
لم تتوقف نيران الحرب الضارية عند الأحياء من السودانيين الأقباط، فقد طالت الأموات منهم، عندما أقدم جنود على اقتحام كنائس في العاصمة الخرطوم ونبش قبور الموتى بحثاً عن الذهب، وهو ما يجسّد نوعاً مختلفاً من الانتهاكات التي تعرّض لها هذا المكون الاجتماعي، ممّا دفعهم إلى فرار قسري من البلاد للمرة الرابعة في تاريخهم الحديث، وسط تساؤلات بشأن إمكانية عودتهم إلى ديارهم مجدداً.
ووفق تقرير نشرته شبكة (عاين)، فقد بدأت الانتهاكات في حق الأقباط باحتجاز عدد من رجال الدين، ومن ثم اقتحام دور العبادة "الكنائس" في الخرطوم وأم درمان، كما اسْتُهْدِفُوا على أساس المعتقد، وفق ما وثقه الجناة بمقاطع مصورة بثت على منصات التواصل الاجتماعي.
وحول الانتهاكات بحق مكوّن السودانيين الأقباط، أفادت المحامية والناشطة في قضايا حرية الدين والمعتقد بابل إسحق لـ (عاين)، أنّ "الاحتجاز الذي تعرّض له عدد كبير من الأقباط في المنازل والكنائس بعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف نيسان (أبريل) من العام الماضي، أثر سلباً على الوضع النفسي لهم، قبل أن تتدخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وتجليهم".
وتشير بابل إلى أنّ الأقباط مجموعة مؤثرة في المجتمع السوداني، وقد أسهمت في تعزيز التنوع لتميزهم بالسلام الاجتماعي وقبول الآخر، وما تعرضوا له مماثل لما عانته المكونات السودانية الأخرى، التي واجهت التهجير القسري ونهب الممتلكات الخاصة والعامة، والاعتداءات الجسدية واللفظية، وتدمير دور العبادة وغيرها من الانتهاكات.
إسحق: إنّ الاحتجاز الذي تعرّض له عدد كبير من الأقباط في المنازل والكنائس بعد اندلاع الحرب، أثر سلباً على الوضع النفسي لهم، قبل أن تجليهم لجنة الصليب الأحمر.
وترى الحقوقية بابل إسحق أنّ عودة الأقباط إلى السودان مجدداً مرهون بتوقف الحرب ووحدة البلاد بعدها، نظراً لارتباطهم بالأرض والتاريخ والثقافة والوطن، فالنظام السياسي الذي يحكم السودان عقب القتال الحالي ينبغي أن يراعي قضايا الأقليات الدينية وإنصافها، وأن تقف الدولة على مسافة واحدة من كل الأديان.
وتوقعت إسحق التي تحدثت لـ (عاين) أن تشهد فترة ما بعد الحرب تغييرات كبيرة في أوضاع عامة المسيحيين في السودان.
من جهته قال الخبير القانوني نبيل أديب: إنّ "أغلب منسوبي طائفة الأقباط اضطروا للّجوء إلى خارج البلاد، وهو واقع مماثل لما عاشه عامة السودانيين الذين فروا من ديارهم هرباً من الحرب."
وشدد أديب على أنّ "الأقباط أصبحوا يشكلون طائفة سودانية معروفة في المدن الكبيرة في شمال وغرب السودان، وفي العاصمة المثلثة على وجه الخصوص، وساهموا في الحركة الوطنية، وفي الحركة السياسية السودانية".
ويبلغ عدد الأقباط في السودان نحو المليون ونصف المليون نسمة، وهم ينتشرون في أنحاء متفرقة من البلاد خاصة عواصم الولايات، وأكبر تجمع لهم في مدينة عطبرة بولاية نهر النيل شمالي البلاد، وأم درمان.
ويرى القانوني نبيل أديب، الذي ينتمي إلى الطائفة القبطية، أنّ عودة السودانيين بمختلف مكوناتهم، بما فيهم الأقباط، إلى ديارهم مرهونة بتوقف الحرب التي ما تزال تشهد غموضاً، ومدى قدرتهم ونجاحهم أو فشلهم في خلق بدائل للعيش والاستقرار في المناطق التي لجؤوا إليها، لافتاً إلى أنّه مع استمرار أمد القتال حاول الفارون إيجاد أعمال تمكنهم من العيش في البلدان التي وصلوا إليها، خاصة مصر.
أديب: أغلب منسوبي طائفة الأقباط اضطروا للّجوء إلى خارج البلاد، وهو واقع مماثل لما عاشه عامّة السودانيين الذين فروا من ديارهم هرباً من الحرب.
ووفق تقرير لشبكة (بي بي سي)، فقد وجد المسيحيون السودانيون أنفسهم عالقين وسط الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتعرّضوا لهجمات طائفية، ونهبت الكنائس، وتم تدميرها في الأيام الأولى من الحرب.
وأكدت الشبكة البريطانية أنّه بعد مرور عام على الحرب في السوادن، تمكن معظم المسيحيين بالفعل من الفرار من السودان، لكنّ الكثيرين منهم ما زالوا ينتظرون المغادرة من بورتسودان الآمنة نسبياً.
هذا، واعتبر الأب القمص مكاريوس فيلوثاوس فرج في تصريح لـ (إندبندنت) بالعربية أنّ "الحرب أسهمت في خروج أعداد كبيرة من المسيحيين، حالهم مثل آلاف المواطنين الذين نزحوا بسبب تصاعد وتيرة المعارك، فضلاً عن أزمات قطع الكهرباء والماء والخدمات الصحية، ومنهم من غادر مدن العاصمة الـ (3) بحري وأم درمان والخرطوم، إلى الولايات الآمنة مثل بورتسودان والقضارف وسنار، والغالبية اختاروا اللجوء إلى دول محيطة مثل مصر وأوغندا وإثيوبيا".
وأضاف أنّ "عدداً محدوداً للغاية من أسر المسيحيين لم يتمكن من الخروج لأسباب صحية، وأنّ آخرين لقوا مصرعهم ودفنوا داخل منازلهم أو أمامها".
وبحسب (إندبندنت)، فقد واجه آلاف المسيحيين في السودان ظروفاً صعبة منذ اندلاع الحرب قبل نحو عام ونصف العام، خاصة بعد فقدان أعمالهم في الشركات والمصانع، وكذلك مؤسسات القطاع الخاص مثل الصيدليات والعيادات ومستشفى الراهبات للولادة في العاصمة الخرطوم، فضلاً عن المدارس الخاصة، علاوة على الأندية الثقافية والاجتماعية مثل المكتبة القبطية والنادي القبطي.
ومع تصاعد وتيرة المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لا أحد يعرف مصير الممتلكات الخاصة بالمسيحيين في مدن العاصمة الـ (3) بحري وأم درمان والخرطوم، وحجم الأضرار وعمليات السلب والنهب التي تعرّضت لها.
وفي السياق، أكد مجلس الكنائس السوداني، في بيان نشره بعد نحو عام من الصراع، أنّه تم تدمير (17) كنيسة كليّاً، إلى جانب تعرّض (153) كنيسة للاعتداء، قائلاً: إنّ أكثر من (3) آلاف شخص تعرّضوا للاعتداء خلال ممارستهم العبادة بالكنائس، بحسب ما نقلت (الحرة).
وأشار عمران جدعون، وهو أحد الشباب الذين يتطوعون لخدمة الكنائس في السودان، إلى أنّ "التعديات على الكنائس لا تقتصر فقط على قوات الدعم السريع، مؤكداً "تعرّض إحدى الكنائس في أم درمان إلى قصف بالمدفعية من الجيش السوداني".
وقال جدعون لموقع (الحرة): إنّ "أحد المشرفين على كنيسة الملازمين نشر مقطع فيديو عن تعرُّض الكنيسة للقصف بوساطة مدفعية الجيش السوداني، وذلك بعد لحظات من عملية القصف"، لافتاً إلى أنّ "القصف طال كذلك المدرسة الإنجيلية السودانية العريقة.
هذا، وأنهت ثورة كانون الأول (ديسمبر)، التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين، عقوداً من الظلم المرتكب في حق السودانيين الأقباط، وأعادت إليهم ممتلكاتهم التي صُودِرَت، مع السماح لهم بتأسيس دور عبادة جديدة، لكنّ السلطة الانتقالية لم تستمر طويلاً، فسرعان ما تمّ الانقضاض عليها من قبل العسكريين، واندلعت الحرب، ليعود الأقباط إلى عهد الانتهاكات والفرار القسري.
وتُعتبر المسيحية الديانة الثانية في البلاد، وانخفض عدد المسيحيين بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 ليصل إلى نحو (1.4) مليون نسمة، يتوزعون في العاصمة ومدن أخرى مثل ود مدني بولاية الجزيرة والأبيض غرب البلاد، فضلاً عن مناطق في الولاية الشمالية.
وهي المرة الرابعة التي يضطر فيها الأقباط السودانيون إلى مغادرة البلاد قسراً، فبحسب الروايات التاريخية، فإنّ العديد من الأقباط فروا من السودان إبّان حكم المهدية والتضييق الذي كانت تمارسه عليهم سلطة الخليفة عبد الله التعايشي، ثم عاود الأقباط هجرات قسرية من السودان خلال حكم الرئيس السابق جعفر نميري، وسنّ ما يُعرف بقوانين عام 1983م، فقد مارست السلطات وقتها تضييقاً واسعاً عليهم، وعلى أنشطتهم الاقتصادية والتجارية، وبلغت الانتهاكات ذروتها بعد صعود نظام الإخوان المسلمين إلى الحكم بانقلاب عسكري في عام 1989، والذي كان وبالاً على هذا المكوّن، فقدج صُودِرَت ممتلكاتهم، ودفعهم ذلك للمغادرة إلى مختلف دول العالم.