مسلمو فنلندا يدفعون ضريبة التطرف الأصولي والعنصرية

فنلندا والإسلام

مسلمو فنلندا يدفعون ضريبة التطرف الأصولي والعنصرية


18/03/2018

لعلّ الظروف التي تعيشها الأقلية المسلمة في فنلندا، تطرح العديد من التساؤلات الإشكالية، التي باتت تفرض نفسها على وجود الإسلام في أوروبا الوسطى، فيما يتعلق بالأضرار التي تسبب بها التطرف الأصولي، وشعارات الهيمنة المتعالية التي ترفعها دوماً جماعات الإسلام السياسي؛ مما وضع التيار المدافع عن المسلمين في حرج بالغ.

الوجود الإسلامي في فنلندا

يرجع انتشار الإسلام في فنلندا إلى بدايات القرن التاسع عشر، حين جاء أوائل المسلمين الذين استقروا بشكل دائم هناك، وهم ينحدرون من التتار والكازاخيين، الذين كانوا ضمن جنود الجيش الروسي العامل هناك، وفي العام 1923 تم الاعتراف رسمياً بالدين الإسلامي في إطار قانون حرية الأديان.

ولم تكن فنلندا من الدول الجاذبة للمهاجرين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولم يكن لهذا البلد تاريخ استعماري يتيح له الانفتاح على شعوب إسلامية، وبالتالي لم ينتشر الدين الإسلامي فيه بشكل كبير، ولم تسجل أعداد المسلمين تزايداً سوى في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، عندما بدأت فنلندا في استقبال مجموعات من اللاجئين ضمن برنامج الوكالة الدولية لغوث اللاجئين التابع للأمم المتحدة. وكان معظمهم: عراقيين، صوماليين، أكراداً، أتراكاً، من كوسوفو، ألبانيا، والبوسنة، وجميعها دول إسلامية، وهو ما ساهم في تزايد أعدادهم هناك، بالإضافة إلى عدد آخر من المسلمين هاجروا لظروف الدراسة والبحث عن عمل.

يرجع انتشار المسلمين في فنلندا إلى بدايات القرن التاسع عشر مع التتار والكازاخيين هناك بشكل دائم

ووفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الفنلندي العام 2014، فإنّ عدد المسلمين الكلي في كانون الأول (ديسمبر) 2014 بلغ حوالي 12.327 نسمة، وهو رقم يفتقد إلى الدقة؛ حيث اعتمد الإحصاء على بيانات الأفراد الذين سُجلت ممارستهم الدينية، وفق عضويتهم في المحافل والمؤسسات الإسلامية، مع العلم أنّ معظم المسلمين في فنلندا ليسوا مسجّلين في منظمات إسلامية معروفة للدولة، وتشير تقارير محلية إلى أنّ أعدادهم تتراوح الآن ما بين 60 و65 ألف نسمة من مجموع السكان البالغ نحو 5.5 مليون نسمة، وأغلبهم من السنّة، بينما يمثل الشيعة نحو 10% منهم.

معظم المسلمين في فنلندا ليسوا مسجّلين في منظمات إسلامية معروفة للدولة

صراع مذهبي حول بناء مسجد!

فجّرت موافقة الإدارة المحلية على إنشاء مسجد مركزي ضخم في العاصمة هلسنكي على مساحة 20000 متر مربع، موجة من الاحتجاجات؛ حيث انتشرت في وسائل الإعلام ردود فعل عدائية، رصدها تقرير منظمة "SETA" والمنشور  العام 2016.

وسرعان ما تبلورت موجة الاحتجاجات في مبادرة جاءت على شكل مشروع قانون ضد إنشاء المسجد، بدعوى أنّه "سيزيد من أصولية المسلمين، وسيسبب ضوضاء وفوضى، أنّ المسلمين عنيفين ويحرضون على الكراهية"، لكن المبادرة لم تحصل على تأييد كافٍ لعرضها على البرلمان، وبالتالي انتهت في مهدها.

معظم المسلمين في فنلندا ليسوا مسجّلين في منظمات إسلامية معروفة للدولة

كما قامت مظاهرة ضد مشروع المسجد نظمتها "رابطة الدفاع الفنلندية للحرية والديموقراطية"، ولكن لم يشارك فيها سوى 150 شخصاً تقريباً، وأصدر فرع الشباب في الحزب اليميني "فنلنديون حقيقيون" بياناً ندد فيه بالمشروع، معتبراً الموافقة على بناء مسجد بهذا الحجم في العاصمة قراراً "غير مسؤول".

ولعلّ أبرز الاحتجاجات في هذا السياق هي تلك التي جاءت من أبناء الطائفة الشيعية؛ حيث ربطوا المشروع بالتيار السلفي السنّي، وحذروا من أخطار محتملة من جراء تنامي الأصولية، وهو ما تلقفه اليمينيون محذّرين من صراعات طائفية دامية سوف يفجرها بناء المسجد بين السنة والشيعة، وأنّ المسجد يأتي في سياق مخططات خارجية، وهو ما عبّر عنه  الكاتب اليميني "بافو تاجوكانجاس" حين كتب في التقرير نفسه "حان الوقت لنميّز بين فئتين من المسلمين، فالذين يريدون بناء المسجد ليسوا التتار ولا الفنلنديين المتحولين للإسلام، ولكنهم مسلمون "حقيقيون" من بلدان إسلامية "حقيقية" مثل؛ الصومال، باكستان، وأفغانستان".

رفض الكاتب "جيمس جونزو" برنامج إذاعة القرآن، مؤكداً أنّ الإسلام لا علاقة له بالثقافة أو التاريخ الفنلندي

القرآن في الإذاعة يثير حفيظة اليمين

في آذار (مارس) 2015،  شرعت هيئة الإذاعة العامة الفنلندية ( YLE) في بث برنامج من 60 حلقة، تذاع من خلاله ترجمة للقرآن، وأعلنت الهيئة أنّ الهدف هو زيادة الوعي ونشر المعرفة الثقافية في عالم متنوع، وقوبل البرنامج بمشاعر سلبية، تجلت في المناقشات التي دارت على صفحة الهيئة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وكان الانتقاد الأساسي أنّها تموّل من الضرائب العامة، ومن ثم فلا يجب استخدامها في إذاعة القرآن؛ لأن غالبية الفنلنديين غير مسلمين.

ورصد تقرير "SETA" المناقشات الراديكالية في المدونات التي تتخذ سمة عدائية للإسلام بشكل صريح، والتي تمد قراءها بروابط المواقع المعادية للإسلام مثل: "قنبلة الإسلام الموقوتة"، واحتجت هذه المدونات بشكل حادّ على البرنامج الإذاعي الذي رأت أنّه، وإن كان يخدم أهداف التعليم العام من ناحية نشر المعرفة العامة، لكنّه، على حد وصفها "يجب أن يعلن أنّ داعش تجبر الأسرى على العبودية الجنسية".

فجّرت موافقة الإدارة المحلية على إنشاء مسجد ضخم في العاصمة هلسنكي موجة من الاحتجاجات

وفي السياق ذاته رفض الكاتب "جيمس جونزو" برنامج إذاعة القرآن، مؤكداً أنّ الإسلام لا علاقة له بالثقافة أو التاريخ الفنلندي، وأنّ هذا العمل يماثل إعادة طبع كتاب "كفاحي" لهتلر، فهو يحتوي على نظرة فاشية ومعادية للمرأة، متسائلاً: "هل يجرؤ العاملون في هيئة الإذاعة على بث القرآن مع حذف بعض الآيات"، مؤكداً "أنّ ذلك سوف يكون مبرراً كافياً لدى المسلمين لإراقة الدماء".

جدير بالذكر أنّ رئيسة الوزراء ماريا تولبانين، نشرت على صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" منشوراً؛ احتجت فيه على إذاعة القرآن في الراديو، بدعوى أنّ ذلك سوف يسهم في انضمام أشخاص لتنظيم داعش، بالإضافة إلى ذلك، علّقت إحدى المرشحات للبرلمان في انتخابات 2015 مؤكدة أنّ القرآن "يحتوي على تحريض على كراهية المسيحيين، وأنّه ينص على وجوب قتل غير المؤمنين".

يبدو من تلك النقاشات وردود الفعل مدى تصاعد مد الإسلاموفوبيا على كافة المستويات، التي انعكست على مجالات عدة رصدتها تقارير محلية مثل: التوظيف والتعليم.

حالات تمييز فردية من وقت لآخر

بشكل عام لا يوجد تمييز صريح ضد المسلمين في سوق العمل، ولا توجد قوانين تمنع المسلمين من التقدم للوظائف، من ثم، يمكن للمسلمات ارتداء الحجاب أثناء العمل؛ بل إنّ بعض المستشفيات توفر غطاء الرأس للمحجبات لأسباب تتعلق بالنظافة، الأكثر من هذا، لا توجد قيود على ارتداء المعلمات للحجاب أثناء تأدية وظائفهن، لكن بالرغم من ذلك، هناك بعض الحالات الفردية التي تظهر من وقت لآخر، وأغلبها حالات تمييز ضد النساء المسلمات، أبرزها تلك القضية التي أثارت الرأي العام في العام 2013 عندما قام صاحب عمل بفسخ تعاقد سيدة مسلمة بسبب ارتدائها الحجاب، وقضت المحكمة بتغريمه هو واثنين من المشرفين؛ حيث أكدت في حكمها أنّ "الحجاب ليس سبباً كافياً لفسخ العقد؛ إذ إنه لا يعوق أداء العاملة في مهام التعبئة أو البيع".

حذر اليمينيون من صراعات طائفية دامية بين السنة والشيعة بسبب بناء مسجد في العاصمة

كما شهدت بعض مراكز التدريب المهني نوعاً من التمييز ضد المسلمات؛ حيث رصد تقرير "SETA" تعميماً للمتدربات بأنّه لا يمكنهن ارتداء الحجاب عند القيام بالعمل في قسم خدمة العملاء أو في صالونات التجميل أو تصفيف الشعر.

وفي العام 2014 جرت واقعة شهيرة، عندما رُفضت إحدى المتقدمات لأكاديمية الشرطة بسبب ارتدائها الحجاب، وقامت الفتاة بإثارة الموضوع إعلامياً، بعد تقدمها بتظلم في سكرتارية منع التمييز، وفي مقابلة إعلامية أكدت أنها مُنعت من الالتحاق بالشرطة فقط؛ لأنها مسلمة، وهو ما ردّ عليه وزير الداخلية بالتصريح بأنّ ضباط الشرطة يجب أن يمثلوا من خلال ما يرتدونه من زي موحد، السلطة العامة، وليس جماعة دينية معينة، ويجب عليهم إظهار حيادهم.

تقدم فنلندا دروس الدين للطلبة من المرحلة الابتدائية وحتى التعليم الثانوي، وكل طالب من حقه حضور دروس دينه الخاصة، لو كان هناك أكثر من ثلاثة طلاب ينتمون لنفس الدين في المدرسة.

هذا وقد لاحظت "إسراء ليتينين"، وهي ناشطة مسلمة معروفة ومعلمة دين إسلامي، أنه في أعقاب حادثة "تشارلي إبدو" في باريس، تزايدت شكاوى تلاميذها من التمييز الديني، ومعظم هذه الشكاوى فحواها أنه حتى المعلمون يسألون الطلاب المسلمين عند الإشارة للحوادث الإرهابية بالاتهام متسائلين: "لماذا تفعلون هذا"؟ وأيضاً بعض الطلاب علقوا تعليقات تخلو من الذوق، واتهموا الأطفال أو آباءهم بأنهم: "يرمون الناس بالرصاص".

يمكن القول إنّ جماعات الإسلام السياسي تتحمل بشكل رئيسي المسؤولية عن هذا التوتر الاجتماعي

يمكن القول إنّ جماعات الإسلام السياسي تتحمل بشكل رئيسي المسؤولية عن هذا التوتر الاجتماعي، والرفض المتصاعد لوجود المسلمين الذي بات يتغلغل في شعوب وسط وشرق أوروبا، التي تخشى تعرضها لما تتعرض له بلدان غرب أوروبا من إرهاب إسلاموي، من خلال منع تمدد المنظمات المدنية الإسلامية، وتحجيم الأقلية المسلمة، أو حصارها اجتماعياً، وهو ما يستوجب إعادة تقييم المواقف، وتفكيك بنى الفكر الديني التقليدي، وتنمية روح التعايش والاندماج في إطار التنوع الثقافي الذي يحترم الجميع.

الصفحة الرئيسية