جسد في الرباط.. وقلب في إسطنبول!

جسد في الرباط.. وقلب في إسطنبول!


26/08/2018

محمد عبد الوهاب رفيقي


من المفهوم جدا أن يتابع المرء باهتمام بالغ تطورات الأزمة الأمريكية-التركية، وتداعيات انهيار الليرة التركية، فالأمر يتعلق بالقوة العظمى في العالم، وهي تناوش تركيا البلد الذي أصبح في سنوات قليلة رقما صعبا على مستوى السياسة والاقتصاد، مع ما لتراجع الليرة من أثر على شعوب غدت أكثر ارتباطا بالتجارة التركية ووارداتها، فضلا على أن الحدث استأثر بالعناوين الأولى بمختلف القنوات الإخبارية والمواقع الإعلامية.

كل ذلك مفهوم ومقبول وبدهي، ولكن الذي يحتاج لتوقف هو هذا الحماس المفرط والشحن العاطفي من كثير من أبناء حركات الإسلام السياسي تجاه رئيس دولة أجنبية يدبر بطريقته أزمته الداخلية، بلغ ذلك حدا تجاوز التعاطف المقبول والذي ليس لأحد منعه ولا الحجر عليه، إلى التعصب الأعمى لرئيس تركيا يحيث يعد المنتقد له أو المتحفظ على سياساته خائنا للأمة ناقضا لثوابتها، بل بلغ ذلك حد اعتبار طيب اوردوغان خليفة للمسلمين ورمزا لهم، تنعقد عليه آمال تجاوز كل النكسات والكوارث التي عرفها التاريخ الإسلامي.

ظاهرة تستحق التوقف، لم كل هذا الحماس لتركيا وزعيمها، مع أن الأمر يتعلق بأزمة تركية لا تعني إلا أصحابها، وليس لنا منها إلا المتابعة كما نتابع أخبار دول أخرى بمناطق إسلامية وغير إسلامية، لم تحولت القضية من أزمة دولية إلى تعاطف إيديولوجي وشحن ديني وكأن هؤلاء المغاربة في أعناقهم بيعة للرئيس التركي لا يحل نقضها ولا التراجع عنها؟.

واقع الحال أنه منذ سقوط الخلافة الإسلامية بتركيا نفسها عام 1924 على يد مصطفى كمال أتاتورك، وحركات الإسلام السياسي تحلم باستعادتها، وتمني النفس بعودتها، وتبحث بكل الأساليب والطرق عن سبيل لإعادة تحقيقها، من الانقلابات العسكرية، إلى الحركات الجهادية، فالعمل السياسي والانتخابات البرلمانية والرئاسية، انتهاء بداعش وتنزيلها المتوحش الذي جعل الجميع يعلن براءته منها، ومع كل هذا الفشل، وكل هذه الخيبات والنكسات المتوالية، أصبح البحث عن الزعيم والنموذج ديدن هؤلاء الشباب، ولو كان ذلك بكثير من التنازل عن شروط الخليفة التي ذكرها الفقهاء في ما عرف بكتب " السياسة الشرعية" و " الأحكام السلطانية".

فلا حرج أن يكون الرئيس الزعيم علمانيا ويصرح بذلك، بل يدعو زعماء المسلمين إلى اتخاذ العلمانية منهجا وسبيلا من قلب القاهرة، ولا حرج أن يقسم على الوفاء لمبادئ أتاتورك، وهو المصنف عقديا ب" عدو الإسلام والمسلمين"، ولا إشكال في سنه للقوانين الوضعية المخالفة ل " الشريعة"، بل والتصريح بأنه لا يمكن الحكم بقوانين مضى عليها أكثر من أربعة عشر قرنا، ولا حرج في تقنين الدعارة والترخيص بمزاولتها رسميا بموجب قانون اقترحه حزب الخليفة نفسه وصادق عليه نوابه البرلمانيون، ولا بأس بغض الطرف عن الترخيص للمثليين الذي يرى الفقهاء استحقاقهم للقتل بتنظيم المظاهرات الضخمة وإصدار المجلات ، بل واصطياد الزبائن في الشوارع العامة لمن يزاول منهم الدعارة.
ورغم أن كثيرا مما سبق دعم للحريات الفردية والجماعية التي هي قوام الدولة الحديثة، لكنها بمنطق الممجدين حرب على الإسلام وهدم لقيمه وأصوله...

لا حرج في أن يقوم اقتصاد دولة الإسلام بتركيا على القروض التي يراها القوم ربوية، وعلى عوائد الدعارة ومداخيل السياحة التي في غالبها أنشطة مصنفة في خانة " المجون" و " الفسق"  و " المال الحرام".

وعلى صعيد السياسة الدولية، لا حرج أن تكون دولة الخليفة عضوا بحلف الناتو الذي تتسيده الولايات المتحدة الأمريكية، وأن تفتح تركيا مجالها الجوي للطائرات الأمريكية المتجهة لضرب العراق، مع إمدادها بالوقود وإعادة الإمداد.

بل حتى قضية فلسطين، والتي رفعت من شعبية الزعيم وجعلت له أتباعا وعشاقا من كل بلاد المسلمين، لا حرج في أن تتحول العلاقات التركية الإسرائيلية على العهد الجديد من كونها علاقات " قوية" إلى علاقات " استراتيجية"، وأن تكون إسرائيل المورد الأول للسلاح بالنسبة لتركيا، وأن يبلغ التعاون العسكري مدى احتضان تركيا لمصانع الأسلحة الإسرائيلية، وتوقيع مختلف اتفاقيات التعاون العسكري.

كل ما سبق لا حرج فيه، وسنغض عنه الطرف والأبصار، أو سنقنع أنفسنا بأنه كذب ودعاية مضادة، يكفي أوردوغان أن يقاطع بيريز بمنتدى دافوس وينسحب من جلساتها، أو أن يتغنى بأمجاد سليمان القانوني وسليم الأول في خطاب محلى بشيء من البكاء والعبارات الرنانة، أو أن يظهر في صورة ويده على رأس طفل سوري من أبناء اللاجئين، لينصب خليفة للمسلمين، ولتعقد عليه الآمال ل " تحرير" الأمة الإسلامية واستعادة ريادتها، وليصير النموذج والقدوة والزعيم ،بل المقدس الذي لا يحل نقده ولا لومه.

مؤسف جدا هذا التعلق الساذج المبني على دغدغة العواطف والمشاعر والأحلام، وما ينتج ذلك من تجييش وشحن وتهييج، فهو دليل على ضعف الوعي وبساطة التفكير، بل على غياب مستمر للعقل والنظر السليم، وهو ما لا يدفع للتفاؤل بتغيير على المستوى القريب، ويحفز على القيام بجهود أكبر لعقلنة مجتمعاتنا وترقيتها.

خلاصة الحديث: ما يقع بتركيا شأن يعني الأتراك ولا يعني غيرهم، ولا معنى في دولة وطنية حديثة، أن يكون جسدك بالرباط، وقلبك معلق بين إسطنبول وأنقرة.


عن "TelQuel"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية