
حسن عبدالرضي الشيخ
يبدو أن حقبة الإسلام السياسي في السودان تقترب من نهايتها الحتمية، وفقًا لما أظهرته التسريبات الأخيرة لاجتماع قيادات الحركة الإسلامية السودانية في تركيا. فبين مناقشتهم إفشال المبادرات السياسية التي قد تؤدي إلى حل سلمي، ومحاولاتهم لاستلهام تجارب فاشلة كطالبان والحوثيين، يتضح جليًا أن رهانهم على العودة إلى الحكم قد أصبح مقامرة خاسرة في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية.
ثمة أسباب حتمية ستؤدي إلى سقوط مشروع الإسلام السياسي في السودان، منها انهيار التحالفات الخارجية التي لطالما اعتمد عليها الإسلاميون السودانيون. فقد كانوا يراهنون على شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية لضمان بقائهم في السلطة، لكن هذه الشبكة تتهاوى بسرعة. أصبح الاعتماد على إيران كمصدر دعم استراتيجي عبئًا أكثر منه مكسبًا، حيث تواجه طهران ضغطًا غير مسبوق على أكثر من جبهة، بدءًا من غزة ولبنان وصولًا إلى اليمن وسوريا. وأي محاولة لنقل النموذج الحوثي إلى السودان ستجلب على الكيزان كارثة، خاصة في ظل التصعيد الإسرائيلي الأمريكي تجاه إيران وأذرعها.
كما أن فشل محاولات مقارنة السودان بأفغانستان أو اليمن يكشف عن سوء تقدير الإسلاميين للواقع. فقد نجحت طالبان في السيطرة على أفغانستان بفضل الانسحاب الأمريكي وليس بسبب إستراتيجية فعالة، لكنها تواجه أزمات داخلية وخارجية تهدد استقرارها. أما الحوثيون، فهم مجرد أداة إيرانية يجري استنزافها عسكريًا واقتصاديًا، ولا يمكن محاكاة تجربتهم في السودان. فالسودان، بتنوعه الإثني والثقافي، غير مهيأ ليكون ساحة لحروب أيديولوجية عبثية.
تراجع دور الحلفاء كان أحد النقاط المثيرة في التسريب، إذ أن قلق الإسلاميين من الرعاية الإقليمية لمنبر المنامة يعد اعترافًا ضمنيًا بأن الحلفاء لعبوا دورًا حاسمًا في تحجيم نفوذهم خلال الحرب الأخيرة. إلا أن تخوفهم من تراجع هذا الدور لصالح إيران يعكس سوء تقديرهم لطبيعة العلاقات الدولية، حيث من المستبعد أن تتخلى دول الإقليم عن نفوذها في السودان لصالح طهران، لا سيما مع التهديدات الأمنية المباشرة التي تشكلها الجماعات الإسلامية المسلحة على أمن المنطقة.
أما الأزمة الاقتصادية والإفلاس السياسي، فلا يمكن لأي مشروع سياسي أن يستمر دونهما. وقد كشف التسريب عن خلافات داخل الحركة الإسلامية نفسها بشأن التمويل، حيث تذمر بعض القيادات من تخاذل رجال الأعمال الإسلاميين عن تقديم الدعم. هذه الأزمة المالية مؤشر واضح على تراجع قدرة التنظيم على إعادة إنتاج نفسه، خاصة في ظل عزلة السودان الاقتصادية والسياسية.
دعونا ننظر إلى ما بعد الإسلام السياسي، فهل من حلول ممكنة؟ ومع تسارع وتيرة سقوط “حكومة بورتوكيزان”، يصبح من الضروري التفكير في سيناريوهات السودان بعد الإسلاميين. إنها مرحلة تتطلب حلولًا سياسية واقتصادية وأمنية متكاملة، تتمثل في تأسيس نظام ديمقراطي تعددي، يجب أن تكون مرحلته القادمة مبنية على التوافق الوطني وليس على إقصاء طرف لصالح آخر. فالرهان على الانتقام السياسي قد يعيد إنتاج الأزمات بدلًا من حلها. المطلوب هو دستور جديد يكرّس فصل الدين عن الدولة، ويضمن العدالة الانتقالية والمحاسبة دون الوقوع في فخ تصفية الحسابات السياسية.
كما أن إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية في السودان بحاجة إلى جيش وطني محترف، وليس إلى مليشيات متناحرة تخضع لأجندات أيديولوجية أو إقليمية. يجب إعادة هيكلة القوات المسلحة بحيث تصبح مؤسسة قومية، مع إنهاء نفوذ الإسلاميين داخلها، وتجريم أي تدخل عسكري في الشأن السياسي.
ولا يمكن بناء سودان جديد دون محاسبة من تسببوا في الدمار والفساد. ولكن العدالة يجب أن تكون شاملة وغير انتقائية، بحيث تشمل كل من تورط في جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، بغض النظر عن انتمائه السياسي. كما أنه من الضروري الاهتمام بالتنمية الاقتصادية وتحقيق الاستقلالية عن المحاور. يجب أن تتوجه السياسة السودانية نحو بناء اقتصاد مستقل، بعيدًا عن الارتهان للدعم الخارجي. السودان يملك موارد هائلة تؤهله لأن يكون دولة ذات سيادة اقتصادية، إذا تم استثمارها بالشكل الصحيح بعيدًا عن الفساد والمحسوبية.
في ختام المقال، أود أن أؤكد لمن يحتاج إلى تأكيد أن التسريبات الأخيرة تكشف حالة الفوضى والتخبط التي يعيشها الإسلاميون في السودان. ومع تراجع دعمهم الإقليمي، وانهيار تحالفاتهم الداخلية، باتت نهايتهم وشيكة. ولكن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في إسقاطهم، بل في بناء دولة مدنية حديثة، تضمن الحريات والعدالة، وتجنب السودان دوامة الفوضى والصراعات.
الراكوبة