
لا تزال إيران تتلمّس موضع قدميها في لحظة تاريخيّة فارقة؛ فالشُّكوك تحيطُ بكلّ شيء تقريباً بعدَ دُخول الرئيس دونالد ترمب؛ ضابط الإيقاع الجديد في المشهد الدولي، رسميّاً إلى البيت الأبيض. ظلالُ الرجل ثقيلةٌ جدّاً على طهران التي تعاني جرحاً عميقاً في نظام الرّدع، وتهافُتاً دراماتيكيّاً لأوراقها الإقليمية، في وقتٍ يزداد حديث الأوساط الإيرانية حول موضوع الانتقال السيادي، وخلافة القائد الأعلى علي خامنئي، وسطَ مخاوف حقيقيّة من دخول البلاد في حقبة مظلمة من الصّراع على السلطة في حال لم ينجح هذا الانتقال. على المستوى الاقتصادي أيضاً، تبدو الأمور مُثيرةً للقلق، ولا يُخفي المسؤولون الإيرانيون مخاوفَهم من أنّ استعادة التوازن بين الطّلب والإنتاج باتَ يقتربُ من نقطة اللاعودة.
إن موقع إيران المفصلي في التّنافس بين الشرق والغرب، والتنافسُ الأمريكي - الصيني، يضعان طهران في نقطة حَرِجة بين فرصٍ كُبرى، وتحدّياتٍ أكبر. صحيحٌ أنّ السياسة الخارجية الإيرانية تميلُ جوهرياً إلى الكُتلة الشرقيّة، لكنّ إيران في بُنيتِها الاجتماعيّة، ونظامها الاقتصادي، واتجاهاتها الثقافيّة العميقة، غَرْبيّة الهَوى والمَيْل. فضْلاً عن أنّ إيران لم تجِدْ في رحلتها إلى الشرق خلال السنوات الأخيرة، أيّةَ إجاباتٍ شافيةٍ على أسئلتها الأساسية في التنمية، والنُّهوض، وبناء القوة.
اختلال نظام الردع الإيراني
لا يُخفي الاستراتيجيون في طهران هواجسَهم حيال موضوع "الممرّات" التجاريّة الكبرى؛ الإقليمية والدولية. ويعتقدُ كثيرٌ منهم أنّ إيران التاريخ والجغرافيا، يجري عزلُها، وتغييبُها عن مسار هذه الممرّات. تنظر طهران إلى الملفّ الجيواقتصادي بمناظير أمنيّة؛ تراها مشاريعَ يرادُ منها تطويقَ إيران، والنيلَ من أَمنِها القوميّ، ومكانتِها الإقليميّة. البديلُ الإيرانيُّ المُقترَح هو ممرُّ الشّمال - الجنوب الذي تتشاركُه طهران مع روسيا، والهند. لكنّ الأخيرة ما عادت تُعيره كثيراً من الانتباه، فالحرب الروسية ضد أوكرانيا، والعقوبات على موسكو وطهران أتت على فرص نجاح المشروع. والغربُ بدوره، باتَ ينظرُ إلى طهران بمناظير مختلفة؛ فالمسألة الإيرانية ما عادت تحدِّياً ثانويّاً في القاموس الأمني الأوروبي بعدَ أن وجدت مُسيرات طهران وصواريخها طريقها إلى يد الخصم الاستراتيجي لأوروبا.
تتقاطعُ تلك المسارات مع مواجهةٍ ميدانيّةٍ واستراتيجية مُضنِيةٍ بين إيران وإسرائيل. وأدّت هذه المواجهة -حتى الآن- إلى تغيير جوهري في الرؤية الغربية، وحتى الإقليمية حيال المسألة الإيرانية، تبعه انهيارٌ واضحٌ في البُنية الإقليمية للنفوذ الإيراني؛ انهيارٌ شمل الهياكل الأساسية لمشروع الهيمنة الإقليمية المُستنِد إلى "اللاعبين دون الدولة". لقد خرجت ورقة الميليشيات عن الخدمة بعد أن كانت لبنة أساسية في نظرية الردع الإيرانية.
يُثيرُ اختلالُ نظام الرّدع الإيراني مخاوفَ إقليميّة ودوليّة، من احتمال إقدام طهران على خطوةٍ خارج السقف، لإعادة ترميمه. تحتاج طهران فعلاً إلى إعادة تعريف نظريّتها الخاصة للأمن القومي، لكنّ الحديث في طهران يجري عن إعادة تقييم العقيدة النووية. ومن الصعب جداً، تخيُّل إقدام طهران على مثل هذه الخطوة، من دون حدوث ردّ فعل عسكري قوي، من جانب إسرائيل والولايات المتحدة.
ضغوط ومفاوضات.. وخطوط حُمْر
بالعودة إلى القادِم الجديد إلى البيت الأبيض، قد لا يتعيّن علينا الانتظار طويلاً لمعرفة التوجُّهات حيال المسألة الإيرانية؛ فالملف يحتلُّ موقعاً مُهمّاً على طاولة القرار الأمريكي. ولا أحد يشكّ في أنّ لهجة الخطاب الأمريكي الجديد ستكون قويّة وحاسمة، وضمن سقفٍ لا يقلُّ عن حملة "الضغوط القصوى" السابقة. لكنّ الجميع يعرفون أيضاً بأنّ الحوار مع الجانب الإيراني، يظلّ الآليّة المفضلة لدى الجانب الأمريكي والأطراف الغربية لتذويب الثلوج، وحلحلة المشكلات. خطّان أحمران لا بدّ لطهران من عدم تجاوزهما ليبقى خيار المفاوضات قائماً بحسب ما يتردّد على ألسنة رموز الإدارة الجديدة؛ محاولة تجاوز العتبة النووية، ومحاولة استهداف المصالح الاستراتيجية الأمريكية والغربية في المنطقة، والتي تشمل الأمن الوجودي لإسرائيل، وأمن الطاقة.
الأمور ليست بهذه الدرجة من الوضوح على الجانب الإيراني؛ فعلى الرغم من وجود حكومة اعتدال في طهران، لكنّ هيمنة الحرس الثوري على الملفات الخلافية: الملف النووي، وبرامج التسلح، ومشروع "الهيمنة" الإقليمية، وملف العلاقات العسكرية مع روسيا، تعيقُ فرص التوصُّل إلى تسويات عمليّة.
يعدُّ الملف النووي مفترق طرق لجميع الملفات الأخرى، وسيكون أهم محور للسياسة الخارجية الإيرانية في العام الجديد، وأهم منطلق للتعامل الدولي مع الملف الإيراني برغم سخونة ملف الميليشيات؛ إذْ يُمكن أن يكون هذا الملف مدخل إيران إلى نعيم الانفتاح على المجتمع الدولي، أو بوابتها نحو جحيم العقوبات، وربما مواجهة ما هو أخطر من العقوبات.
في أكتوبر المقبل، سينقضي أجلُ الاتفاق النووي لعام 2025، والذي تحوّل إلى حبرٍ على ورق، بعد انسحاب واشنطن منه في عام 2018، ثم تجاوزته إيران باتّخاذها عدة خطوات تصعيدية نووية. وبانقضاء الأجل، ستُرفَع العقوبات الدولية عن إيران نهائيّاً، ليكون البرنامج النووي الإيراني بعدها خارج أروقة "مجلس الأمن"، وحينها سوف تتطلب إعادته إلى المجلس، وفرض أية عقوبات جديدة، موافقة القوى الخمس دائمة العضوية التي تمتلك حق "الفيتو". هذا إذا لم تتحرك القوى الغربية المشاركة في الاتفاق قبل فوات الأوان.
ووعياً بهذه التّبعات، بدأت الأطراف الأوروبية المشاركة في الاتفاق الثلاثي الأوروبي جهوداً حثيثة في الربع الأخير من العام الماضي لتطبيق "آلية الزناد" التي يتضمنها الاتفاق، والتي تقضي بإعادة العقوبات الدولية على إيران - في حال نقضها الالتزامات - من دون المرور بمقصلة "الفيتو". وحضر مديرُ الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي إلى طهران، مُحذراً: "أنا بعيد كل البعد عن أن أكون قادراً على إخبار المجتمع الدولي بما يحدث، أنا في موقف صعب للغاية، لذا فالأمر أشبه بأن عليهم (إيران) مساعدتنا، لمساعدتهم". أما الأمريكيون فتُنذِر عودة الرئيس ترامب وصقوره المتشددين إلى البيت الأبيض، بإحياء سياسة "أقصى الضغوط". وهناك إشاراتٍ متزايدةٍ إلى إمكانيّة استخدام "الخيار العسكريّ" أيضاً، في مواجهة التقدُّم الحاصل في البرنامج النووي الإيراني.
وتُجمِعُ القوى الغربية وشركاؤها الإقليميون على ضرورة أنْ تتّسم المفاوضات مع إيران بالشموليّة، وأن تتجاوز حدود الملفّ النووي، لتتضمن ملفات مثل البرنامج العسكري، والمشروع الإقليمي الإيراني. ومع أن هذا الخلاف يبدو عقبة أساسيّة، لكن التطوّرات الميدانية الراهنة قلّلت من أهميته، ونقصد هنا الضربات التي وجّهتها أمريكا، وإسرائيل، ضدّ أجزاء من "محور المقاومة"، والتي حدّت من فعاليّة المشروع الإقليمي الإيراني، وأخرجته من كونه موضوعاً مُلحّاً، يجب ربط مصير المفاوضات به. وتسعى واشنطن إلى تطبيق ذات النهج على البرنامج الصاروخي الإيراني؛ إذْ تُحاول إخراجه من منطقة الخطر الوشيك، عبر تسليح الشركاء بدفاعاتٍ جوّية فعّالة في مواجهة الخطر الصاروخي الإيراني.
على الجانب الإيراني، يرغبُ الجميعُ بإطلاقِ مسارٍ سريعٍ للمفاوضات النوويّة، بما في ذلك المتشددون والمعتدلون، غيرَ أنّ اتّساع الهوّة بين إيران والغرب، نتيجةً للمكتسبات النووية الإيرانية المُستجدّة بعد عام 2018، عقَّد مسار التوصل إلى اتفاق جديد؛ فالغرب يريدُ إعادة المشروع النووي الإيراني إلى "نقطة الصفر" التي انطلق منها اتفاق 2015، والتي تعني القضاء على كلّ ما حققته إيران نتيجة الخطوات التصعيدية الخمس، بهدف توسيع الفاصل الزمني الذي يُبعِدُ طهران عن إنتاج الأسلحة النوويّة، من حوالي أسبوع واحدٍ وفق التقديرات الراهنة، إلى أكثر من عام وفق رؤية الاتفاق النووي. لكنّ الجانب الإيراني يريدُ اعترافاً من المجتمع الدولي بأنه صار دولة على "العتبة النووية"، ويعرضُ في المقابل، ضماناتٍ بالمكوث عند هذا الحدِّ، ويتوقّعُ الحصول بعد ذلك على امتيازات اقتصادية، تُضاهي تلك التي حصل عليها بموجب اتفاق 2015. وثمة خلافات تقنية وإجرائية أخرى، أقل أهمية.
بين التصعيد والتوافق
ومن المرجح أنْ تشهد الأشهر القليلة المقبلة "نيراناً تمهيدية" مقرونة بـ "بدائل ورسائل إيجابية" من مختلف الأطراف، كأن تبدأ إدارة ترمب عهدها بحزمة من العقوبات، مشيرةً إلى بداية عهد "أقصى الضغوط"، وقد تلوّح بشن هجمات عسكرية، كما سيتخذ الثلاثي الأوروبي خطوات عملية لتفعيل "آلية الزناد" للتلويح بإعادة العقوبات الدولية، في حين ستواصل إسرائيل تهديداتها بضرب المنشآت النووية الإيرانية. لكنْ المرجح أنّ تلك الخطوات التصعيدية، ليست إلّا حزاما ناريّاً لردع الجانب الإيراني، ومن وراءها ستجري مبادرات إيجابية تهدفُ لجمع الأطراف حول طاولة "مفاوضات صعبة تقف أمام تحدٍّ زمنيٍّ لافتٍ" بحيث يجب أن تنتهي قبل منتصف العام الجديد الذي يمكن اعتباره "نقطة النهاية الأولية" (Earliest deadline first) للجهود الدبلوماسية لفض الخلافات بشأن النووي الإيراني.
لم تشمل الأوامر التنفيذية للرئيس ترامب حتى الآن المسألة الإيرانية، بل إن بعضها جاء لصالح إيران، مثل قرار وقف المساعدات الأمريكية لقوى المعارضة الإيرانية (والذي أتى ضمن قرار أشمل عُلِّقَت بموجبه جميع المساعدات الخارجية الأمريكية لمدة 90 يوماً). وامتنعت واشنطن مؤخراً عن إدانة سجل إيران في مجال حقوق الإنسان في خلال الدورة الثامنة والأربعين للاستعراض الدوري الشامل لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف. إنَّه موقفٌ لافتٌ وغير مسبوق، لكنّه قد لا يكون مستهجناً من إدارة براغماتية لا تضع حقوق الإنسان على رأس أولوياتها، وعينها على طاولة المفاوضات مع طهران.
إنها خطوات ورسائل إيجابية تجاه طهران، لكنها لا ينبغي أن تُفهَم خطأً؛ فعدم التوصل إلى توافق قبل بدء النصف الثاني من العام، سيضع طهران أمام احتمالات جدّية للغاية لتوجيه ضربة عسكرية إلى منشآتها النووية، كما يضع العالم أمام احتمالات جدّية لقيام إيران بإنتاج القنبلة. ولعلّ المخرج الأقل كلفة بالنسبة لمختلف الأطراف، هو أن تشهد نهاية النصف الأول من العام الجاري توافقاً مبدئيّاً، يُجمّد الخلافات، ويُمدّد مفاعيل اتفاق عام 2015، على أمل التوصل لاحقاً إلى اتفاق جديد أكثر شموليّة.
مركز الإمارات للسياسات