دين المسلمين وأيديولوجيا الإسلاميين

دين المسلمين وأيديولوجيا الإسلاميين

دين المسلمين وأيديولوجيا الإسلاميين


18/09/2023

من نافل القول إنّ الإسلاميين جميعاً مسلمون، غير أنّ ما ينبغي التشديد عليه وتأكيده دوماً، برغم وضوحه وبساطته، أنّ المسلمين في سوادهم الأعظم ليسوا إسلاميين.

المسلمون هم من يدينون بالإسلام، في حين أنّ الإسلاميّين هم فئات من المسلمين محدودة العدد للغاية، عملت وتعمل على تحويل الدين الإسلامي إلى أيديولوجيا للهيمنة والتسلّط؛ فاستثمرت فيه بشتّى السبل والوسائل خدمةً لمشاريع سياسية تتغطّى بالإسلام، لكن لا شأن للدين بها حقيقةً؛ بل إنّ الإسلام نفسه هو الأكثر تضرّراً نتيجة للمشاريع السياسية التي تتلطّى خلفه. بفضلها، يضمر بعده الروحي والأخلاقي لصالح مرويات تاريخية تتصل بشؤون الدنيا وصراعاتها، انتزعها الإسلاميون من سياقها التاريخي وأعادوا إنتاجها وتكييفها بما يخدم مصالحهم، وبالغوا في إلباسها أثواباً من الإجلال والمهابة تقارب حدود التقديس والعصمة، حتى كاد تاريخ المسلمين أن يصبح هو "الإسلام"، عوضاً عن كونه تاريخاً دنيوياً، معظمه صراعٌ سياسيّ أبطاله بشرٌ ودول وممالك.

الإسلاميون فئات محدودة من المسلمين عملت وتعمل على تحويل الدين الإسلامي إلى أيديولوجيا للهيمنة والتسلط

استلهم الإسلاميون "إسلام التاريخ" ذاك، لا سيما صفحاته الإمبراطورية، بصورة انتقائيّة مفخّمة ومضلّلة لصوغ أيديولوجيتهم زاعمين أنّها "الإسلام" الذي "يصلح لكل زمان ومكان"، وأنّها بما تحمل من "رؤية شاملة للعالم" ستعيد أمجاد المسلمين. ولا ينسى الإسلاميون تأكيد أستاذيتهم وتفوّقهم على العالمين، مسلمين وغير مسلمين، فهم خير من يدرك كنه هذه الرؤية وسبل تطبيقها، وهم إذ يبدؤون بفرضها على محيطهم الأقرب، لا يخفون طموحهم في أن تشمل العالم بأسره.

اقرأ أيضاً: ما بعد الإسلام السياسي: هل انتهى الشكل التقليدي للحركات الإسلامية؟

لعلّ من المفيد في هذا السياق أن نستحضر الراحل ياسين الحافظ، أحد المفكّرين العرب الذين ألحّوا باكراً على التمييز بين الإسلام وبين الأيديولوجيا الإسلامية، فتناول بالنقد والتحليل "الأيديولوجيا الإسلامية"، في مراحل تاريخية معينة، وليس دين الإسلام بحدّ ذاته. وقد أشار رفيق دربه المفكّر الراحل الياس مرقص أيضاً إلى تبنّيه التمييز الذي يقيمه الحافظ بين الدين والأيديولوجيا الدينية، واصفاً ذلك التمييز بأنّه "فتح فكري"، ومؤكّداً من موقعه العلماني عدم وجود موقف سلبيّ ضد العقيدة الدينية، "أما الأيديولوجيا الدينية؛ أي الدين بين أيدي الناس وأيدي الأحزاب وأيدي رجال الدين فهذا موضوع مختلف".

اقرأ أيضاً: الدين والتنوير العقلاني والسياسي

لقد ظهرت الأفكار الدينية بادئ الأمر نتيجة سعي البشر لفهم العالم من حولهم ومعرفة أسرار الحياة والوجود بما يطرحانه من إشكاليات وتساؤلات واجهها العقل البشري. وتطوّرت عبر العصور تصوّرات الإنسان إزاء العالم الذي يعيش فيه. حملت تلك التصوّرات أجوبةً مختلفة حول الكون والإنسان والعلاقة مع الغيب وفكرة الموت وما بعد الموت، وسواها من المسائل الفلسفية الجدلية. ونتيجة اقتناع الأفراد بهذه الفكرة أو تلك نشأت الجماعات الدينية، وصيغت القواعد والنواظم المشتركة سلوكياً وأخلاقياً بين معتنقي كلّ دين، فضلاً عن ممارسة الطقوس والشعائر التي تعبّر عن الهوية الدينية للفرد وتؤكّد التزامه بها.

استلهم الإسلاميون "إسلام التاريخ" بصورة انتقائيّة مفخّمة ومضلّلة لصوغ أيديولوجيتهم زاعمين أنّها "الإسلام"

هذا كلّه يبقى شأناً فردياً وروحياً في جوهره، قوامه تفكير الفرد وضميره، وميدانه الرئيس هو "النفس" أو العالم الروحي للأفراد، ولأجل هذا جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة."

إنّ ما يؤمن به المسلمون العاديون، إن جاز التعبير، هو دينهم الفطري الذي لا شأن له بما يدّعيه الإسلاميون من إفراط في المظاهر والشكليات، فهذه، إلى جانب المزاودات الخطابية والشعارات الإيمانية البرّاقة، وسائل لاستمالة المسلمين واستثارة مشاعرهم واستغلال إيمانهم، تمهيداً لحكمهم والسيطرة عليهم باسم "الإسلام". لذلك يرفض الإسلاميّون بالمطلق الإقرار بأنّ الدين شأنٌ شخصيّ يتعلّق بالأفراد ويتأسّس على العلاقة بين الإنسان المؤمن وربّه في المقام الأول. فهذا القول الذي يعبّر عن بساطة الدين وروحانيته، يتناقض كلّياً مع الإأديولوجيا التي يحملونها ويريدون أسر المسلمين فيها والاستبداد بهم من خلالها، فضلاً عن كونه أحد المبادئ الأساسية للعلمانية، والتي تمثّل كلّ ما يناقض مشروعهم. من جهة ثانية، يحول إقرارهم بهذه الفكرة دون تدخّلهم في شؤون الأفراد وفرض الوصاية عليهم، في المأكل والملبس وتفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها، أو بالأحرى "أسلمتهم" من جديد وفق ما يتناسب و"الأيديولوجيا الإسلامية" الخاصّة بالإسلاميين.

يرفض الإسلاميّون الإقرار بأنّ الدين شأن شخصي يتأسّس على العلاقة بين الإنسان وربّه في المقام الأول

المؤسف أنّ ما يتمتّع به الإسلاميون من دعم وإمكانات، واستغلالهم البارع لحالة الإحباط المزمن لدى المجتمعات الإسلامية، نتيجة الفقر والبطالة وظروف القمع والاستبداد السياسي، ساهمت في رواج أفكارهم باطّراد، لا سيما في أوساط الشباب. وإذا كان منظّرو الإسلاميين وقادتهم وداعموهم يعرفون في طويّتهم زيف علاقتهم بالدين، ويدركون جيداً ما يفعلونه من توظيف سياسيّ له، إلا أنّ ضحاياهم من الأتباع المخدوعين بأيديولوجيتهم يظنّون أنّهم اهتدوا إلى "صحيح الدين"، في حين أنهم باتوا من حيث لا يدرون مجرّد أدوات لدى من أساؤوا حقاً إلى الدين.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي بوصفه تعبيراً عن أزمتين

إنّ الأديان جميعاً لا تخلو من بعدٍ أيديولوجيّ ما، نظراً لانتمائها إلى حقل الأفكار والعقائد. لكنّ هذا البعد المشار إليه شيء، وتحويل الدين إلى أيدولوجيا وإحلالها محلّه، على نحو ما يفعل الإسلاميون، شيء آخر تماماً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية