جامعاتنا العربية.. والدين

جامعاتنا العربية.. والدين


07/01/2018

هناك حقيقة يجب الاعتراف بها، وهي أنّ معالجة الأحداث المتتالية والكثيرة، وممارسة في الوقت نفسه فعل البناء والتأمل العميق الرصين من الأشياء الصعبة جداً؛ ذلك أن تراكم الأزمات تجعل المجتمعات والنخب أيضاً مأخوذة بالآنيّ إلى حدّ النخاع وإهمال المعالجة من الجذور أو ذلك التوق إلى الفهم المعمق الذي لا يتم بلوغه ومعانقته إلا بالتعرف على الأسباب التي لا تتحقق نسبياً بدورها إلا بالقبض على الأسباب الأكثر تحكماً في إنتاج الظواهر.
ولكن رغم هذه الصعوبة فإنّه لا مفر من المحاولة والإقدام بكل شجاعة وصفاء ذهني على المعالجة العلمية للظاهر، بعيداً عن ضجيج المعالجات الإعلامية والسياسيّة والأمنية.
سأدخل في الموضوع مباشرةً: إن المسألة الدينية هي من المسائل التي تدرَّس في بلداننا في كليات وأقسام الفقه والشريعة وعلم الكلام والتفسير وغيرها، أي أنّها من مشمولات العلوم الشرعيّة. وهذا طبعاً أمر جيد ومهم، لأن الدين معرفة مختصة ذات فروع، ولا بد من تدريسها بدقة كي تتخرج أجيال وكفاءات متخصصة في معرفة حساسة ودقيقة تتصل بالدين.
بمعنى آخر، فإن تدريس الدين ضمن العلوم الشرعية أمر مهم وضروري، ولكن حسب تقديرنا غير كافٍ.
فالملاحَظ أن المسألة الدينية لا تزال حكراً على العلوم الشرعية وكليات الدين في عالمنا العربي الإسلامي، وهو وضع يستحق توسيع الأفق والتفكير فيه وفق رؤية تبحث عن الإثراء.
سؤالنا: لماذا إلى اليوم لا يتم تدريس علم الاجتماع الديني في أقسام العلوم الاجتماعية في جامعاتنا، وأي معنى لهذه المسافة التي تتعالى على شروط الواقع الجديد ومشكلاته المستحدثة؟
يبدو لي أن الدين حاضر بقوة في الأزمات التي تعصف بالمنطقة، ومن غير الممكن مواصلة القنوع بالتفسير الشرعي الذي يحدد لنا كيف يجب أن يكون سلوكنا من منظور إسلامي في حين أن التخصصات الأخرى، مثل علم الاجتماع، تقدم لنا تفسيرات مختلفة وأجوبة من نوع مختلف تهتم بالأسباب المنتجة للظواهر الدينية، أي أنّها تخصصات لا تعتني بما يجب أن يكون، بل هي منشغلة ومشغولة بالوقائع الاجتماعية.
فظهور الجماعات التكفيرية، وسياقات انبثاقها، وتزايد تأثيراتها، وإقبال شباب في عمر الورود على الدخول والتجنيد في شبكات الموت وتكفير الآخر... كلّها ظواهر نعاني منها اليوم في بلداننا، وهي سبب ما نحن فيه من إرباك وركود وتأزم اقتصادي وقيمي. وهنا تكمن قيمة تخصص علم الاجتماع، وحتى علم النفس الاجتماعي الديني، كي نفكك هذه الظواهر المركبة المعقدة ونضعها تحت الدرس العلمي البحثي المعمق. وأغلب الظن أن الجامعات والمخابر التي تزخر بها جامعاتنا هي الأَوْلى بمثل هذا التناول. كما أنه قد حان الأوان كي يتم تدريس علم الاجتماع الديني كمادة قارّةٍ في تكوين طلبة علم الاجتماع لأن مثل هذا الاهتمام ستكون له نتائج إيجابية، أهمها تكوين باحثين مختصين في هذا الفرع السوسيولوجي، ومن ناحية أخرى تشجيع الأبحاث في هذا الحقل الاجتماعي المهم والأساسي أكثر من أي وقت مضى.
أيضاً الانخراط في هذا التمشي سيعكس إرادة واضحة فيما يسميه عالم الاجتماع ساري حنفي، أنسنة المعرفة الدينية وجعل المعرفة الدينية مطلة على اختصاصات مهمة وعلى الأديان كافة والتوحيدية منها في المقام الأول؛ ذلك أن هذه المعرفة بمثابة التحصين، خصوصاً أن عمل الجماعات التكفيرية يقوم على الدمغجة، والتلاعب بالعقول، وهندسة العقول على نحو منغلق وعدائي إقصائي.
ولعله من المهم أن تؤدي المنظمات مثل "الإيسيسكو" و"المؤتمر الإسلامي" دوراً حيوياً في الدفع إلى اعتماد تدريس علم الاجتماع الديني في أقسام العلوم الاجتماعية، وتجاوز مرحلة وثقافة أن يكون الدين فقط من مشمولات العلوم الشرعيّة.
عندما نقرأ مؤلفات الغرب في مجال علم الاجتماع الديني نجد أن هذا الفضاء الثقافي العلماني لم يتهاون في هذه النقطة، بل إن المؤسسين الأوائل لعلم الاجتماع الحديث مثل عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم وابن أخته مرسيل موس، وماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني، وبعدهم روجي باستيد وغابريال لوبرا... كلهم اهتموا بالظاهرة الدينية ودرسوا الدين في جانبه الثقافي وفي أبعاده الطقوسيّة ذات الصلة بالممارسات الدينية في الحياة اليومية، حتى إن إميل دوركايم كتب بشكل واثق وعلني "كل شيء يُفسر بالدين"، واعتبر ماكس فيبر أن الجنسانية قلب الدين... باختصار شديد هناك تراث علمي غني في فرع علم الاجتماع الديني، الأمر الذي يقوّي من مصداقية ضرورة تدريسه كمادة مستقلة بموضوعاتها ورموزها وأفهامها المتعددة.
إن تفاعل الجامعات في بلداننا مع الوقائع والأسئلة والظاهرة الجديدة يقتضي توسيع مقاربات دراسة الدين وعدم الاكتفاء بالمعرفة الشرعية. فالظواهر ذات الصلة بالديني تجتاح العقليات والممارسات والأزمات وصولاً إلى الصراعات الأهلية وما بين الدول.
لذلك تحتم علينا الضرورة المعرفية المتصالحة مع احتياجات الواقع الاجتماعي إيلاء المعرفة الاجتماعية الإنسانية في مجال الدين الاهتمام والأولوية اللازمين.

د. آمال موسى-عن"الشرق الأوسط"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية