من هي الجارية التي هزمت شيخ المعتزلة؟!

من هي الجارية التي هزمت شيخ المعتزلة؟!


03/09/2019

من كان يعتقد بأنّ كتاب "ألف ليلة وليلة" يمور بالإغواء والمكائد والخرافات، فليصحح هذا الاعتقاد الذي تساقط إلينا، عبر بعض الكتابات الاستشراقية المهووسة بإظهار المشرق العربي بمظهر شهواني، تلبية لموجة عارمة من الشغف الغربي بأسرار الحرملك العربي. ومن أطرف ما يمكن استدعاؤه حديثاً، بخصوص هذا الشغف، ما أنتج وينتج حتى الآن، من مسلسلات درامية (رمضانية!)، منقوعة في عالم الحريم الذي غدا مركز هذه المسلسلات، كما غدت الحياة برمتها هامشاً لهذا المركز الفاتن والماكر والقاسي واللعوب. والأطرف من كل هذا أن تسابق النساء الرجال للاستمتاع بهذا الكيد الفني العظيم!

اقرأ أيضاً: المعتزلة.. ضرورة البناء والنقد
بعيداً عن هذه الصورة النمطية المستهلكة، التي أسهم في ترويجها آلاف الباحثين في الغرب والشرق، يسعدني أن أقدم للقرّاء الأعزاء وجهاً لافتاً من وجوه الليالي، وأقصد به حكاية الجارية (تودّد) التي امتدت من الليلة 437 وحتى الليلة 462، فاستغرقت 22 صفحة من صفحات الطبعة (غير المهذبة)! ورغم أنّ تلخيص الحكاية سيذهب بكثير من رونقها وإثارتها، إلا أنّ أحد سرّاد الليالي عنّ له أن يُحدث إزاحة مدهشة، فأصر على كسر إيقاع الحكي المسوق بهاجس الخيانة والمكيدة، بمحكية تعلي من شأن الحب والوفاء والبطولة المعرفية المحضة، التي تكفّلت بتتويج الجميع بالسعادة والرضى.

بعض الكتابات الاستشراقية مهووسة بإظهار المشرق العربي بمظهر شهواني تلبية لموجة عارمة من الشغف الغربي بأسرار الحرملك العربي

لقد انصاع أبو الحسن، التاجر العابث الذي بدّد أموال أبيه في اللهو والمجون، لنصيحة جاريته المخلصة (تودّد) التي أشارت عليه بأن يبيعها للخليفة هارون الرشيد، مقابل مبلغ كبير من المال، فوافق الخليفة بدوره على شرائها، شريطة أن تثبت ما نَسَبَتْه لنفسها من تضلّع في الآداب والعلوم، وإنفاذاً لهذا الشرط فقد أرسل في طلب العديد من علماء الشريعة واللغة والطب والهندسة والفلسفة، وعلى رأسهم إبراهيم النظّام شيخ شيوخ المعتزلة.
يسترسل السارد في استعراض وقائع المناظرة حامية الوطيس التي جرت بين الجارية (تودّد) وثلّة من العلماء، على مرأى ومسمع من هارون الرشيد. وتبلغ المناظرة ذروتها القصوى مع إبراهيم النظّام الذي يضطر لخلع ملابسه إقراراً منه بالهزيمة المنكرة التي ألحقتها به الجارية تودّد، ما يدفع هارون الرشيد إلى الإقرار بنبوغ الجارية، والتوجّه لها بالسؤال عما إذا كان هناك ما يمكن أن يقدمه لها، مكافأة لعلمها وحكمتها وشجاعتها المعرفية، فلا تتردد في أن تحيطه علماً بحبها لأبي الحسن وتضرع إليه أن يعتقها ويردّها إليه، ولا يتردد بدوره في المسارعة إلى إعتاقها والإنعام عليها وعلى من تحب بالأموال والهدايا.

اقرأ أيضاً: محمد إقبال وحلم المعتزلة المتأخر أحد عشر قرناً
لا يتسع الحيز المخصص لهذا المقال لإيراد التفاصيل العلمية والتاريخية بالغة الخطورة التي اشتملت عليها الحكاية والمناظرة في آنٍ واحد، كما لا يتسع لاستقصاء الأنساق الأيديولوجية المضمرة التي يمكن استنتاجها من منظور النقد الثقافي، ولكن حسبنا التأشير على أبرز هذه الأبعاد تأشيراً خاطفاً؛ فعلى الصعيد الإطاري العام الناظم لألف ليلة وليلة، تمثل حكاية الجارية تودّد اختراقاً باهراً على صعيد الشكل والمضمون؛ لأنها تقوم على الوفاء والفداء وليس على الخيانة والغدر، كما أنّها تسند دور البطولة المطلقة للمرأة الحصيفة العالمة المفكّرة التي تُسخِّر معرفتها لإن

الاتجاه لتطعيم الليالي المنقوعة في ذهنية الخرافة بحكاية يمتزج فيها الحب مع الفكر مع النهاية السعيدة يؤكّد تعدّد الساردين

قاذ ذاتها وذات حبيبها من الضياع. هذا فضلاً عن أن الحكاية تظهر وجهاً مشرقاً ومنصفاً لهارون الرشيد، الذي طالما غيبت الحكايات الأخرى وجهه خلف وجوه البرامكة الذين يستأثرون عادة بالفضل والكرم والأمر والنهي.
لكن ما سيل علامة فارقة في هذه الحكاية، التي تتفرّد بإبراز دور البطولة النسوية المعرفية، هو الحضور الكثيف للمعتزلة وفكر المعتزلة من خلال استحضار إبراهيم النظّام لمناظرة الجارية. ومع أنّ كثيراً من التفاصيل التي أوردها السارد بوصفها طروحات اعتزالية لا تمت للمعتزلة بصلة، وإنما أوردت من باب الإثارة والتشويق وإقناع القارئ بعلوّ كعب المعتزلة في الفكر والفلسفة وعلم الكلام، إلا أنّ الاتجاه لتطعيم الليالي المنقوعة في ذهنية الخرافة والسحر والجن والعفاريت، بحكاية يمتزج فيها الحب مع الفكر مع النهاية السعيدة، يؤكّد تعدّد الساردين من جهة، كما يؤكّد أنّ سارد الحكاية – خلافاً لسائر زملائه- يتمتع بسوية ثقافية وفكرية يصعب التنكّر لها، وهو على الأغلب من مثقفي السنّة الذين عاشوا في القرن الخامس الهجري، نظراً لما اتسمت به أحكامه على الخلفاء الراشدين وعلى آل البيت من توسّط واعتدال، ونظراً لما توصي به الحكاية، بخصوص أفول نجم المعتزلة وتواريهم عن الأنظار.

اقرأ أيضاً: المعتزلة قادوا ثورة العقل لتعرية ظلم السياسة ومفاسدها
ولعل السؤال الأكثر جدارة بالإجابة في ضوء حكاية الجارية (تودّد)، يتمثل في التساؤل عن مصير آلاف الجواري الجميلات المخلصات الحكيمات اللواتي انقلبت أحوالهن المعيشية بانقلاب أحوال أسيادهن الذين انهاروا اقتصادياً واجتماعياً. بل إنّ ما نصادفه بكثرة من قصص هؤلاء الجواري الفاتنات اللبيبات، في كتابي "الأغاني" و"الفَرَج بعد الشدّة" – وهما أصلان من أصول ألف ليلة وليلة على الأرجح- يدفعنا إلى التساؤل أيضاً عن الأدوار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخطيرة التي اضطلعن بها مباشرة أو من خلف ستار. دون أن ننسى طبعاً التذكير بحقيقة أنّ هؤلاء الجواري، اضطلعن على الدوام بدور الفادي والمنقذ، فيما اضطلع أسيادهن بدور العابث المهزوم المنقاد لمصيره؛ فيا لها من أنوثة باسلة ويا لها من ذكورة خانعة!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية