
فتحي أحمد
“سلاما لأراضٍ خُلقت للسلام وما رأت يوما سلاما” (محمود درويش)
لا شيء يمكن أن يقال عن غزة، وعن فلسطين، سوى الدم الذي سُفك هناك، والأشلاء التي تناثرت على الأرصفة. لا شيء يمكن أن يقال.. صور جثامين الأطفال تقول كل شيء. ألعاب الأطفال الباكية بين الركام الشاهدة على المآسي، تقول كل شيء.
هذا ما جرى في غزة خلال سنة ونصف السنة. وقد كان جهلا أو تجاهلا للغطرسة الإسرائيلية ولإملاءات التحالف الحاكم في إسرائيل ومقتضيات نظرته للاستيطان في غزة وما حولها. أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقد “أتى ليكحّلها فعماها”، قائلا “إن غزة لا يصلح العيش فيها للآدميين وإن إسرائيل سوف تسلّمه غزة.”
التاريخ يعيد نفسه، فعندما بعث ماركس نوردو، نائب هرتزل، وفدا لفلسطين لتقصي الحقائق والوقوف على حقيقة أن فلسطين أرض بلا شعب، جاء الرد مُزلزلا “العروس جميلة جدا، وهي مستوفية لجميع الشروط، لكنها متزوجة فعلا.”
منذ أن تأمل ترامب غزة على الخارطة سال لعابه عليها وقال عنها غزلا “جميلة جدا ومناخها معتدل.” ولعلها الحالة الأوضح من حالات الاستهزاء بشعوب المنطقة، وهذا يدلل على أطماعه في غزة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكأن غزة مدينة أو ولاية أميركية. على أن لهذه المسألة وجها آخر. في لقائه مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو قال: يجب ألا تقام في قطاع غزة مستوطنات إسرائيلية.
إذا، مشروع ترامب في غزة هو امتلاكها لتصبح مقاطعة أميركية. وهذا فعلا ما نطق به “سنتولى السيطرة على غزة وستكون لنا ملكية طويلة الأمد هناك ويجب إخراج الفلسطينيين من القطاع”!
ربما يود ساكن البيت الأبيض جعل غزة سنغافورة الثانية بحيث يستثمر فيها ويشيد المنتجعات ومدنا صغيرة تكون قبلة لساكني المعمورة من أجل التنزه، فضلا عن الغاز، الكنز المدفون في البحر الأبيض المتوسط على مقربة من شواطئ غزة.
لتأصيل الفكرة لدى القارئ، منذ أن تولى ترامب ولايته الثانية حدد برنامجه المشبع بالاقتصاد. لم يكن هذا النهج وليد الصدفة، يريد بأن تصبح كندا ولاية أميركية، وهدّد بنما باحتلالها، كما يصبو لشراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك، ويصر على تهجير الغزيين لمصر والأردن.
مشاريع كثيرة في مخيلة ترامب يطمع أن يحققها في غضون أربع سنوات. هذا الجنون والاندفاع نحو السيطرة على العالم بالقوة والتهديد يسمى في علم النفس سلوكا غير سوي. وكان من ضمن قراراته فرض عقوبات على محكمة العدل الدولية.. والحبل على الجرار.
أما على صعيد مشروعه في قطاع غزة فسوف يصطدم حتما بصخرة صمود المواطن الغزي المتشبث بأرضه، وهذا ليس تحليلا وإنما واقع. كانت هناك قبل ذلك محاولات كثيرة لتهجير سكان القطاع، ومنها مخطط ترحيلهم عام 1956 لكنه فشل. وجرت بعدها محاولات كثيرة أفشلها الشعب الفلسطيني بصموده. واليوم يروم رئيس الولايات المتحدة احتلال غزة جشعا وطمعا في موقعها الإستراتيجي وخيراتها الدفينة في البحر.
غير مستبعد أن يبقى ترامب في هذه الحالة التي عهدناه فيها في ولايته الأولى، مغامرا لا يحسب للبشرية حسابا، يعتبر نفسه من العنصر الأبيض المتفوق على باقي شعوب الأرض. فهذا من جملة الدوافع التي تشكل شخصيته السياسية.
وعليه، يجب التذكير في هذا المقام أن مشاريع ترامب كثيرة وطموحاته تبلغ عنان السماء؛ صائم يشتهي كل الأطعمة وفي ساعة الإفطار لا يأكل إلا القليل والقليل جدا. هذا أدق وصف لسياسة الرئيس الجديد القديم للولايات المتحدة.
هل ثمة ما يشي بأن السلام الذي ينشده ترامب في الشرق الأوسط كامل الأوصاف؟ هو باختصار السلام من خلال القوة. تلك العقيدة التي أطلقها ترامب أصبحت محور النقاشات الإقليمية والعالمية حول الصراع في الشرق الأوسط، من وقف إطلاق النار في غزة إلى التعامل مع الملف النووي الإيراني، التي تمحورت في اللقاء الذي جمع بين ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
كان لزاما التذكير بما صرح به المستشار السابق في الخارجية السعودية، سالم اليامي، أن القوة ليست الوسيلة الوحيدة لتحقيق السلام، مشيرا إلى أن السلام الحقيقي يأتي عبر التفاهم والاعتراف المتبادل بالفوائد التي يعود بها السلام على الأطراف المعنية.
والحال أن ما يُخشى منه هو انفراط الصفقة وعودة القتال مجددا بعد انتهاء الجولة الأولى. هناك شروط ينوي نتنياهو وضعها، ورغم أنه لم يُفصح عنها حتى هذه اللحظة لكنها لا تخدم استمرارية تنفيذ الصفقة من ألفها إلى يائها. وهذا ليس غريبا عن المفاوض الإسرائيلي، فوضع العصيّ في الدواليب ديدنهم.
يمكن بطبيعة الحال التشكيك في صدق تصريحات ترامب وعمقها عن مشروع السلام في الشرق الأوسط، فأطماعه في غزة سبيل لتخريب الصفقة وإفشال جهوده في إحلال السلام. ليس هناك ما يطمئن، ترامب ونتنياهو يلتقيان في نقطة واحدة وهي سلام لا يلبّي طموح الشعب الفلسطيني، وتفريغ غزة من سكانها ينسف عملية السلام برمتها.
العرب