وفاة فان جوخ غزة بعد أن تعذر خروجه من الجحيم

وفاة فان جوخ غزة بعد أن تعذر خروجه من الجحيم

وفاة فان جوخ غزة بعد أن تعذر خروجه من الجحيم


04/03/2024

وُلد الفنان الفلسطيني (فتحي غبن) عام 1947، وشهد صرخته الأولى في هربيا. وفي أعوام النكبة تهجرت عائلته إلى قطاع غزة، حيث ترعرع في مخيم جباليا. ومن قطاع غزة غادر (غبن) الحياة يوم الأحد 24 شباط (فبراير) 2024، بعد فشل كل المحاولات لإخراجه من قطاع غزة لاستكمال علاجه؛ إذ كان يعاني مشكلات حادة في الصدر والرئتين.

اسمه الحقيقي (فتحي إسماعيل أبو غبن)، لكنّه اشتهر باسم (فتحي غبن). كان طلبه الأخير والوحيد هو أنفاسه، إذ ظهر على تلفزيون (العربي) إلى جوار ابنته وهي تشرح حالته الصحية، وكيف تدهورت جرّاء استنشاقه الغبار، والفوسفور المنبعث من القنابل المحرمة دولياً التي قصف بها الاحتلال جميع الأماكن. وقد قاطع غبن ابنته وهي تطالب "جميع الجهات المعنية" بإخراجه للعلاج، قائلاً: "أنا بطالب بنفَسي"، وكررها مضيفاً، "بديش حاجة، بدي أتنفس بس، مخنوق بدي أتنفس." تلك كانت الأمنية الوحيدة للفنان الفلسطيني، وربما هي أمنية الكثيرين من شعب غزة اليوم، تُضاف إليها أُمنية الحصول على طعام في ظل الإبادة والعقاب الجماعي الممارَس على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

ميلاد فان جوخ غزة

 لا أنكر أنّني فخور بكوني من مواليد الجحيم ... هاجرتُ مع عائلتي على درب آلاف العائلات الفلسطينية المشرّدة، وسط همهمة الكهول وزمجرة الرجال وصراخ الأطفال وعويل النّساء. هاجر الشعب تاركاً وراءه آثار أقدامه الغائصة في الأرض وشجر الزيتون الحزين، وهو يسمح للحمائم الجاثمة فوق أغصانه أن تغادر عشّها، هاجر السلام من فوق التراب الفلسطيني ليترك وراءه شرارة غضب تتجسّد في بركان، هكذا وصف الفنان بداياته، وفي المخيم بجباليا اكتشف المعلمون موهبة غَبن وشجعوه على المُضي قُدماً، وكان لشخصية "طرزان" الكرتونية أكبر الأثر في بداية مشواره الفني، "في مواضيع هذه اللوحات، بدأتُ أجسّد الحركة، حركة الحيوانات واقتتالها وتفاعلها مع بعضها البعض في الغابة".

مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 احتلّت "إسرائيل" قطاع غزة لعدة شهور، وحينما غادرته رسم (غبن) خربشاته الوطنية الأولى كما يقول، إذ شاهد عملية جلاء قوات الاحتلال عن القطاع، ودخول قوات الطوارئ الدولية، فكانت لوحة جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن غزة، وهو ما زال في الصف الثالث الابتدائي.

هذا الدعم الذي حصل عليه من زملائه الطلبة والمدرسين سيختلف عندما يجد فتحي نفسه مضطراً لترك المدرسة بعد الصف السادس الابتدائي ليساهم في إعالة عائلته. "كان وقع ترك الدراسة في غاية الصعوبة على نفسي، لكنّه لم يحل بيني وبين موهبتي في الرسم". وعلى مدى (15) عاماً لاحقة، عمل (غبن) بائعاً للجرائد والمجلات، "ومنها بدأتُ بتثقيف نفسي، ومطالعة القصص المصورة والرسومات".

لوحات مهمة في حياته 

في عام 1978 رسم لوحته الأولى، كما قال في مقابلة معه ضمن فيلم "هوية" للمخرجة (نسرين حمّاد)، وسمّى هذه اللوحة "مأساة فلسطين" التي ذكر أنّ قصتها تعود إلى عام 1967، إلى مشهد قال إنّه "ما زال يعشش في صدري"، فبينما كان يسمع نداء قوات الاحتلال لتجمع الناس في مكان، كان يسمع صراخاً خافتاً، ولمّا تتبع الصوت حتى وصل إليه، تبيّن أنّه لطفل صغير، وفي هذا الشأن قال: "زحت أكوام الزينكو "الصفيح"، فشاهدت هذا الطفل الصغير اللي بيرضع من ثدي أمه وهي جثة هامدة." بعد هذه اللوحة، استُدعي أكثر من مرة للتحقيق، ثم اعتقل، وتكرر اعتقاله عدة مرات، منها مرة في أواسط الثمانينيات (1983-1984) للتهمة ذاتها، وتحديداً بسبب لوحة "هوية"، وهذا الاعتقال أيضاً لاقى ردات فعل كبيرة في الوسط الفني الفلسطيني، فأُقيم أكثر من اعتصام للتضامن معه، كالذي حدث في 1 يونيو (حزيران) 1984، بتنظيم من التشكيليين الفلسطينيين في الضفة والقطاع المحتلَين، في مسرح "الحكواتي" في القدس المحتلة. فعُرضت لوحات لـ (غبن)، وأيضاً رسم الفنانون في ذلك اليوم عدة لوحات بيعت إلى الجمهور، ليعود ريعها إلى عائلة الفنان المعتقل.

استشهاد غبن متوسلاً أنفاسه الأخيرة 

رغم أنّ المعاملات المالية وأوراق الخروج من القطاع للعلاج في مصر كانت قد جُهزت منذ أكثر من أسبوع، وتمّت الموافقة عليها من أعلى المستويات في الجانبين الفلسطيني والمصري، إلا أنّ التلكؤ كان من جانب الاحتلال، فلم يسمح له بالمغادرة، انتظرنا طويلاً أن يُدرج اسمه على قوائم الخروج، لكنّ ذلك لم يحدث، كما تقول ابنته "ربوع".

تضيف ربوع أنّ الآلام والمصائب تراكمت على الأب، فخلال هذه الحرب فقد ابنه، وحفيده، وأقرباء من العائلة، وهم: (أخوه، وزوجة أخيه، وبنات الأخ) الذين قصفوا في مكان نزوحهم في الجنوب، بالإضافة إلى أنّ تدمير اللوحات، ووجودها تحت الأنقاض، أضاف ألماً آخر له، إذ كان يعتبرها كما لو أنّها من أبنائه.

على نحو مفاجئ، وعلى سرير في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، انقطع النّفس عن الفنان، حاول الأطباء أن يضخوا المزيد من الأكسجين، كما يروي خالد، لكنّ محاولاتهم باءت بالفشل، فقد لفظ (فتحي غبن) آخر أنفاسه، وفارق الحياة في 25 شباط (فبراير) 2024، ليدفن في مقبرة المدينة.

وهكذا طويت صفحة الفنان الفلسطيني الغزاوي (فتحي غبن) عن عُمر يزيد عن عمر النّكبة بعام أو عامين، وقد ولد في حرب، واستشهد في حرب، ليرتقي بعد أعوام صعبة، قضاها مناضلاً ومقاوماً من لون مختلف.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية