جون قرنق.. قربان جنوب السودان لم يمنع الخراب

جون قرنق.. قربان جنوب السودان لم يمنع الخراب


26/09/2018

"دينق ديت" هو الإله الأكبر، بحسب مُعتقدات قبيلة "الدينكا" في جنوب السودان، ويُقال إنّه ابن السيدة (ألوت)؛ وكلمة الدينكا معناها "بنت المطر"، أو "هبة المطر".

وقيل: إنّ "دينق ديت" كان الصلة بين أمه والإله (خالق الخلق)، لكن يوماً ما، حين كانت السماء تُنزل ماءها رذاذاً رائعاً على الجميع؛ البشر والحيوانات والشجر والنباتات، وترسم على قبيلتها "قوس قزح"، قرّرت "ألوت" الصعود إلى السماء، تاركة ابنها الوحيد سنداً لشعب الدينكا، ليكون مصدر ضوء واستنارة وخلاص لهم.

بحلول العام 1983 شغل العقيد قرنق منصب مدرب في الأكاديمية العسكرية في وادي سيدنا 21 كيلومتراً من مركز أم درمان

مُذ ذاك، وحتى اليوم، وفي موسم الحصاد، يتقرب كلّ فرد من شعب الدينكا بثور أو خروف من أفضل القطيع، إلى روح (ديت) تيمناً وتبركاً. 

ربما كان "جون قرنق" القربان الأغلى، الذي قدمته قبيلة الدينكا إلى الإله "دينق ديت"؛ عندما تحطمت مروحية رئاسية أوغندية كانت تقلع من كمبالا إلى جنوب السودان، إثر اصطدامها بسلسلة جبال أماتونج، نتيجة انعدام الرؤية وفرط الأمطار الغزيرة، في 30 تموز (يوليو) 2005.

وفي موسم الأمطار؛ صعدت "بنت المطر" إلى السماء، تاركة ابنها ديت دينق، وفي موسم الأمطار أيضاً صعد جون قرنق إلى السماء، لكنّه، على ما يبدو، لم يجد أحداً ليتركه ملهماً لأبناء وطنه، فها هم يتقاتلون على حدّ سيف القبيلة، ويريقون الدماء على أسنتها الطاعنة.

"دينق ديت" هو الإله الأكبر بحسب مُعتقدات قبيلة "الدينكا"

حرب الغوريلا

عام 1945؛ شهدت قرية "بيوك نيوك" بمحافظة جونقلي في جنوب السودان، إنجاب السيدة "كاك ملوال كول" لطفل بعينين صغيرتين براقتين، وكأنهما تتوقان للمطر، فقرّر والده "مبيور أتيم"، أن يكون اسمه "قرنق"، ثم منحته الكنيسة، بعد التعميد، اسم "جون"؛ أي "يوحنا المعمدان"، فصار الطفل، لاحقاً، يحمل اسم "جون قرنق دي مبيور".

اقرأ أيضاً: جنوب السودان.. الموت بين يدي ساحري القبعة والعصا

ما بين مدينة بور جنوب السودان، وتنزانيا وجامعة الخرطوم، و"أيوا" بالولايات المتحدة الأمريكية، حقّق "قرنق" مساره الأكاديمي بنجاح فائق، إلّا أنّه انضمّ إلى حركة "أنانيا" المتمردة على السلطة المركزية في الخرطوم، العام 1962، وعمل مدرّساً  بمدرسة  "كانتوناقا" الثانوية، في كينيا، العام 1963، وبعد أعوام انخرط في ما كان يسمّى  "حرب الغوريلا"،  ضمن حركة "أنانيا"؛ مع حكومة الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري (1972)؛ الأمر الذي أتاح لقرنق الانضمام إلى القوات المسلحة السودانية برتبة نقيب، ضمن الدفعة (18)، وهي الدفعة ذاتها التي التحق بها الرئيس السوداني الحالي عمر البشير.  

ترقّى الرجل في الرتبات العسكرية حتى وصل رتبة (كولونيل/ عقيد)

روح قلقة

ترقّى الرجل في الرتبات العسكرية، حتى وصل رتبة (كولونيل/ عقيد)، ونال دورة عسكرية متقدمة لضباط المشاة في (فورت بينينغ، جورجيا)، في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه، في الاقتصاد الزراعي، من جامعة ولاية أيوا، بعد كتابة أطروحة عن التنمية الزراعية في جنوب السودان.

وبحلول العام 1983؛ شغل العقيد قرنق منصب مدرب في الأكاديمية العسكرية في وادي سيدنا، 21 كيلومتراً من مركز أم درمان؛ حيث قام بتدريب الطلبة لأكثر من أربعة أعوام، ولاحقاً تمّ ترشيحه للعمل في إدارة البحوث العسكرية في الجيش.

اقرأ أيضاً: السودان..هل ينجح البشير في معالجة أزمة الاقتصاد؟

إلا أنّ أمراً ما حدث في الجنوب، العام 1983، جعل قيادة الجيش السودان حينها، تبعثه إلى هناك، لعلّه يتمكن من إخماد تمرد الكتيبة (105)، المكوّنة من جنود جنوبيّين، عندما هاجم أفرادها، لكنّه ما إن حلّ بينهم حتى انضم إليهم، وأسّس "الجيش الشعبي لتحرير السودان" في العام ذاته، ثم أنبت لها ذراعاً عسكرية أسماها "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، التي واصلت حربها العسكرية والسياسية ضدّ كلّ الحكومات السودانية المتعاقبة منذ ذلك الوقت، إلى أن وقّع اتفاقية السلام الشامل مع حكومة البشير الإسلاموية، العام 2005.

عواصف داخل الحركة    

عُرف "قرنق"، خلال مسيرته الثورية المديدة، بروحه المتوقدة، وذكائه الفائق، وحضوره الفذّ، فقد كان يتمتع بـ"كاريزما" قلّ نظيرها بين القادة الإفريقيين، لكن تلك "الكاريزما" لم تشفع له؛ حيث تعرضت حركته لعواصف كثيرة كادت أن تقتلعها من جذورها، لولا "نوع من العناية" السماوية، كان يلحق بها لينقذها، ربما كانت تتنزل عليها روح السيدة "ألوت" من السماء لتثبت أقدامها على الأرض.

اقرأ أيضاً: لهذه الأسباب تنتشر ظاهرة تبييض البشرة بين السودانيات

كان أول انقسام كبير في جسم الحركة، هو انشقاق أهم ثلاثة أعضاء في قيادتها السياسية العليا، وإعلانهم عن مجموعة جديدة، أطلقوا عليها "الحركة الشعبية – مجموعة الناصر"، في 27 آب (أغسطس) 1991، ووقعوا اتفاقاً للسلام مع حكومة الإسلامويين في الخرطوم، وهي في أوج "حماسها" الجهادي حينها، فكافأتهم بتعيين اثنين منهم في مناصب رفيعة "لام أكول ورياك مشار)، فيما ألحق الثالث، وهو القائد "غوردون كوانق"، بالجيش في رتبة رفيعة.

استطاعت مجموعة الناصر، أن تحدث انشقاقاً حقيقاً داخل الحركة الشعبية، إلا قرنق، بذل جهداً خارقاً، لاحتوائها والإبقاء على حركته متماسكة، ونجح في ذلك بفضل قوته الذاتية وارتباطاته الإقليمية والدولية.

اقرأ أيضاً: أحلام صغيرة من شرق السودان!

لكن عاد الأمر إلى الأسوأ، في أواخر العام 1992، حين أعلن الرجل الثاني في الحركة الشعبية والجيش الشعبي، نائب (قرنق) حينها (وليم نون باني)، خروجه على قائده، ودعا جيش الحركة للانضمام إليه، ودارت معارك حامية الوطيس بين الطرفين، خلّفت آلاف القتلى والجرحى، وتمكن ثلاثة من القادة المؤسسين للحركة الشعبية، كانوا معتقلين في سجونها من الفرار إلى الخرطوم، وسلّموا أنفسهم لحكومة البشير، وهم: (كاربينو كوانين، أروك طون، فاوستينو أتيم قوالديت)، ثم انشقّت مجموعة أخرى من القادة، أطلقت على نفسها  "مجموعة توريت"، وتمرّد أيضاً قادة آخرون، لا يقلون أهمية وهم: (مارتن ماكور أليو)، و(ماجور نيال)، والقاضي السابق (مارتن ماجير قاي)، ورغم تلك العواصف، استطاع  قرنق السيطرة على الأوضاع وبناء الحركة من جديد، والذهاب بها من انتصار إلى آخر، على المستويين السياسي والعسكري، إلى أن وقّع اتفاقية السلام الشامل مع الحكومة السودانية.

حيث السيدة "ألوت"

عقب التوقيع على اتفاقية السلام الشامل، التأمت الحركة الشعبية مع حزب المؤتمر الوطني بقيادة الرئيس البشير في حكومة واحدة وبرلمان واحد، وبذلك أنهت عقوداً من القتال الضاري والموت المجاني والحرب العبثية، وعُيّن قرنق نائباً أول للبشير، وحظي باستقبال لم يحدث في تاريخ السودان، القديم أو الحديث؛ حيث تجمع مئات آلاف السودانيين في الساحة الخضراء بالخرطوم، للاستماع إليه، خاصة أنّه كان يدعو إلى الوحدة، ولا يريد انفصال الجنوب عن الوطن الأم.

اقرأ أيضاً: انهيار الدولة السودانية: فتّش عن خطاب الإقصاء والتزمت

لم يلبث الرجل في منصبه غير بضعة أيام، فغادر متوجّهاً إلى منطقة "نيوسايت"، بجنوب السودان، ثمّ انعطف منها قليلاً إلى أوغندا المجاورة، لمقابلة رئيسها "يوري موسفيني"، وعقد معه عدة اجتماعات، لا أحد يعرف فحواها حتى الآن، ثم تكرم عليه الأخير بمروحية رئاسية لتعود به حيث أتى، في طقس ومناخ ملؤهما الأمطار الغزيرة والرعود والبروق، التي تخلع القلوب وتخطف الأبصار.

وقيل: إنّ الطائرة ارتطمت بجبال أماتونج، واختفى قرنق، مرة وإلى الأبد، بين طيات السحاب وزخات المطر.. وكأنه صعد إلى السماء حيث السيدة "ألوت".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية