هل تخشى حماس صوت الجائعين

هل تخشى حماس صوت الجائعين

هل تخشى حماس صوت الجائعين


05/05/2025

عبدالباري فياض

في قطاع غزة المحاصر، حيث تتداخل خيوط الألم والأمل، وتتعالى شعارات المقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، يطل واقع آخر مرير يكشف عن ازدواجية مقلقة في خطاب حركة حماس التي تدير القطاع وسلوكها. فبينما ترفع الحركة لواء الدفاع عن الفلسطينيين وحقوقهم، يجد الصحافيون والأكاديميون، الذين يفترض أن يكونوا ضمير المجتمع وصوته، أنفسهم تحت وطأة التهديد والقمع، لمجرد محاولتهم نقل حقيقة الشارع ونبض المواطنين الغاضبين.

آخر فصول هذه الممارسات تهديد جهاز الأمن الداخلي التابع لحركة حماس للدكتور توفيق أبوجراد، المحاضر الجامعي والصحافي المعروف وأمين سر المكتب الحركي للصحافيين في شمال غزة، بالمنع الصريح من تغطية أو حتى المشاركة في فعاليات الحراك الشعبي “بدنا نعيش”، صرخة الغزيين المطالبة بحياة كريمة في ظل الظروف الاقتصادية والإنسانية القاسية.

هذا التصرف، الذي استنكرته نقابة الصحافيين الفلسطينيين بأشد العبارات، ليس مجرد انتهاك لحرية العمل الصحفي، بل هو تعدٍّ سافر على حق المواطن في المعرفة وحق الصحافي في ممارسة دوره المهني والوطني في نقل الحقيقة وتغطية الأحداث. والأخطر من ذلك، أنه يشكل سابقة خطيرة تمس جوهر حرية التعبير، وتؤسس لبيئة من الترهيب والقمع في قطاع غزة، حيث يصبح صوت الحقيقة جريمة وقلم الصحافي مهددا.

ما حدث مع أبوجراد ليس حالة معزولة. فخلال السنوات الماضية، تعرض العشرات من الصحافيين والنشطاء في غزة للاعتقال التعسفي، والاستدعاءات الأمنية، وحتى التعذيب، لمجرد أنهم غطوا احتجاجات أو انتقدوا سياسات حماس. النظام الأمني في غزة، رغم ادعائه تمثيل المقاومة، لكنه في الحقيقة يمارس أبشع أشكال القمع ضد أيّ صوت معارض.

حراك “بدنا نعيش” الذي مُنع أبوجراد من تغطيته لم يأتِ من فراغ. بل هو صرخة مكتومة طال أمدها، انفجرت في وجه واقع اقتصادي واجتماعي لا يطاق. سنوات من الحصار الإسرائيلي، والحروب المتكررة، والانقسام الفلسطيني المزمن، كلها عوامل تضافرت لتجعل حياة الغزيين أشبه بكابوس يومي. البطالة المستشرية، والفقر المدقع، وانقطاع التيار الكهربائي المتواصل، وشح الموارد الأساسية، كلها دفعت بالناس إلى حافة اليأس. وفي مثل هذه الظروف، يصبح دور الصحافة والإعلام أكثر حساسية وأهمية. ويفترض بالصحافي أن يكون شاهدا أمينا على الواقع، وأن ينقل صوت الناس ومعاناتهم إلى الرأي العام وصناع القرار. لكن حين يصبح هذا الصحافي هدفا للتهديد والمنع، فذلك يعني أن هناك محاولة جادة لتكميم الأفواه وإخفاء الحقائق المؤلمة.

حماس، التي تدّعي أنها “حركة تحرر وطني،” تعاملت مع هذه الاحتجاجات بقبضة حديدية. فبدلا من فتح حوار مع المحتجين أو تحمل جزء من المسؤولية، لجأت إلى أساليب الترهيب، من خلال منع التغطية الإعلامية واعتقال النشطاء. وهذا يكشف أن القيادة في غزة، مثلها مثل أيّ سلطة استبدادية، تخشى أكثر ما تخشى “صوت الجائعين”، لأن الجوع قد يكون أقوى من كل خطابات “المقاومة” و”الصمود”.

حماس التي تقدم نفسها للعالم كحركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكنها في الداخل تمارس سياسات لا تختلف كثيرا عن سياسات الأنظمة القمعية. فبينما تندد بالاحتلال وتطالب بحرية الفلسطينيين، تسحق حريات مواطنيها في غزة تحت ذرائع الأمن والوضع الاستثنائي، وهذه الازدواجية ليست جديدة عليها. فخلال الانقسام الفلسطيني عام 2007، ارتكبت حماس انتهاكات كبيرة ضد خصومها، بما في ذلك عمليات تعذيب واغتيالات سياسية. واليوم، يتكرر المشهد مع أيّ صوت معارض، حتى لو كان مجرد صحافي أو أكاديمي يريد نقل معاناة شعبه.

نقابة الصحافيين الفلسطينيين، الممثلة للصحافيين، حمّلت الأجهزة الأمنية في غزة المسؤولية عن سلامة أبوجراد وجميع الصحافيين، وطالبت بوقف التضييق والتهديدات، ودعت المؤسسات الحقوقية والإعلامية للتحرك لحماية الصحافيين وإدانة هذا التعدي السافر على الحريات الإعلامية. لكن الإدانة وحدها لا تكفي في ظل غياب مؤسسات قضائية مستقلة، حيث تظل التهديدات الأمنية سيفا مسلطا على رقاب كل من يجرؤ على كسر الصمت.

إن حرية الصحافة ليست مجرد شعار، بل حق مقدس وأساسي لبناء مجتمع حر وديمقراطي. فتكميم الأفواه وقمع الأصوات الحرة ينذر بخطر كبير على مستقبل المجتمع وقدرته على مواجهة تحدياته. والقضية هنا ليست مجرد حادثة فردية، بل اختبار لمصداقية حركة تدعي النضال من أجل الحرية بينما تسحقها في الداخل. فإذا أرادت حماس أن تثبت اختلافها عن الأنظمة المستبدة، فعليها وقف سياسة التخويف والسماح للصحافيين والأكاديميين بممارسة عملهم بحرية. فحراك “بدنا نعيش” ليس مجرد شعار احتجاجي، بل صرخة شعب أنهكته الحروب والحصار والقمع، وإذا كانت حماس لا تستطيع توفير حياة كريمة لشعبها، فعليها على الأقل أن تترك له حرية الصراخ.

والسؤال المحوري الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: من يحمي صوت المواطن في غزة عندما يصبح الصحافي الذي يحمل هذا الصوت هدفا للتهديد والمنع؟ ففي ظل غياب مؤسسات ديمقراطية فاعلة وسلطة قضائية مستقلة، يصبح الصحافي هو خط الدفاع الأول عن حق المواطن في التعبير. وحين يتم استهدافه، يصبح المواطن أعزل في مواجهة سلطة قد ترى في مطالبته بحقوقه تهديدا وجوديا.

فعلى حركة حماس أن تدرك أن القوة الحقيقية لأيّ سلطة تكمن في قدرتها على الاستماع إلى شعبها وتلبية مطالبه المشروعة، وليس في قمع أصواته وتكميم أفواهه. فالخوف من صوت الجائعين وقلم الحق ليس دليلا على القوة، بل هو مؤشر على الهشاشة وعدم القدرة على مواجهة الحقائق.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية