"اللحم لك والعظم لنا" توصية تتلقفها المدارس بحفاوة!

"اللحم لك والعظم لنا" توصية تتلقفها المدارس بحفاوة!


18/02/2018

لم تزل المدرسة في مجتمعاتنا العربية مكاناً لتكريس المكرّس بدل أن تكون مكاناً لانتفائه. ماذا تكرّسُ المدرسة؟ يبدو أنّها تكرّس الصورة النمطية الاجتماعية للفرد، وبعبارةٍ أخرى، إنّها تُكرّس النفوذ الاجتماعي وسلطته المبنيّين على تهميش الفرد وإلغائه، فلا تتعيّن مجتمعاتنا إلّا بوصفها حاضنة،  تُلجئ إليها من تنامت لديه غرائز القطيع، وتسلخ عنها من تجاوزها؛ الغرائز التي من شأنها أن تضمُر لو كانت المدنيّة أصيلة في ثقافتنا، والمدرسة بهذا المعنى تمسي في مجتمعاتنا حظيرة.

ما يصدر عن وزارات التربية والتعليم في المجتمعات العربية من قراراتٍ، للحدّ من التطرف والغلو والعنف والكراهية والإرهاب، تتقاطع وتتوحّد في تأكيدها على تربية النشّء بشكلٍ سليم، من خلال الدعوة إلى الحوار والتسامح والعيش المشترك، وقبول الآخر والانفتاح على الحضارات وبناء التفكير التحليلي والنقدي لدى الأطفال، هذه القرارات تحوي مضموناً بالغ الأهمية لكنّه يحلّق بعيداً عن الواقع؛ لأنه لا يجد مكاناً له في غرفٍ صفيّة يتواجد فيها ما يزيد على 40 طفلاً وطفلة.

حجم الفصل الدراسي تربوياً هو العدد الذي يتيح الفرصة أمام المعلم لبناء علاقةٍ مباشرة وقوية مع كل طالب

بالعودة إلى تعريف حجم الفصل الدراسي بناءً على المجتمع التربوي: هو "العدد الذي يتيح الفرصة أمام المعلم لبناء علاقةٍ مباشرة وقوية مع كل طالب". هذه العلاقة التي تولّد الثقة والحب بين الطرفين (الطفل والمعلم)، هي الطريق الوحيد إلى المعرفة المنتجة. لا يمكن مقاربة هذا التعريف مع واقعنا التعليمي، فإنه بالنّظر إلى الغرفة الصفية التي تضم  40 طفلاً وطفلة، وإلى نصاب المعلم من الحصص أسبوعيّاً، سنجد أن المربّي مسؤولٌ عن مئتي طفل وطفلة وسطيّاً. ومجرّد التفكير بحفظ أسمائهم جميعاً أمرٌ في غاية الصعوبة، بالنتيجة قسم كبير منهم سيتحول إلى مجرد أرقام إذا لم نقل نكرات. ففي أحد استطلاعات الرأي تم توجيه سؤال للأطفال حول مفهوم الحب، إحدى الإجابات كانت: "عندما يحبك شخص فإنك تشعر بأنه ينطق اسمك بشكلٍ مختلف عن بقية الناس، إنك تشعر بأنّ اسمك بأمانٍ في فمه". افتقاد هذا الأمان هو البداية في رحلة اغترابهم وتشيّؤهم اللاواعين.

صعوبة حفظ الأسماء ليست سوى البداية، فأمام هذا العدد الكبير، لن تكون العلاقة بين المعلم والأطفال بعيدة عن فكرة الراعي والرعيّة، المسيطِر والمسيطَر عليه، فتصبح أهمية المعلم ليست في إمكانيته المعرفية، إنّما في مدى قدرته على السيطرة والضبط، وهذا بالضرورة سيلغي الحوار، الحوار الذي يتيح للطفل التعبير عن أفكاره وتصوراته، والذي تقوم على أساسه إستراتيجيات التعلّم البناء.

جاء في "كتاب حوار لا مواجهة" "لأحمد كمال": "من ينشأ في جوٍّ من الحوار لن يستبدل الكلمة بالسلاح". غياب الحوار سينتج طفلاً مهمشاً مقموعاً يستشعر الخوف والخطر في كل لحظة، مما سيُعزّز انتماءه للقطيع، وهذا ما يؤكّده عالم الأحياء هاملتون "إنّ كل عضو في مجموعة ما يخدم نفسه بالدرجة الأولى؛ حيث يقلّل الخطر عن نفسه بالدخول مع الجماعة والسلوك بسلوكهم، هكذا يظهر القطيع بمظهر الوحدة الواحدة". الانتماء الذي بدأ قسرياً بحكم ضرورة دخولهم للمدرسة، قد أصبح مع مرور السنوات محبّباً ويشعرهم بالإطمئنان. ربما هذا ما جعل أطفال بعمر 13 سنة يجيبون عندما قمت باستطلاع رأيهم حول كثافة فصولهم الدراسية: بأنّ كثرة عددهم تشعرهم بالراحة.

غياب الحوار سينتج طفلاً مهمشاً مقموعاً يستشعر الخوف والخطر في كل لحظة، مما سيُعزّز انتماءه للقطيع

مع هذا الانتماء القطيعي تنتفي الاختلافات الفردية الطبيعية في القدرة والنمو، يصبح الجميع متساوين؛ متساوين بأنّهم لاشيء، هنا تتّسع الهوّة بينهم وبين التعلّم، ليصبح المحتوى التعليمي والتربوي في المادة العلمية محتوىً نظرياً بحتاً، لا يمس واقعهم وتفكيرهم. فما الذي سيفكّر به الطفل في درس تحت عنوان حقوق الطفل؟ ألن يشعر أنّ هذا الكلام يخصّ طفلاً آخر في عالم آخر أمام التناقض بين المحتوى النظري لفكرة الحقوق، والواقع الذي يقوم على تجاهلها وتغييبها؟ هذا التناقض بينهما سيجعل من المعرفة  فائضة عن حاجة أطفالنا. سلسلة الإحباطات في حياة الطفل وتراكمها ستؤدّي إلى الغلوّ والكراهية والعنف، هذه الطرق الخاطئة هي الأوهام التي سيعتقد أطفالنا أنها المكان الذي يردّ الاعتبار لهم، ويجعل لحياتهم معنى عندما يكبرون.  

"اللحم لك والعظم لنا"، التوصية المعتادة للمعلم من قبل الأهل لتفويضه مادياً ومعنوياً باستخدام العنف. أتساءل ما الذي يشعر به الطفل أثناء سماعه توصية كهذه؟ الجملة المتشربة بالعنف تدل دلالة مباشرة على الفكر القطيعي الذي يضع الإنسان موضع الحيوان، وتؤكد ما جاء على لسان الكثيرين من مسؤولي التربية والتعليم أنّ العنف ثقافة اجتماعية، وذلك بالطبع لتبرئة المنظومة التعليمية، فإذا كان كل من العنف والفكر القطيعي ثقافة اجتماعية، وأنّها مازالت ثاوية في كل مناحي الحياة، فما الذي فعلته المدرسة غير تكريس المكرَّس. لقد عملت المدرسة على تكريس وتعزيز وإكمال رحلة الفرد في انتمائه للقطيع.

عندما يحبك شخص فإنك تشعر بأنه ينطق اسمك بشكلٍ مختلف عن بقية الناس، إنك تشعر بأنّ اسمك بأمانٍ في فمه

هذه المنظومة التعليمية عزّزت اللاوعي الجمعي، من خلال زجّه داخل أسوار الحظيرة؛ حيث يتم سلخ إنسانية الإنسان وتسليعه وتشييئه، ولن تفرز سوى أفراد مصابين بأزمة الاعتراف والانتماء، ومحاولة تعيّن من قبل ذات متلاشية فاقدة لإنسانيتها، هذا التعيّن سيودي بهم إلى طرق خاطئة سيدفع ثمنها الجميع، فالغلاة قد كانوا يوماً ما أطفالاً، تدغدغهم دروب هايدي وكوخ توم سوير، وافتح يا سمسم، لكن مع الأسف لم يجدوا مكاناً لهم في ظلمة عيوننا، فذهبوا ليبحثوا عن وجودهم في مكان آخر، لكنه كان أشدّ ظلمةً واغتراباً، وهذا ما يؤكد أنّ النتائج رهينة مقدماتها.

الصفحة الرئيسية