سفر برلك.. كيف عبر الوجدان الشعبي العربي عن استبداد الأتراك؟

العثمانيون

سفر برلك.. كيف عبر الوجدان الشعبي العربي عن استبداد الأتراك؟


03/05/2020

ترتبط أغاني التراث بالواقع السياسي والاجتماعي زمن تأليفها، وهي تعبر عن وعي الشعوب ونظرتها للأحداث والتحولات من حولها، وبواسطتها تتشكل ذاكرة شعبية تعبر للأجيال اللاحقة، فتذكرها باستمرار بما لاقاه الآباء والأجداد من عناء، بما يؤكد الوفاء لهم، ويدفع لمواصلة مسيرتهم.
السفر برلك
قرر قادة الدولة العثمانية دخول الحرب العالمية الأولى إلى جانب الإمبراطوريتين؛ الألمانية والنمساوية في مواجهة جيوش الإمبراطوريات الفرنسية والبريطانية والروسية، وهو ما دفع السلطات التركية إلى فرض التجنيد الإلزامي لتوفير أعداد كبيرة من الجنود، كانت غالبيتهم من الشعوب الخاضعة لها من غير التركية، وخاصة من البلاد العربية؛ حيث أصدرت السلطات فرمانات خاصة بالتجنيد، إضافة إلى فرض ضرائب باهظة ومصادرة المحاصيل من الفلاحين لتوفير المال والغذاء اللازم للجيوش العثمانية المتجهة للجبهات.

كان تجنيد "السفر برلك" بالنسبة للشاب العربي يعني وداعاً أخيراً وغياباً بلا رجعة

كانت القوات العثمانية تحاصر القرى والمدن وتفتش عن الشباب والرجال فيها، ولم تكن تعفي إلا من يتوفر عنده المال ويدفع ثمناً باهظاً مقابل إعفائه، وهو ما لم يكن متوفراً إلا عند قلة قليلة من المخاتير والوجهاء، وبعد جمع المجندين، يتم إرسالهم إلى جبهات بعيدة عن ديارهم. وهكذا، فارقت أعداد كبيرة من الشبان العرب أهلهم وأحبتهم ومواطنهم إلى مصير مجهول، غالبيتهم لم يعودوا، ولم يعرف أحد أين ماتوا أو كيف دفنوا.
بالنسبة للشاب العربي، كان التجنيد الإلزامي يعني وداعاً أخيراً، وغياباً بلا رجعة؛ ولذا كان يفرّ عدد كبير من هذا المصير، وكانت القوات التركية تطارد الهاربين وتلقي القبض على من تعثر عليه، وقد عرفت حملات التجنيد الإلزامي عند العرب بـ"سفر برلك".

اقرأ أيضاً: تركيا ما بعد فوز أردوغان.. ما شكل "العثمانية الجديدة"؟
وكانت سنوات الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) تعرف بـ"أيام سفر برلك". وكلمة "السفر برلك" هي تعريب للجملة التركية "سافاس الك" وتعني "الحرب الأولى"، وكان المقصود بها بدايةً حملة قناة السويس الأولى العام 1915، وسُمّيت كذلك لأنها الحملة العسكرية الأولى التي شنها الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى، والتي استهدفت القوات البريطانية في مصر، ولكن، وبعد فشل حملة السويس أُرسل المجندون إلى أوروبا وإلى جبهة القفقاس لمواصلة القتال طوال سنوات الحرب العالمية، وبذلك استمر "السفر برلك" حتى العام 1918.

استمر "السفر برلك" حتى العام 1918

هي يمّا ودعيني
في شمال فلسطين تحديداً، ظهر لون غنائي شعبي في فترة "السفر برلك" عرف بـ"الشلعيات" وهي مجموعة من الأغاني الشعبية سُميت بذلك؛ لأنها "تشلع" القلب من شدة الألم، وتحكي قصص الشبان وهم يودعون أهلهم الوداع الأخير؛ حيث كان المتعارف عليه أنّ من يذهب للقتال في الحرب آنذاك يغيب دون عودة ولا يعرف أين يموت وكيف سيدفن.

اقرأ أيضاً: كيف سهّل العثمانيون توطين اليهود بفلسطين قبل وعد بلفور؟
وفي العام 2011 بادرت الفنانة الفلسطينية "سناء موسى" إلى جمع عدد من الأغاني التراثية عبر سماعها ونقلها عن كبار السن، وكان من ضمنها أغنية "هي يمّا ودعيني"، التي تنتمي إلى لون "الشلعيات"، وتعود إلى زمن "السفر برلك"، وتحكي قصة شاب يودع أمه، وهو على مشارف الالتحاق بحملات التجنيد، واستطاعت هذه الأغنية بألحانها الحزينة وكلماتها المؤثرة أن تخلّد وجع آلاف الشباب وأمهاتهم.
ومن كلمات الأغنية:
هي يمّا ودعيني قبل ما أمشي
ما تدري بعثراتي وأنا أمشي
هي يما ودعيني قبل ما روح
ما تدري بعثراتي وين أروح
ما صبر صبري لا يوسف ولا نوح
ولا أيوب لمنه ابتلى

 

 

عالأوف مشعل
مشعل هو شاب فلسطيني من إحدى القرى في شمال فلسطين، رفض قانون التجنيد الإلزامي، وفر مع مجموعة من رفاقه من العسكر التركي الذي أتى وحاصر قريتهم، وظل مشعل متخفياً ومطارَداً إلى أن ألقى العسكر القبض عليه، ليتم اقتياده إلى التجنيد الإجباري ونقله إلى جبهات القتال البعيدة.
وفي الحكاية أنّ مشعل عندما قُبض عليه كان مختبئاً قرب عين ماء، وعندما طلب العسكري التركي منه إبراز وثيقته، قدّم له ليرة ذهب ليتركه وينصرف، إلا أنّ التركي أخذ الليرة واعتقله.

اقرأ أيضاً: مريم المهدى تطالب أردوغان بالاعتذار عن جرائم العثمانيين في السودان
وبعد اختفاء مشعل غنّت له حبيبته الأغنية الشهيرة "عالأوف مشعل"، التي تذكر مظاهر حياة الفلاحين في القرية الفلسطينية، التي انتزع "مشعل" منها ليخوض حرباً لا تعنيه، ولا عودة منها.. صارت هذه الأغنية حكاية كل شاب فلسطيني فرض عليه الجيش التركي آنذاك المشاركة في "السفر برلك"، وصار مشعل رمزاً لكل شاب عربي اختفى وبكاه أهله.
وتقول كلمات الأغنية:
عالأوف مشعل أوف مشعلاني
ماني تبلّيته، هو اللي تبلاّني
سلّم عَ التين وسلّم عَ الدوالي
سلّم عالأرض عليّي زعلانة
ياما كعدنا عَ النبعة خلواني
ليالي السمر في شهر نيسانِ
يا ريح سلّملي على أوطاني
ع العين سلّم، مورد الغزلان
سلم عالدار، سلم ع خلاّني
سلّم على امي، من الدونِ فزعانة
محلا الشبّابة ودبكة الدلعونا
بين الدواليب وكروم الزتونا
ستي عم تخبز ع ردم الطابونا
صبايا بتغزل وتغني الأغاني
سلم ع الديرة، قبل روابيها
ع القمح البلدي المملّي خوابيها
وسلم ع الديرة، سلّم ع اللي فيها
سلّم ع الدلّة وشبيات الرعيان
قلت يا بحر: يا بحر الجدود
هدي بالموج ع ظهرك وسود
نذرن علي مشعل لما يعود
ل زيّن الدار وأحلي الجيران

 

 

دوارة عالدوارة
وفي لبنان أيضاً، عانى الأهالي من حملات التجنيد الإلزامي واعتقال الشباب واقتيادهم إلى الجبهات، وفي العام 1967 أخرج المخرج المصري هنري بركات فيلماً بعنوان "سفر برلك"، من تأليف الأخوين رحباني (عاصي ومنصور الرحباني)، وبطولة "فيروز"، ويحكي الفيلم قصة "عدلا" (فيروز)، الفتاة التي تعيش مع جدتها في ضيعة "مجد الديب"، وكانت تنتظر يوم خطبتها من حبيبها "عبدو". ولكن،  وبينما كانت عدلا في طريقها لشراء محابس الخطبة، قبض العسكر العثماني على عبدو، من أجل أن يعمل بالسخرة في الجيش التركي.

تحوّل الشاب مشعل الفلسطيني إلى رمز لكل شاب عربي اختفى وبكاه أهله

تضمن الفيلم عدداً من المشاهد الغنائية التي حكت أحداث القصة، وكان من ضمنها أغنية الدبكة "دوارة عالدوارة"، التي تحكي فيها عدلا وجع فراق عبدو لها بعد اعتقاله.
ومن كلماتها:
دوارة عالدوارة دار الحكي
هجروا الأحبا الحارة ليش البكي
دوارة علي قاصد يقطف حبق
وبأيام الحصايد قلبه احترق
قالت لي شفتك قاعد تكتب ورق
قلت لـهـــا هالقصايد كلهن لك

 

 

إخوة التراب
شملت حملات "السفر برلك" عموم بلاد الشام والعراق والحجاز، فكانت قرى ومدن سوريا شاهدة عليها، وهو ما حاول المخرج السوري "نجدت أنزور" إعادة حكايته في المسلسل الملحمي "إخوة التراب" الذي عُرض العام 1996، وهو من تأليف حسن يوسف، وبطولة أيمن زيدان وسوزان نجم الدين وسامر المصري، وصدر منه جزء ثانٍ العام 1998.

في شمال فلسطين ظهرت أغاني "الشلعيات" التي تحكي قصص شباب ودعوا أهلهم الوداع الأخير إلى مصير مجهول

ويحكي المسلسل قصة إجبار الأهالي على الالتحاق في "السفر برلك"، ومحاولة هرب الشباب منه؛ حيث يختبئ البطل "اسماعيل" (أيمن زيدان) مع مجموعة من شباب القرية، قبل أن يُقبض عليهم ويجبروا على الانضمام إلى الجيش التركي في حملته المنطلقة من محطة القطار بدمشق والمتجهة إلى السويس عن طريق فلسطين.
وقد وضعت أغنية شارة للمسلسل تعبر عن المعاناة ومقاومة الظلم، تقول كلماتها:
مهما الليل جن وجار.. مهما التلج
مهما الحر داق المر.. الليل بعتماتو في نهار
والمرج يزهر نوار، والحب بيكشف أسرار
والحر بيتكلل بالغار.. بيتكلل بالغار
مهما الظلم.. تم وعم.. لابد يزولوا الظُّلام
مهما الحرب تدمي القلب، لابد يعم السلام
اخوة التراب نحنا، والغدر جارحنا
والحر بيتكلل بالغار
والمرج يزهر نوار
والحب بيكشف أسرار
والليل بعتماتو في نهار
والحر بيتكلل بالغار، بالغار

 

 

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية