الخرافات والأساطير.. لدى الناس

الخرافات والأساطير.. لدى الناس


11/12/2017

حينما يُحبط الانسان ويتراخى عقله ولم يعد يستطيع اللحاق بأشواط التحضّر فما له سوى الإذعان لأي شيء بسيط يتخيله حلاّ وسكينة له فيأنس الركون إلى الغيبيات والتخييلات المريضة غير الواقعية ملاذاً وهروباً من الكدح العقلي بسبب عدم قدرته وهوانه؛ لأن تلك الاستكانة لعوالم الغيب غير الواقعية توفّر الراحة الواهنة المعطلة للعقل طالما أن الفكر الطامح للإنجاز مغيّبٌ عنده.

هذا بالضبط ما يجري عندنا نحن معشر العرب؛ حين يلجأ العاجز إلى الأساطير والخرافة والوهم بالرغم من أننا في عصر انفجار العلم وامتداده المهول؛ فنقع في هوّة الفشل المتعدد الأشكال؛ فشلنا في الابتكار العلمي، فشلنا في التحضّر، فشلنا في فهم واستيعاب وممارسة الحياة الحديثة، فشلنا في تقديم منجز واحد للبشرية في العصر الحديث، فشلنا في تشكيل نظام سياسي ديمقراطي ومدني، فتراكمُ الفشل يؤدي إلى نوعين من رد الفعل؛ الأول نكوصي مهزوم يجعلنا ننغلق على أنفسنا ولا نقبل الإفصاح عن علّتنا وأخطائنا، والثاني عنيف يجعلنا نرفض هذا العصر الحضاري الناهض كلّه ونكرهه فنفجره بوجه من يصنعه ومن يشيّد لبنة علمية للإعمار والرقي.

الناس العاجزون بصفة عامة تتجه إلى الأساطير والخرافة على انها يقين لا يجب زحزحتها من العقل؛ لأنها توفر الراحة لهم وتُغنيهم عن الجدل والعمل والمنافسة والابتكار والإبداع، وفيها يتمددون بجهلهم وينامون مثل المخدّرين وينعمون بسعادة تبعدهم عن التفاصيل وعن الحرج في كيفية التدبّر لتحديات كثيرة عليهم إنجازها .

يلجأ الناس إلى الأساطير؛ لأنهم ينامون فيها على وسائد مليئة بالأحلام والأماني الكاذبة البعيدة عن الواقع ..فهي الرحم الأول الذي خرجت منه الأديان والفردوس الذي لم يطردوا منه بعدُ .

علم الأديان يُسمي هذا الارتخاء والاسترخاء بتسمية (العَود الأبدي) الذي يجعل من الأسطورة والخرافة بمثابة (البيت المريح ) الذي يعود له الإنسان بعد عناء التاريخ وضوضائه وعمله المضني، وهكذا نشأ الصراع بين الأسطورة والتاريخ واختار فقهاء الأديان ومعهم العامة (العَود الأبدي) بينما اختار المبدعون من العلماء والمفكرين والخاصة المتنورة عناء الكفاح والتقدم والمثابرة والعناء المثمر طوال مسيرة حياتهم .

عصر العلم لا يليق بالجهلة والعاجزين والواهنين عقلا وعضَلاً ولهذا هم يختارون الأساطير وأوهام السلف ويقنعون بما جاءوا به بلا تمحيص أو غربلة عقلية .

عصر العلم له أهله الذين يبتكرون فيه كل يوم ابتكارات وإنجازات جديدة لإسعاد البشرية، أما الذي يعجز عن الابتكار فيه فيذهب إلى الأسطورة كي يرتاح من (تعقيدات) العلم وتفاصيله التي تحتاج الإلمام العميق بكل العلوم التفصيلية التي صنعت لنا كل هذه المنجزات، ولذلك فالنوم في عسل الخرافة والجمود أمامها أفضل وأريَح مادامت بلا مثابرة أو عمل فكري مضنٍ ومتواصل .

طفولة العقل الإنساني في مراحلها الأولى وكأنها نبتة زرعت في الماضي السحيق ولا زلنا نقطف منها ثمارها المرّة، بدأت من الأسطورة وهي النتاج العقلي المرافق للخيال في مراحل النمو الأولى للنشاط الذهني ومعظم الشعوب قطعت الحبل السري من رحم الطفولة البشرية باستثنائنا نحن العرب، فما زلنا نستقي من أمومتنا الميتة دماً ملوثاً ونستشفي ببول الجَمل تماماً كما كان يفعل الفرس قبلاً؛ حيث كانوا يغسلون وجوههم ببول البقر تبرّكا وطلباً للنجاة والمعافاة .

وتذكرني هذه الممارسات غير السليمة بقول أبي العلاء المعري حين كان يطيح بأي مسلك سيئ وهجين ويبرز سوءاته وخطله من أي مصدرٍ أتى ومن أيّ مبعث ديني تمددَ حتى طال حاضرنا:

عجبتُ لكسرى وأشياعـهِ --- وغسـل الوجـوه ببول البقـرْ

وقول اليهـود إلهٌ يحبّ ----- رشاشَ الدماء وريـح القـثر

وقـول النصارى إله يضام ---- ويُـظـلم حيـّا ولا ينـتصر

وقوم أتوا من أقاصي البلاد -- لرمي الجمار ولثم الحجَـر

فوا عجبا من مقالاتهم ---- أيعمى عن الحـق كل البَـشَــر

وقوله أيضاً في موضع آخر:

كذب الظنّ ، لا إمام سوى العقل في صبحهِ والمساءِ

فإذا ما أطعْـتهُ جلبَ الرحمةَ عـند المسيـر والإرسـاءِ

إنما هذه المذاهبُ أسبابٌ لجَـذب الدنيا الى الرؤسـاءِ

مثل هذا العماء السائد اليوم لا يستطيع مسخه سوى العلم الذي يرافق العقل وهو دور ومهام كبيرة وعظيمة لكشف الحقائق اليقينية أمام هذا الكم الهائل من الجهالة والجهّال؛ وهنا علينا أن نبدأ من الخطوة الأولى في تعليم الصغار منهجاً علمياً تجريبياً لتكوين قاعدة عقلية راسخة تبتعد تماماً على التخريف والإذعان لما قيل سابقاً وكنس الخزعبلات القديمة الأولى تماماً من بيت العقل الجديد وتأثيثه مجدداً من أجل خلق أجيال جديدة تقوم على عاتقها بمهمة التغيير والتجديد فقد أثبت أننا الآن ننفخ في قِربة مخرومة ولا نستطيع مهما علت أصواتنا وأعمالنا أن نزيح قناعات راسخة ولو قيد أنملة الاّ بجرأة فولاذية وعقل شجاع لا يخاف العواقب وما عدا ذلك سنبقى مركونين في الصفوف الأخيرة من الأمم ونعتاش على ما يخلفوه لنا ولا نستطيع أن نخلق أجيالا مختلفة عنا في الرؤى واتساع العقل وإنتاج قاعدة عريضة من النماء والتطور سواء في البناء الفوقي للفكر أو البناء التحتي من عمران وصناعة وزراعة وتحقيق التقدم في مجالات العلوم كافة والتكنولوجيا الحداثوية وتقنياتها العولمية .

وليكن شعارنا المجد للعقل والطمر للخرافة والأسطورة والأوهام والمتخيل الهادم غير النافع للعقل فلا يقين إلاّ يقين العقل المرشد المدلول بالحواس والظاهر لنا عن طريق التجريب العلمي وما سواه من يقين الجهّال الآتي عبر عصور مضت من متاهات غيبية وتناقلته العامة اقتناعاً بلا تحكيم العقل ومأخوذةً به على علاّته وعواهنه إلا تعطيل للفكر والانجرار نحو الميتافيريق الضار والانجرار طوعاً نحو قناعات قيلت قبلا دون أن تستند إلى دلالات عقلية مقنعة.

ومن العيب فعلاً أن نرضخ لكل ما يرد إلينا ونهضمه في أذهاننا دون أن ننظر ملياً إلى انتهاء صلاحيته، فالفكر كما البضاعة المصفوفة على الرفوف لابد أن تنتهي فترة صلاحيته "الاكسباير" ولابد أن يرمى في النفايات مادام هناك منتج جديد يسوغ استخدامه واتّضح نفعه عياناً.

جواد غلوم - عن "إيلاف"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية