
ارتبط خطاب جماعة الإخوان المسلمين بصورة مثالية عن التنظيم، الذي روّج لنفسه باعتباره جماعة إسلامية وسطية ملتزمة بأخلاقيات دينية صارمة، الصورة التي يمكن الجزم بأنّها تلاشت تماماً خلال الأعوام الماضية مع انكشاف الوجه الحقيقي للإخوان، بعد سقوطهم عن الحكم في عدد من الدول العربية منذ عام 2013، وتوحش التنظيم بالإرهاب ضد الأنظمة العربية، فضلاً عن الاتهامات المتلاحقة من الداخل لقيادات التنظيم بالفساد والتربح والمتاجرة بالدين.
وشهدت الجماعة خلال الأعوام الماضية صراعات داخل التنظيم واتهامات متبادلة بين قياداته بالفساد المالي والإداري، هذه الاتهامات تمحورت حول سوء إدارة الأموال التي جُمعت من أتباع الجماعة أو الجهات الداعمة لها، ويُعتقد أنّ بعض القيادات استغلت تلك الأموال لتحقيق مكاسب شخصية. هذه الاتهامات أضعفت ثقة الأعضاء العاديين في القيادة، وأدت إلى تراجع الدعم الداخلي للتنظيم، إضافة إلى ذلك اتُهمت بعض القيادات بإخفاء معلومات مالية مهمة وعدم الشفافية في توزيع الموارد، ممّا زاد من حدة الانقسامات الداخلية.
خطاب الإخوان بين الواقع والادعاءات التنظيمية
تناولت دراسة حديثة، نشرها مركز (تريندز للبحوث والاستشارات) للباحث فريد بلقاسم، تفكيك خطاب جماعة الإخوان، حيث وظفت الجماعة بعض القيم للترويج لنفسها، كما استغلت فكرة الخوف والإرهاب لإخضاع عناصرها واستهداف المجتمع.
بحسب الدراسة، تنتشر خطابات الإخوان من خلال وسائط متعددة ومتنوعة مكتوبة ومسموعة ومرئية، وقد أبدت الجماعة حرصاً ملحوظاً على مواكبة ما يستجدّ من تطورات في وسائل الاتصال والتواصل عبر مختلف محطاتها التاريخية كالكتب والمقالات والخطب ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية ومواقع شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
وتحظى المسألة الاتصالية والتواصلية، شكلاً ومضموناً، بقدر من الأهمية والأولوية لدى الجماعة التي كانت حريصة على الاستفادة من كلّ الوسائل والوسائط المتاحة لنشر أدبياتها الإيديولوجية وما تعتبره رسالتها الدعوية من ناحية، ولاستقطاب الأتباع والأنصار من ناحية ثانية، وللدعاية لمشروعها أو الدعاية المضادة لمخالفيها من الحكّام أو من التيارات الإيديولوجية أو السياسية الأخرى من ناحية ثالثة.
ويخترق الخوف، بحسب الدراسة، خطابات الجماعة سواء كانت خطابات موجّهة لأنصارها أو لخصومها، ومهما يكن السياق، سواء في لحظات قوّتها وعنفوانها أو في لحظات الضعف والأزمة، فالخوف يكاد يكون أحد ثوابت خطابها.
وتتعدّد أشكال حضوره، فيتجلّى أحياناً سافراً في خطابات يكتنفها الوعيد والتحذير والتهديد بوضوح لا لبس فيه، وأحياناً أخرى يبدو متخفّياً في تجاويف الخطاب تحجبه براقع من ادعاءات المرونة والتهدئة والسلمية والبحث عن المصلحة العامة ومنفعة الأمّة، ولكنّها تنطوي على توظيف مبطّن للخوف، فهي خطابات تقول بشكل ضمنيّ: "إذا لم تجنحوا للسلم، جنحنا للعنف والقوّة، وإذا لم تقبلوا بنا، قلبنا لكم ظهر المجنّ". ويظهر الخوف في خطابات الجماعة ليس فقط باعتباره تقنية لترهيب الخصوم وردعهم وتجييش الأنصار وتحفيزهم شعوريّاً للانخراط في مشروعها، بل باعتباره أيضاً محرّكاً للجماعة، فهي مثلما تنتج خطابات توظّف الخوف، فإنّها تنتج خطابات بدافع الخوف.
تشكيل هوية خاصة بالإخوان
بحسب الدراسة، ينهض الخطاب الإسلاموي الإخواني على رهان تشكيل هوية خاصة بالإخوان أفراداً وجماعة، وهو رهان يؤول إلى العزلة الشعورية، أي إلى عزل الجماعة عن المجتمع وخلق علاقة صدامية قائمة على العداء بين الطرفين.
وينطوي تشكيل هذه الهوية الإخوانية على جملة من الخصائص الإيديولوجية والتنظيمية والتربوية التي تمنح الإخوان نظاماً رمزيّاً من القيم والمعايير في حياتهم اليومية يعزز إحساسهم بالالتزام والانتماء للحركة، وتمكّن من خلق مجتمع موازٍ منغلق لأعضائها، وتربط بنية التنظيم القواعد بالسلوك، واللوائح بالقيم، والأعضاء بالقيادة، وقد كان لهذه القواعد دور محوري في تمكين الإخوان من الحفاظ على وحدتهم الداخلية وتجنّب التفكك.
وقد اعتمدت القيادة الإخوانية لتحقيق هذه الغاية استراتيجية عمادها التخويف؛ ويظهر ذلك في تخويف الأتباع وأعضاء التنظيم من عواقب عدم الالتزام بتعاليم الجماعة وواجبات الانتماء إليها وهو ما دأبت عليه منذ نشأتها الأولى على يد مؤسسها حسن البنّا الذي توجّه في خاتمة رسالة التعاليم بهذا التحذير لكلّ إخواني: "فخذ نفسك بشدة بهذه التعاليم، وإلّا ففي صفوف القاعدين متسع للكسالى والعابثين. وأعتقد أنك إن عملت بها وجعلتها أمل حياتك وغاية غايتك، كان جزاؤك العزة في الدنيا والخير والرضوان في الآخرة، وأنت منا ونحن منك، وإن انصرفت عنها وقعدت عن العمل لها فلا صلة بيننا وبينك، وإن تصدرت فينا المجالس وحملت أفخم الألقاب وظهرت بيننا بأكبر المظاهر، وسيحاسبك الله على قعودك أشد الحساب".
ويتجلّى أيضاً في تخويفهم من مخاطر التفكّك وانفصام عرى الوحدة، فدون ذلك ينفرط عقد الجماعة ويفشلون وتذهب ريحهم، وهي المعاني التي أكّد عليها بيان "لجنة علماء جماعة الإخوان المسلمين" بتاريخ 2 كانون الأول (ديسمبر) 2021 على إثر الخلاف الداخلي الذي دبّ في صفوف الجماعة بين جبهة إبراهيم منير نائب المرشد العام وجبهة محمود حسين أمين عام الجماعة.
وتختزل الأدبيات الإخوانية هذه المعاني في مبدأ "حق الاختلاف وواجب وحدة الصفّ"، وهو مبدأ يضمر خوف الجماعة من التفرّق والتشرذم، لا سيّما في أوقات المحن والأزمات، ولذلك تحرص القيادة على تكريس قواعد البيعة والطاعة لشدّ الأتباع إليها وفرض ولائهم لها؛ مخافة أن ينفضّوا من حولها، فتفقد جندها الذين تخوض بهم معاركها التي تدور حول السلطة والحكم.
استهداف بنية المجتمع
يقوم الخطاب الإسلاموي الإخواني، وفق الدراسة، على تيمة أساسية مفادها تقسيم المجتمع إلى قسمين بينهما تعارض جوهريّ؛ هما قسم المؤمنين ويضمّ الإخوان ومن تابعهم من الأنصار والمتعاطفين إيديولوجيّاً باعتبارهم "العصبة المؤمنة"، وقسم الكفّار ويضمّ كلّ من ناوأهم وخالف أفكارهم وتصوّراتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وتكمن وراء هذا التقسيم الحدّي استراتيجية قائمة على تخويف "الإخوان المؤمنين" من الكفّار المخالفين الذين يُصوَّرون باعتبارهم أعداء، لا للجماعة ككتلة بشريّة فحسب، بل للدين باعتباره منظومة حياة شاملة. ولأنّ من أهمّ مهامّ العصبة المؤمنة حراسة الدين وحمايته من كلّ ما قد يهدّده من مخاطر الانحراف والزيغ التي تحيق به من أعداء الداخل والخارج، فإنّ القيادة الإخوانية تتوخّى خطّة تثير في الأتباع مشاعر الخوف على "دينهم"، كما وقع تمثيله لهم والسخط والغضب على أعدائهم المتربّصين به، ولكي تنجح خطّتها عملت هذه القيادة على تكريس تبعية الأنصار وإلغاء دور العقل والتفكير؛ ممّا جعل منهم كتلة قائمة على التعصّب لمنهجهم والتحيّز لأفكارهم، بحسب الدراسة.
وتشير الدراسة إلى أنّ الخوف من تأثير الأفكار المخالفة عليهم هو ما يحرّك القيادة، فتجد خطاب دعاتهم يحذّر من فتنتها فيصمونها بالبدعة والفجور والفسق والكفر. وهكذا يظهر الخوف في هذا المضمار باعتبار أنّه ذو وجهين متداخلين تداخلاً وثيقاً؛ وجه يلوح فيه الخوف من الآخر سواء كان نظاماً حاكماً وهو خوف من سطوته، أو كان تيارات إيديولوجية وسياسية وهو خوف من أفكارها المناوئة ومزاحمتها لها، أو كان آخر حضاريّاً وهو خوف من جاذبيّة قيمه ونظمه المعولمة.
ووجه آخر هو الخوف على الأتباع والأنصار أن تفتّ من عضدهم وتشتّت جماعتهم سطوة الحكّام بسبب اختيارات قياداتهم الدخول في الصدامات معهم على الحكم والسلطة، وأن تفتنهم أطروحات الآخرين، وخاصة تلك التي تدور حول القيم الحديثة من حرية ومساواة وحقوق إنسان فتزعزع ثقتهم بما يحملونه من مبادئ وأفكار عمِل دعاة الجماعة على غرسها فيهم باعتبارها حقائق أصلها ثابت وتعكس إرادة الله في الأرض، وما سواها غارق في الجاهلية، تلك التي عرّفها سيد قطب بكونها ليست "فترة من الزمان، وإنّما هي حالة من الحالات التي تتكرّر كلّما انحرف المجتمع عن نهج الإسلام".
وينطوي هذا المفهوم على شحنة تخويفية هائلة موجّهة إلى الآخر المخالف من الدائرة الإسلامية لوصمه وإفراده خارج الملّة، وضمّه إلى صفوف الأعداء، وإلى من يسمّيهم "الطليعة المسلمة" حتى يحفّزها لتضطلع بمهمّتها المقدسة في التصدّي للمؤامرة ضدّ الإسلام، و"إحلال التصوّرات الإسلامية والتقاليد الإسلامية مكان هذه الجاهلية".
وتوضح الدراسة أنّ الخطابات الإخوانية ـ بما هي خطابات دعائية تقوم أسلوبيّاً على التحريض والترغيب والتحذير والتهديد، وتخاطب في الجمهور مشاعرهم وتروم تجييشهم وتعامل الآخر باعتباره عدوّاً متآمراً لا على الجماعة بل على الإسلام ـ فإنّها خطابات تستحضر الخوف تصريحاً أو تلميحاً، وتعتمد التخويف الموجّه للأتباع وللخصوم استراتيجية لتحقيق جملة من الأهداف.
أبرز هذه الأهداف المحافظة على وحدة الجماعة وتماسكها التنظيمي بضمان ولاء الأتباع للقيادة والتفافهم حول خياراتها وقراراتها مهما كانت متقلّبة، فالخوف كحالة شعورية ذات طابع انفعاليّ حين يسري بين الأفراد والمجموعات يفقدهم القدرة على التفكير العقلاني والتمييز السليم بين المواقف، والقدرة على النقد والمراجعة، فيقودهم هذا العمى الإدراكيّ المبني على الخوف إلى حالة من الانضباط القطيعي لسلطة الزعيم.
وأيضاً درء مخاطر الخصوم بتصويرهم أعداء، لا للإخوان كتنظيم وأطروحات إيديولوجية فقط، وإنّما للإسلام كدين ومنظومة قيميّة يقدّم حلولاً لمشاكل المسلمين والبشرية جمعاء. فيهدف التخويف إلى وصم الخصوم وحشرهم في زاوية الدفاع عن النفس وتجنّب الدخول في المصادمات مع الجماعة، لا سيّما الخصوم الذين هم في وضع هشاشة كالفنانين والأدباء والمثقّفين، وقد يفضي التخويف إلى أن تتبنّى الأنظمة الحاكمة أطروحات الإخوان في إطار سياسة سحب البساط منهم، وهو ما يؤول في نهاية المطاف إلى تهيئة الأرضيّة الملائمة لنشر أفكارهم والترويج لصلاحية أدبياتهم باعتبارها منسجمة مع سياسات النظام الحاكم وتوجّهاته ونابعة من البيئة الثقافية والذهنية والتربوية السائدة، وهو من العوامل التي تفسّر في رأينا انبعاث تلك الجماعة في كلّ مرّة تنحسر فيها قوّتها، من ذلك مثلاً إقرار الشريعة مصدراً أساسيّاً للتشريع في الدستور المصري منذ عهد الرئيس أنور السادات في عام 1971، وإنشاء المجلس الإسلامي الأعلى في تونس في عهد الرئيس زين العابدين بن علي في عام 1989.