد، ليُنظِّر لفكرة "الجاهلية" و"الحاكمية"، إلى تبنّي العنف ضدّ الأنظمة والمجتمعات المسلمة، وهو ما أصبح لاحقًا المرجعية الفكرية لتنظيمات مثل القاعدة وداعش.
وكان لطرح حسن البنا تأثير مباشر على الجماعات الجهادية في مصر، وخاصةً الجماعة الإسلامية التي اعتبرت البنا مؤسس الجهاد المعاصر، واستندت إلى خطابه في تبرير قتل الرئيس السادات، وارتكاب مجزرة مديرية أمن أسيوط وغيرها.
كما تأثر تنظيم القاعدة ومؤسسه أسامة بن لادن بأفكار البنا وقطب، واعتبر أنّ "الجهاد ضد الطواغيت" واجب ديني. وطوّر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" المفهوم؛ ليصبح الجهاد وسيلة لإقامة الخلافة عبر استخدام العنف المفرط، وبرّر التنظيم أفعاله بنصوص دينية وتأويلات سلفية وجهادية، ترجع في جذورها إلى حسن البنا وسيد قطب.
أسهم تركيز حسن البنا على الجهاد المسلح، وتقديم المفهوم كطريق لتحقيق المشروع السياسي الإسلامي، في شرعنة العنف لدى التيارات الجهادية اللاحقة، التي استفادت من الخلط بين الدعوي والسياسي والعسكري في فكر البنا؛ الأمر الذي جعل أفكاره مرنة للتوظيف الجهادي، في ظل غياب الضوابط الأخلاقية والشرعية لمفهوم الجهاد في فكره، كشرط القدرة وعدم الإفساد والدفاع، وهو الذي فتح الباب أمام العنف العشوائي.
ويمثل حسن البنا حلقة محورية في تطور مفهوم "الجهاد" في الفكر الإسلامي الحديث، وقد أسهمت رؤيته في تشكيل الأساس النظري الذي انطلق منه كثير من الجماعات الإرهابية في العصر الحديث. حيث إنّ الفصل بين الجهاد كقيمة دفاعية، وبين الجهاد كأداة سياسية، ضرورة لفهم كيف يمكن لمفهوم ديني أن يُعاد توظيفه ضمن سياقات عنف وصراع سياسي.
والجهاد عند البنا فريضة دائمة ووسيلة لتحقيق الغايات الدينية والسياسية معًا. ويتميز تصوره بالشمولية والتدرج، ويختلف عن المفهوم الروحي أو الدفاعي الصرف للجهاد في الإسلام، ويرى البنا أنّ الجهاد ليس مجرد حالة استثنائية، بل هو واجب مستمر لتوسيع "سلطان الإسلام"، وهو يشمل القتال والعمل السياسي والدعوي والتربوي، وهو وسيلة لإقامة دولة إسلامية يحكمها المرشد. ويرفض البنا اعتبار الجهاد مجرد فعل دفاعي، مؤكدًا أنّ الجهاد ليس دفاعًا عن النفس فقط، بل وسيلة تغيير شاملة للوضع السياسي والاجتماعي. لكنّه يرى أنّ الجهاد يجب أن يمر بمراحل:
مرحلة الدعوة بالكلمة.
مرحلة التكوين التربوي.
مرحلة القوة والتنظيم.
الجهاد المسلح عند التمكين.
هذا التدرج يكشف طبيعة فكر الجماعة، وتوظيفها للمفهوم بحسب وضعها وقوتها، فهي تبدأ بالكلمة، من أجل استقطاب الأتباع، ثم تمضي في عملية التجنيد والتسليح، قبل أن ترفع شعارات الجهاد وفق مفهومها، من أجل السلطة والهيمنة على الحكم، والقضاء على المعارضة، وهو ما تجلى بوضوح في أعقاب وصولها إلى الحكم في مصر.