الاقتصاد السياسي للإسلام الأوروبي: كيف ارتفعت نسبة المسلمين في أوروبا؟

الاقتصاد السياسي للإسلام الأوروبي: كيف ارتفعت نسبة المسلمين في أوروبا؟


11/05/2020

يشكّل المسلمون في البلدان الأوروبية الآن نسبة من السكان تصل الآن إلى حدود 7%، وتتراوح النسبة إلى إجمالي السكان ما بين 8.8% في فرنسا، و6.8% في النمسا، و6.3% في إنجلترا، و6.1% في ألمانيا، كما تشهد أوروبا حالياً تواجد أجيال متعاقبة من المسلمين، وصلت الآن إلى الجيل الثالث (أي أحفاد المهاجرين الأوائل الذين ولدوا هم وآباؤهم في أوروبا)، وقد أسفر هذا التواجد عن مشكلات عديدة، للمسلمين الأوروبيين، وكذلك للدول الأوروبية، ولا أحد يستطيع إنكار جانب المسؤولية الواقع على هؤلاء المسلمين عن هذه المشكلات، لكن هناك جانباً آخر، ربما يكون أكثر أهمية لمشكلات المسلمين الأوروبيين، يرجع إلى التاريخ الأوروبي نفسه، وإلى تاريخ دخول المسلمين للبلدان الأوروبية، وقد كان هذا الدخول مشروطاً بعوامل؛ اقتصادية وسياسية متشابكة؛ حيث يمكنني القول إنّ للإسلام الأوروبي اقتصاداً سياسياً خاصاً به، ولا يمكن فصل مشكلات الإسلام الأوروبي عن تاريخ استقبال أوروبا للمهاجرين المسلمين، والملابسات الاقتصادية السياسية لهذا الاستقبال، وهذا هو ما سأتناوله في هذا المقال.

كيف صارت نسبة المسلمين في أوروبا مرتفعة؟ فقدت أوروبا الملايين من سكانها في الحرب العالمية الثانية، وهبطت أعداد السكان لدرجة كبيرة، ومع الدمار الشامل الذي حلّ بمعظم البلدان الأوروبية، كانت أوروبا في حاجة إلى أيد عاملة كثيفة لإعادة البناء، وكان هذا هو السبب الأول الذي دفع دول أوروبا للسماح بهجرات كثيفة متواصلة من دول الجوار، ودول الجوار هذه ذات أغلبية مسلمة.

ازدادت أعداد المسلمين في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، وبعد  صراع رأس المال الأوروبي مع الأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية

وكان هناك سبب آخر قوي لسماح دول أوروبا بهجرات كثيفة من دول الجنوب "الإسلامي"، خرجت الأحزاب الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية قوية وذات شعبية كبيرة، وصعدت سياسياً، وزادت قوة النقابات العمالية وقدرتها التفاوضية مع الدولة، وصارت للعامل الأوروبي مكانة غير مسبوقة؛ من حيث ارتفاع الحد الأدنى من الأجور والحقوق الاجتماعية، والتأمينات، والإعانات، وفي ظلّ هذه الظروف، لجأ رأس المال الأوروبي إلى توظيف العمالة المهاجرة، وكانت في أغلبها عمالة مسلمة، نظراً إلى أنّ العامل المهاجر غير منتظم في نقابة، ولا يتبع حزباً، ويقبل أجراً دون الحد الأدنى، ولا يحمّل من يعمل لديه أيّ أعباء تأمينية أو غيرها، كما يمكن الاستغناء عنه في أي وقت، بالتالي، فإن زيادة أعداد المسلمين في أوروبا يرجع، بصفة أساسية، إلى الشرط التاريخي السياسي الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، وإلى سياسات رأس المال الأوروبي في صراعه مع الأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية، وبذلك تمكّن رأس المال الأوروبي من الاستمرار في تحقيق القيمة الزائدة المطلقة؛ أي القيمة الزائدة المتحققة من زيادة استغلال العمل، بإطالة يوم العمل، والإقلال من الأجور، بفضل المسلمين المهاجرين.

كما أنّ التحوّل البنيوي، الذي حدث لتركيب الرأسمالية في منتصف القرن العشرين، المتمثل في توسّع مجال الدوران التجاري لرأس المال مقارنة بالمجال الصناعي، أدّى إلى ارتفاع الطلب على العمالة المشتغلة في الدورة التجارية لرأس المال، وهي عمالة الخدمات.

عمالة الخدمات هذه، بحسب طبيعتها، ليست عمالة ماهرة مثل؛ الأخرى المشتغلة في الإنتاج الصناعي؛ بل هي نصف ماهرة، أو غير ماهرة من الأصل، وكان العامل المهاجر من الدول الإسلامية هو الأنسب للعمل في مثل هذه الأشغال.

وبذلك احتلّ العامل المسلم مستويات أدنى من العامل الأوروبي، ولا نستطيع الحديث عن اضطهاد أوروبي للمسلمين؛ لأنّ الدول الأوروبية نفسها هي التي سمحت لهم بالهجرة في المقام الأول، وهي كذلك التي منحت كثيرين منهم حق المواطنة والجنسية، لكن نظراً إلى دخول المسلمين إلى بناء طبقي معدّ لهم سلفاً، واحتلالهم المرتبة الدنيا منه، فقد كانت أوضاعهم في البداية سيئة، لذلك فقبل أن نفكر في تضييق أوروبي مسيحي على المسلمين، يجب علينا الانتباه إلى السياق الاقتصادي الذي تواجد فيه المسلمون في أوروبا بأعداد كبيرة، فإذا كانت هناك مشكلة في أوروبا مع المسلمين، فهي، في المقام الأول، مشكلة أوروبية خالصة، ناتجة عن حاجة بلدان أوروبا إلى العمالة المهاجرة من دول الجوار الإسلامي بصفة أساسية، فالأوضاع الأوروبية هي المسؤولية عن التواجد الكثيف للمسلمين هناك.

وإنني أعتقد أنّ تاريخ دخول المسلمين لأوروبا بشروط، وأوضاع رأس المال الأوروبي وسياساته، سوف يؤثّر في مستقبلهم هناك؛ لأنّ طريقة الدخول السابق الإشارة إليها، جعلت أغلب المهاجرين المسلمين من الأقطار الإسلامية، التي تعاني الفقر الشديد، والطاردة لسكّانها، هؤلاء السكان الذين ما أن يصلوا إلى القارة الأوروبية حتى يتحوّلوا إلى متمسّكين متشدّدين بهوياتهم الدينية التقليدية، وهذا ما يمثّل عقبة أمام اندماجهم الثقافي والاجتماعي في الثقافة الأوروبية. 

إنّ جانباً كبيراً من الأزمات التي يعاني منها الإسلام المعاصر يرجع إلى فشل المجتمعات الإسلامية في اختبار الحداثة

كما لا يمكننا الحديث عن "إسلام أوروبي"، وإغفال الطبيعة النوعية للهجرات الإسلامية لأوروبا، فنسبة عالية من مسلمي ألمانيا والنمسا من الأتراك، ونسبة عالية من مسلمي فرنسا من دول المغرب العربي؛ نظراً إلى الماضي الاستعماري الفرنسي في هذه الدول، ولارتباط شعوبها ثقافياً بفرنسا، ونسبة كبيرة من مسلمي إنجلترا من باكستان وبنجلادش لنفس الأسباب، هؤلاء المهاجرون المسلمون لا يحملون الهوية الإسلامية وحسب؛ بل يحملون بجانبها بقايا من هوياتهم القومية الأصلية؛ بل إنّ هوياتهم الإسلامية ليست واحدة، فهي تتعدّد باختلاف أشكال التدين الإسلامي في العالم العربي وتركيا وجنوب شرق آسيا، ونخطئ كثيراً إذا ما وضعنا كلّ هذه الاختلافات في سلة واحدة، وتحدّثنا عن إسلام أوروبي، ربما كان الحديث عمّا يسمى "الإسلام الأوروبي" نابعاً من توجّه مزدوج لدى بعض الأوروبيين لمعاملة كلّ المهاجرين من خلال هوياتهم الدينية، بحيث تكون المشكلة هي مشكلة المسلمين في أوروبا المسيحية، ولدى بعض الإسلاميين الذين يريدون جمع كلّ مسلمي أوروبا في هوية واحدة، ومعالجة مشكلاتهم على أنّها مشكلة واحدة دينية، فالأمر أكثر تعقيداً من ذلك بكثير.

إذا كان على مسلمي أوروبا التعايش والاندماج هناك، فإنّ الأمر الواقع يفرض عليهم تبنّي القيم الأوروبية نفسها؛ في التسامح ومبادئ الحياة المشتركة، وهذا لا يتم إلّا بالتخلي عن كثير من التراث السلفي الذي ورثوه من بلادهم الأصلية، ومن المجتمعات الإسلامية المغلقة التي تشكلت في أوروبا، ويبدو أنّ هذا التعايش الذي سيفرض عليهم ممارسات جديدة للتدين، وفهماً مختلفاً لدينهم، يمكنه أن يغيّر من وجه الإسلام الأوروبي، وربما الإسلام نفسه في كلّ العالم.

إنّ جانباً كبيراً من الأزمات التي يعاني منها الإسلام المعاصر يرجع إلى فشل المجتمعات الإسلامية في اختبار الحداثة، لكنّ هذه الحداثة كانت، بالنسبة إلى العالم الإسلامي، آتية من خارجه، وفي الغالب مفروضة عليه سلطوياً. أما المسلمون في أوروبا، فهم في قلب الحداثة، ويعيشون وسط مكان نشأتها، بالتالي، فإنّ تجربتهم هناك مختلفة نوعياً عن تجربة اللقاء بين الحداثة والمجتمعات الإسلامية داخل العالم الإسلامي، ويمكن أن يشكّل وجود المسلمين في بلاد منشأ الحداثة فرصة تاريخية لإيجاد حلّ لأزمة الإسلام مع الحداثة.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية