
أصدر تنظيم (داعش) أكثر من (50) بياناً حول أحداث غزة، وحاول تجاوز خلافاته الإيديولوجية البينية بالحديث عن الأعمال القتالية، والدعوة إلى زيادتها، واستغلال فلسطين لزيادة معدل عمليات التجنيد والدعوة، لكن هل نجح بالفعل في هذا الأمر، أم أنّ الانشطارات الفكرية ستظل عصية عليه، وستكون هي نهايته الحقيقية؟
القتال يسبق التنظيرات الإيديولوجية
إنّ المؤكد لدى الذين يتخذون من السلاح وسيلة وحيدة للوصول إلى السلطة والسيطرة المكانية، هي أنّ القتال يسبق الأفكار التي تأتي كأدلة على جواز الأعمال التي قامت بها العناصر المنضوية إيديولوجيّاً تحت هذه التنظيمات، وذلك لأسباب متعددة؛ أهمها أنّ هذا يؤدي إلى وحدة الصف، ويحمي الجماعة من تفجر الخلافات والانشقاقات.
لو عدنا إلى الوراء قليلاً، فسنجد أنّه حين تمّ تنصيب أبي إبراهيم الهاشمي مكان البغدادي، سيطر العسكريون على مفاصل التنظيم الذين لا تشغلهم الإيديولوجيا إلا بالقدر الذي يساهم في سيطرتهم، وأطلق القائد الجديد عدة كلمات على لسان متحدثه أبي حمزة القرشي، حاول فيها القفز على انشطارات داعش الإيديولوجية، والتي كادت تودي به بالكامل.
وفي الفترة التي أعقبت الهاشمي لم يبدُ على الجهاز الإعلامي تركيزه على الجانب الإيديولوجي بقدر حرصه على إظهار انتصاراته العسكرية، إلا في بعض الإصدارات التي أطلقت من فرعه باليمن، مثل (وقفات مع بيان منشقي القاعدة)، أو (الحوار مع أبي الوليد الصحراوي) التي وصف فيها انحرافات القاعدة العقدية، وأنّهم من الفصائل المرتدة، مثل جبهة تحرير ماسينا، التي طالبتهم بتسليم أسلحتهم في دولة مالي.
وقبل أحداث غزة الأخيرة بعدة شهور انشغل قادة التنظيم في المقام الأول بإعادة السيطرة على مفاصل التنظيم، وإعادة هيكلته، لذا فقد طرح جهاز الإعلام الداعشي، الرسمي وغير الرسمي، أفكار التنظيم القديمة العامة، مثل الفروقات بينه وبين تنظيم (القاعدة)، حيث أصدر (معذرة على ربكم) لتسليط الضوء على الأزمة المنهجية بينه وبين القاعدة في اليمن، رغم أنّ الإصدار لم يأتِ بجديد عن المسائل الخلافية، فقد سلط الضوء على مجموعة من الخلافات العقدية، ومنها مسألة الولاء والبراء، ورفض التحالفات المخالفة للشريعة، وأحكام المرتدين.
وأعاد التنظيم إصدار وتحديث وتطوير الإنتاج القديم ليواكب استراتيجياته الجديدة، سواء كانت مؤلفات مكتوبة أو سمعية أو بيانات أو تأصيلات علمية، وأخذ الخطاب خطاً موازياً، إذ لم يأتِ بجديد عن تلك المفاهيم الإيديولوجية التي انتهى إليها؛ وهي: قضايا عقدية: عدم جواز العذر بالجهل والتأويل، الحكم بالردة على المخالفين وعدم قبول توبتهم، تكفير الشيعة والصوفية على العموم، الحكم بتكفير الحكام وأعوانهم، عدم جواز العمل في الأنظمة الكفرية، الحكم بتكفير حامل البطاقة الشخصية أو بطاقة هوية الجيش السوري والعراقي، الحكم بكفر الموالين للميليشيات والفصائل المخالفة، الحكم أنّ الدار والدولة كافرة لأنّها ترفع راية الكفر ولا تطبق الشريعة، إسقاط أحكام الدار والدولة على ساكنيها، وأحكام تتعلق بالموالاة، مثل عدم جواز تهنئة الأقباط بأعيادهم، عدم جواز تحية علم الدولة الكافرة، وجوب التضييق على الأقباط، جواز سرقة أهل الأديان والطوائف الأخرى واستحلال نسائهم وأموالهم، جواز سبي أهل الطوائف الأخرى، جواز بيع ركاز وآثار الأرض في الدولة المرتدة، عدم جواز العمل بالديمقراطية، تحريم العمل الحزبي واعتباره ردة، وتكفير المتعاونين مع الأنظمة وإيجاب قتلهم.
حاولت القيادة التي تقود تنظيم (داعش) أن تستغل أحداث غزة لعمل اصطفاف يحمي التنظيم من الانشطار الفكري.
التمثيل بجثث المرتدين، جواز حرق أسرى المرتدين، جواز قتل المتترس بهم من العوام، وجوب الهجرة من الدول الكافرة، وإن تعسرت فالعمل لتخريبها من الداخل، جواز الاستحلال للإنفاقفي العامين الأخيرين ركّز داعش على أحكام تتعلق بالقتال، ووجوب قتال الطوائف كالشرطة والجيش، وجوب تشكيل جماعات لمحاربة الأنظمة، تكفير الحاكم وإيجاب خلعه بالقوة، جواز على التنظيم، وجوب قتل الجواسيس، وجواز حرق وتدمير المعابد والكنائس، ووجوب قتال اليهود كافة.
الأفكار خادمة لحمل السلاح
إنّ الأفكار لدى داعش ما هي إلا خادمة لسياسة التنظيم وحمله للسلاح وقتاله للناس كافة، وهذا ما ظهر في خطابات أبي محمد العدناني، وباقي المتحدثين، ومنهم أبو حمزة القرشي، الذي ذكر في كلمته التي عنونها برسالة إلى المرتدين (دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها)، أنّ نهج القتال بشكل دائم يسيطر على ذهنية القادة، قائلاً: إنّ أهل الباطل سعوا لتشويه سمعة الدولة الإسلامية واتهامها بالغلو والخارجية، وحاولوا جهدهم أن يحصروا القتال بالصليبيين فقط، فأطلقوا على من يمتنع عن قتال المرتدين من الروافض والمنتسبين إلى أهل السنّة لقب "المقاومة الشريفة"، وأنّه لم يفتهم أن يبذلوا جهدهم في تحطيم فتنة العصر الكبرى المتمثلة بالديمقراطية والعلمانية، فهي دين كفري، ومن يؤمن به بالاعتقاد أو القول أو العمل فهو كافر بالله العظيم، ولا كرامة، وأنّهم حذروا الناس من المشاركة فيها بالانتخاب والترشح أو الاستفتاء على قوانينها ودساتيرها الكفرية، وأتْبعوا القول بالعمل من خلال استهداف معابد هذا الدين الوثني المتمثلة بمراكز الانتخاب والترشيح، وذلك في تدرج واضح طوال الأعوام الماضية، وابتداءً بالدعوة والبيان وصولاً إلى السيف والسنان، في الوقت الذي كان المرتدون من أدعياء الإسلام وما زالوا يستبيحون شرك الديمقراطية.
ويتضح ممّا سبق أنّ تنظيم (داعش) كان يعاني قبل سقوط الباغوز من انشقاقات فكرية طالت مؤسساته وقواعده، وأنّ القيادة الجديدة ورثت تلك الخلافات، وبينما هي تدين بما حسمته اللجنة المفوضة من اختيارات في الفقه العقدي والسلطاني، اضطرت أن تركز جلّ جهودها في العودة إلى النهج الأول، وهو فقه (تنظيمات الخروج على الحكام المرتدين)، وهو نهج يجمع الخلايا على قضايا محددة مثل وجوب قتال المرتدين، وقتال الطوائف الممتنعة... إلخ، إلا أنّ ذلك لم يمنع من وجود شرعية للمنشقين، الذين طرحوا ما حصل تفصيلياً، ونظّروا لعدم جواز القتال مع تنظيم منحرف عقدياً، وهو ما دفع للجدل مرة أخرى، وأدى إلى أنّ الجهاز الإعلامي للتنظيم يعيد التأكيد على القضايا محل الجدل، وهذا أظهر أنّ القيادة الحالية هي من الجناح الأشد تطرفاً.
من هنا حاولت القيادة التي تقود داعش أن تستغل أحداث غزة لعمل اصطفاف يحمي التنظيم من الانشطار الفكري الذي دائماً ما يتجدد على وقع اختلاف الاستراتيجيات.
وقد بدا من الخلافات المنهجية داخل التنظيم أنّه ليس له مركز ثقل إيديولوجي محدد، وأنّ الشرعيين وطلاب العلم لهم ثقل كبير يوازي ثقل القيادة العسكرية، وهو ما يمكن أن يتجدد دائماً في صراعات جديدة، وهذا يؤثر دائماً على عمليات التجنيد والاستقطاب، وهو ما يحاول علاجه عبر تقديم القتال على الأطروحات العقدية الفكرية.