محمد سمير ندا
كلما استدعيتُ من أدراج ذاكرتي لقطات سريعة لما مررت به منذ وضعت قدميّ في ما يطلق عليه "الوسط الثقافي"، سواء كشاهد عابر، أو كطرف في محاورة، أو كمستمع، أو كمتهم بأنني عضو في شلّة فلان أو متحيّز لجماعة ترتان، تساءلتُ وأنا أتابع كل هذا القدر من العداوة والتناطح والعراك والخصومة والتراشق والضرب تحت الحزام، وتلوين الوجوه بصبغات المصالح والأهواء؛ ما هي النتيجة؟ وما هي الجائزة التي يتقاتل عليها الفرقاء من المثقفين؟ ما هي الغاية التي يُبرّر الفوز بها استخدام كل وسيلة؟
كل كتابة يقدمها الكاتب لا تخضع جودتها إلا لمقياس وحيد؛ الزمن! ففي زمان لم يعرف الجوائز الدولاريّة ولدتْ أعمال عظيمة استمرت ولم تزل متداولة بين القراء حتى اليوم.
لماذا؟
لأن الزمن، وحده الزمن، ذلك الفارز الأنبل والقاضي الأعدل، قد منح تلك النصوص صك الخلود، لا لشيء سوى لجودتها وتميّزها مقارنة بأعمال كثيرة طواها غبار الزمن وراكمها في أرفف النسيان، أما كُتّابها فقد التحفوا بالغياب منذ عقود، رحلوا وبقت كلمتهم حية؛ شابة لا تموت.
وعلى سبيل المثال، فإن يوسف عز الدين عيسى، لا يعرف أن قارئًا مثلي هرع ليشتري مجموعته القصصية "لا مكان" فور صدورها منذ أسابيع، كما أنه لم يسمع عن آلاف القرّاء الذين يتناولون روايته "الواجهة" بكل إجلال وتقدير حتى اليوم، وهو لا يعرف لأنه توفي منذ ٢٣ سنة! أما عبد الحكيم قاسم، الذي توفي وهو يطالب برفع نسبته من مبيعات رواية "أيام الإنسان السبعة"، فلم يعرف أن روايته هذه رائجة حتى اليوم!
وبذات القياس، فإن سليمان فياض ومحمد كامل حسين وعادل كامل وصبري موسى وبدر الديب ورضوى عاشور ويحيى الطاهر عبد الله ومحمد حافظ رجب وكمال القلش وفتحي غانم وعلاء الديب ومحمد خليل قاسم وجميل عطية وخليل حسن وإبراهيم عبد الحليم ولطيفة الزيات وسعد مكاوي وأمين ريان ويوسف إدريس والمازني ويحيى حقي وغيرهم؛ لا يعرفون أن الزمن قد منحهم الجائزة التي بحثوا عنها عبر الكتابة، الكتابة فقط، بلا صخب يذكر، ولا حفلات توقيع، ولا فايسبوك، ولا صحافة انتقائية.
بطبيعة الحال، كان الاستثناء الوحيد من تلك القاعدة هو نجيب محفوظ، والسبب هنا هو فوزه بجائزة نوبل التي أجبرت المصريين على تقديره وهو على قيد الحياة.
على الجانب الآخر؛ كم كاتب كبير أو شهير يعيش بيننا اليوم ممن يتصدرون قوائم المبيعات وواجهات الصفحات الثقافية، ويحظون بآلاف المتابعات في العوالم الافتراضية، وتُطلق عليهم شتى الألقاب، ستعيش كلمته أطول منه؟ الزمن سيقرر!
عزيزي الكاتب؛ الكتابة اختيار، فعل خلق لحيوات تعيش أطول من خالقيها، امتحان يُكلّف فيه الكاتب بوضع الأسئلة وتقديم الإجابات في نفس الوقت، مع قبوله بشروط التصحيح، إذ أن النجاح المُرتجى، المتمثل في خلود النصوص واستمراريتها لعقود -وربما لقرون- لا تحققه الجوائز بالضرورة، إنما يُقرّره زمان منصف لا يعرف الشللية ولا يميّز بين الأهواء، كما أنه من الضروري ألا تنظر في ساعتك أثناء الامتحان، ذلك لأن زمن الإجابة المُقدّر لك؛ غير معلوم!
وعليه؛
لو أدرك كل كاتب أنه أمام ورقة امتحان سيتم تصحيحها بعد رحيله عن هذا العالم؛ لتفرغ لكتابته ومنحها من وقته وطاقته أقصى المستطاع. فلا يستنفذ أحدكم طاقته ووقته في مطاردة سراب المجد الأدبي ودولارات الجوائز الزئبقيّة، ولا ينشغل بالتحزّب والتموّه والمجاملة والعمل على قصف الأقلام وتنكيس الجباه، واعلم أنك لست معنيًّا باطلاق الألقاب على نفسك، وإن كنت بالألقاب منشغلاً؛ فاترك لمن يأتي من بعدك هذه المهمة!
عزيزي الكاتب:
أكتب، وأكتب، وأكتب، واعلم إنك إن لم تلحق بالمجد المنشود فقد ورّثته لبنيك وأحفادك! حسّن خطّك، نظّم سطورك، ارسم حكايتك، لوّن صورك، ثم أترك ورقة الامتحان للزمن فور أن تسمع صوت الجرس، وثق في عدل ميزانه.
عن صفحة الفيسبوك الشخصية للكاتب