
كشفت وثائق سرية نشرها موقع (نورديك مونيتور) عن تفاصيل دقيقة حول نشاط أحد ممولي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في تركيا، وارتباطه الوثيق بتسهيل عمليات التنظيم داخل البلاد وخارجها، وتضمنت الوثائق التي نشر عنها (المركز العربي لدراسات التطرف) تقريراً تفصيلياً قبل أيام معلومات عن تحول هذا القيادي في التنظيم من لاجئ عراقي إلى مواطن تركي يحمل الجنسية، مستغلاً الثغرات في النظام القانوني التركي، كما أظهرت الوثائق كيف استغل تنظيم (داعش) البنية التحتية داخل تركيا لدعم عملياته الإرهابية، ممّا يثير التساؤلات حول دور السلطات التركية وتواطؤها المحتمل.
وسام البرزنجي: رحلة صعود غامضة
الشخصية المحورية التي سلطت الوثائق الضوء عليها هو وسام حكمت أحمد فائق البرزنجي، مواطن عراقي عمل لفترة طويلة كوسيط ومدير مالي للتنظيم الإرهابي، وقد دخل البرزنجي تركيا لأول مرة كلاجئ، مسجلاً برقم هوية وطنية أجنبية، قبل أن يحصل لاحقاً على الجنسية التركية ويُعرف باسم أوموت البرزنجي، وتُظهر الوثائق أنّ عملية حصوله على الجنسية لم تكن عادية؛ إذ تتطلب عادةً مثل هذه الإجراءات فحصاً دقيقاً من المخابرات التركية والموافقة الرئاسية، لكن يبدو أنّ البرزنجي حصل على دعم من شخصيات بارزة في الحكومة التركية، ممّا مكنه من تجاوز أيّ عقبات أو علامات استفهام أمنية قد تكون ظهرت أثناء مراجعة طلبه، بحسب ما جاء في التقرير.
بعد حصوله على الجنسية التركية أسس البرزنجي شركة لتأجير السيارات تحت اسم "بلاتينيوم لتأجير السيارات المحدودة"، التي أُنشئت في منطقة أفجيلار بإسطنبول عام 2019، ووفقاً للوثائق، لم تكن هذه الشركة مجرد مشروع تجاري عادي، بل واجهة لتسهيل حركة مقاتلي (داعش) داخل تركيا وخارجها، كما لعبت الشركة دوراً حيوياً في توفير الدعم اللوجستي لأنشطة التنظيم الإرهابية والتهريب عبر الحدود.
بنية لوجستية متطورة لداعش في تركيا
تُظهر الوثائق أنّ البرزنجي لم يكن يعمل بمفرده، بل كان جزءاً من شبكة معقدة تديرها قيادات داعشية داخل تركيا، أبرزهم كان "أبو نور"، شخصية بارزة في التنظيم يُعرف باستخدامه العديد من الأسماء المستعارة، بما في ذلك رشيد حسبوند ومحسن ماتوريان، وقد تمكن "أبو نور" من تسجيل هذه الهويات المزورة كلاجئ في تركيا، ممّا سمح له بالحصول على وثائق هوية تركية تحت كل اسم، وهذا الخداع سهّل عليه التحرك بحرية داخل تركيا والسفر إلى الخارج دون رصد.
وبحسب الوثائق، امتلك "أبو نور" شبكة من البيوت الآمنة في إسطنبول، كانت تُستخدم لإيواء مقاتلي داعش وأفراد عائلاتهم الذين تم تهريبهم من سوريا والعراق، كما كان "أبو نور" يتلقى أموالاً من قيادة التنظيم في سوريا والعراق لتمويل هذه العمليات، والأموال كانت تُستخدم أيضاً لتغطية نفقات السفر والمعيشة لعناصر التنظيم في تركيا، ولتوفير الوثائق المزورة اللازمة لتنقلهم إلى دول أوروبية، مثل اليونان، حيث تواصل "أبو نور" مع وسيط كنيته "أبو وحيد" لشراء وثائق سفر مزورة.
تهريب عائلات داعش من سوريا إلى تركيا
إلى جانب العمليات اللوجستية لتنظيم (داعش)، كشفت الوثائق عن دور الشبكة في تهريب نساء وأطفال التنظيم من مخيمات الاحتجاز السورية، مثل الهول وروج، هذه المخيمات التي تُديرها قوات سوريا الديمقراطية كانت هدفاً لعمليات تهريب مستمرة بتمويل من التنظيم، كما أنّ مخيم الهول، الذي تأسس عام 2016 لإيواء النازحين من مناطق سيطرة تنظيم (داعش)، بات معقلاً إيديولوجياً للتنظيم، حيث تُفرض فيه قوانين الشريعة المتشددة. وتشير الوثائق إلى أنّ "أبا نور" كان يدفع رشاوى لقوات سوريا الديمقراطية لتسهيل إطلاق سراح عائلات داعش ونقلهم إلى تركيا عبر العراق.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك كان تهريب عضوة تنظيم (داعش) الإيرانية فيان سليمان صبور وابنتها هيلي سالم من مخيم الهول إلى منطقة السليمانية في العراق، ثم إلى تركيا، هذه العمليات تُظهر التنسيق العالي بين خلايا داعش داخل سوريا وتركيا، ومدى استغلالهم للثغرات الأمنية لتحقيق أهدافهم.
هجوم كنيسة سانتا ماريا: نموذج للعمليات الإرهابية
لم تقتصر أنشطة تنظيم (داعش) في تركيا على الدعم اللوجستي، بل تضمنت أيضاً التخطيط لعمليات إرهابية وتنفيذها، في كانون الثاني (يناير) 2024 نفذ التنظيم هجوماً على كنيسة سانتا ماريا في منطقة ساريير بإسطنبول، ممّا أسفر عن مقتل شخص واحد. وتشير الوثائق إلى أنّ الهجوم جاء بعد استطلاع مكثف قاده مجبل الشويخي، أحد عناصر داعش، وقد دفع له "أبو نور" (2000) دولار لإجراء هذه المهمة، ولم يكن اختيار كنيسة سانتا ماريا عشوائياً، بل جاء بناءً على موقعها الاستراتيجي الذي يسهل الهروب بعد تنفيذ الهجوم، وكشفت التحقيقات أنّ تنظيم (داعش) كان يخطط لهجمات أخرى في إسطنبول قبل أن يستقر على هذه الكنيسة كهدف أوّلي.
تواطؤ السلطات التركية: سياسة الباب الدوار
الوثائق تسلط الضوء على تساهل السلطات التركية مع شبكات تنظيم (داعش)، ممّا أثار انتقادات دولية واسعة، ورغم الهجمات المتكررة التي استهدفت تركيا تظل استجابة الحكومة غير كافية، مع اعتماد سياسة تُعرف بـ "الباب الدوار"، حيث يُطلق سراح العديد من المشتبه بهم بعد فترات احتجاز قصيرة. هذا النهج يعكس إمّا تهاوناً من السلطات، وإمّا تعاطفاً ضمنياً مع التنظيم. وأكثر ما يثير القلق هو أنّ تركيا، تحت حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، أصبحت مركزاً لوجستياً رئيسياً لتنظيم (داعش) والجماعات الجهادية الأخرى، وتشير تقارير أممية وأخرى من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي إلى أنّ التنظيم استغل تركيا كقاعدة لنقل المقاتلين، وجمع الأموال، وتنفيذ العمليات الإرهابية.
التسهيلات التي يحصل عليها تنظيم (داعش) داخل تركيا لا تقتصر تداعياتها على الأمن الداخلي التركي، بل تمتد لتشمل الأمن الإقليمي والدولي، كما أنّ استخدام تركيا منصة انطلاق لمقاتلي التنظيم إلى أوروبا يهدد دول الاتحاد الأوروبي، ويزيد من الضغوط على السلطات الأوروبية لتعزيز الأمن على حدودها.
في ظل هذه التهديدات يُعدّ التدخل الدولي ضرورة ملحة للضغط على الحكومة التركية لتغيير سياستها تجاه التنظيمات الإرهابية. ويجب أن يشمل هذا التدخل فرض عقوبات على المسؤولين المتورطين في دعم هذه الشبكات، وتعزيز التعاون الأمني بين الدول لمواجهة التهديد المتزايد.
وعموماً تكشف الوثائق عن استغلال تنظيم (داعش) للبيئة السياسية والأمنية في تركيا لتعزيز نفوذه وتوسيع عملياته، من خلال شبكات معقدة يقودها أشخاص مثل "وسام البرزنجي وأبو نور"، تمكن التنظيم من إنشاء بنية تحتية قوية داخل البلاد، و يُثير التهاون الحكومي الواضح مع هذه الأنشطة تساؤلات حول مدى تورط السلطات أو عجزها عن التصدي للتنظيم، ويتطلب هذا الوضع تحركاً دولياً عاجلاً لضمان عدم تحول تركيا إلى مركز دائم لأنشطة تنظيم (داعش) الإرهابية، وحماية الأمن الإقليمي والدولي من مخاطر هذه الشبكات.