هذه المقالة، مساهمة أولية للإجابة على سؤال مؤرق، يهم علاقة الأفق الإصلاحي للمؤسسات الدينية في الساحة الإسلامية، مع المشاريع البحثية التي تشتغل خارج هذه المؤسسات، بصرف النظر عن مرجعيتها، وإن كنا سنترك جانباً مرجعية المشاريع البحثية المحسوبة أو المنتمية إلى الظاهرة الإسلاموية (أو الحركات الإسلامية)، بمقتضى مساهمة هذه المشاريع في تأزيم المشهد، كما اتضح في عديد محطات تاريخية، منذ العام 1924 (تاريخ تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين") حتى مرحلة ما بعد اندلاع أحداث "الفوضى الخلاّقة"، أو أحداث "الربيع العربي" حسب الاصطلاح الإعلامي والبحثي المتداول في الساحة.
لم تستفد المؤسسات الدينية من اجتهادات أهل "الإسلام النظري" المشتغلين على نفس التحديات والإكراهات التي تطال الساحة
صيغة السؤال كالتالي: ما هي الآفاق النظرية والعملية التي يمكن أن تقدمها المشاريع الإصلاحية سالفة الذكر، إلى مُجمل المؤسسات الدينية المعنية بهاجس الإصلاح، في شقّيه الديني والسياسي؟
وقبل الخوض في بعض الأجوبة التطبيقية، نتوقف عند إشارتين اثنتين:
تفيد الأولى أننا نتحدث عن أهم مُحددين من مُحددات الإصلاح في مجالنا التداولي؛ أي الإصلاح الديني، الذي يوصف مثلاً بـ"التجديد الديني" أو "تجديد الخطاب الديني"، أو "الإصلاح الديني في سياقه الإسلامي"، إلخ؛ موازاة مع الإصلاح السياسي، بمقتضى العلاقة الوطيدة بين حقلي الدين والسياسة في الساحة الإسلامية، وهي العلاقة التي تأسّست بقلاقلها وتداعياتها منذ واقعة السقيفة الشهيرة، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
اقرأ أيضاً: مأزق المؤسسات الدينية في مواجهة الظاهرة الجهادية
تفيد الإشارة الثانية، أنّ السؤال أعلاه يفترض سلفاً أنّ هناك نوايا إصلاحية حقيقية لدى صنّاع القرار من أجل إصلاح المؤسسات الدينية، ولسنا أمام خطاب تحايلي، يسعى إلى تمرير رسائل طمأنة موجهة إلى الداخل والخارج على حد سواء، من كثرة الضغوط والتحديات التي تمرّ منها المنطقة، والتي جعلتها في محور اهتمامات القوى العظمى، منذ قرون في الواقع، وليس منذ سنوات.
خدمات "الإسلام النظري" للإسلام المؤسساتي
يُفرق عبد الإله بلقزيز، في كتابه "الإسلام والسياسة" (الصادر عن المركز الثقافي العربي، 2007) بين ثلاثة أنماط من الإصلاح الديني في العالم الإسلامي:
ــ نمط صادر عن المؤسسات الدينية الرسمية، والتي تشتغل تحت سقف سياسي مُحدّد، أو قل تحت إكراه إداري صرف، يتحمل مسؤولية بشكل أو بآخر في تواضع أفقها الإصلاحي.
ــ وهناك نمط آخر، ويهم مُجمل المشاريع الإسلامية الحركية، سواء كانت دعوية أو سياسية أو قتالية.
كان علينا انتظار أحداث "الفوضى الخلاقة" حتى نشهد دعوة بعض الأسماء البحثية للاشتغال على أسئلة الإصلاح
ــ وأخيراً، نمط ثالث، واصطلح عليه بـ"الإسلام النظري"، ويقصد به المؤلف، لائحة من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، من غير المنتمين للمؤسسات الدينية والحركات الإسلامية على سواء، ومع أنه لم يذكر أسماء مُحددة، إنما يكفي استحضار بعض الأعلام، من قبيل محمد أبو القاسم حاج حمد، عبد الوهاب المسيري، محمد أركون، محمد عابد الجابري، حسن حنفي، وغيرهم الكثير.
تكمن المفارقة في هذه الجزئية، أنّ هؤلاء الأعلام يشتغلون على نفس التحديات والإكراهات التي تطال الساحة، وكان أحرى بأقلام المؤسسات الدينية النهل أو الاستفادة من اجتهاداتهم، إلا أن الواقع يُفيد أنّ الأمر كان خِلاف ذلك، ولا يخرج عن تبنّي خيار التجاهل أو الحصار عند البعض، أو النقد والاتهام في الدين والملة عند البعض الآخر، كما نُعاين في تفاعل الأقلام البحثية الإسلاموية مع بعض هذه الأعلام.
اقرأ أيضاً: ما مصير المؤسسات الدينية مستقبلاً؟
كان علينا انتظار أحداث "الفوضى الخلاقة" حتى نُعاين في العديد من المحطات -ولو أنها لا تزال متواضعة مقارنة مع ما هو مطلوب - دعوة المؤسسات الدينية لبعض الأسماء البحثية في الساحة، والتي تشتغل خارج المؤسسات الدينية، لكي تساهم في الاشتغال على أسئلة الإصلاح.
نموذج تطبيقي: تحولات التعامل مع معضلة "الردة"
حديث عبد الله بلقزيز كان حديثاً نظرياً، وآن الأوان في هذه المقالة، للتوقف عند نموذج تطبيقي/ عملي، يُزكّي ما أشار إليه صاحب "الإسلام والسياسة".
يتعلق الأمر بتفاعل عقلنا الجمعي مع موضوع الردة، وهو تفاعل تسبّب لنا في مشاكل أسالت الكثير من المداد، ولعل المتلقي في المنطقة، يتذكر ما جرى مع العديد من الأعلام والأسماء في الساحة، منذ ما بعد الحقبة النبوية حتى اليوم، ولا يبدو أنّه ستكون آخر هذه النماذج، ما جرى مع واقعة الراحل نصر حامد أبو زيد، والذي وجد نفسه في المحكمة، بسبب تداعيات قضية رُفعت ضده، كانت مرتبطة ببعض اجتهاداته في التعامل مع القرآن الكريم، أفضت بصدور حكم محكمة برِدّته، ومن نتائج القرار، الحكم بتطليقه من زوجته.
أصدر المجلس العلمي الأعلى بالمغرب فتوى بـ"جواز قتل المرتد" ثم نشر وثيقة تضمنت رأياً معدَّلاً
سوف نتوقف في نموذجنا التطبيقي، مع ما جرى في الساحة المغربية، عبر تسليط الضوء على تحوّل نوعي طرأ في تفاعل المؤسسة المعنية بالإفتاء مع موضوع الردة، والحديث عن لجنة الإفتاء التابعة لمؤسسة "المجلس العلمي الأعلى"، التي يترأسها الملك، ولكنه يترك موضوع الإفتاء والإدلاء بآراء تهم العقيدة والمذهب للفقهاء في هذه المؤسسة، بمقتضى اختصاصهم في الأمر.
اقرأ أيضاً: نصر حامد أبو زيد غرّد خارج السرب فأزهرت كلماته ومات غريباً
بعد صدور فتوى للمجلس العلمي الأعلى في المغرب، تصبّ في "جواز قتل المرتد"، نشرت المؤسسة ذاتها، في غضون شباط (فبراير) 2017 وثيقة "سبيل العلماء"، تضمنت رأياً معدَّلاً مقارنة مع مضامين الفتوى الأولى، ومما جاء في الوثيقة: "لقد أثيرت في الإسلام قديماً ولا تزال تثار قضية الردة والمرتد، ويبقى الفهم الأصح والأسلم لها المنسجمُ مع روح التشريع ونصوصه ومع السيرة العملية للنبي، صلى الله عليه وسلم، أن المقصود بقتل المرتد هو الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها والمستقوي عليها بخصومها؛ أي ما يُعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية".
كما كان متوقعاً، تمّت الإشادة بهذا التحوّل النوعي في فكر علماء المغرب بخصوص تجديد نظرتهم إلى حرية المعتقد والدين، ولكن، ما لم يتم التذكير به على هامش هذا التفاعل الإيجابي لعلماء المؤسسة الدينية مع مطلب تجديد الخطاب الديني، أنّ مضامين هذا الاجتهاد الخاص بالردة، هو نفسه الذي اشتغل عليه الراحل محمد عابد الجابري، في عدة مقامات، سواء في مشروعه "نقد العقل العربي"، وبالتحديد الجزء الثالث منه، أي "العقل السياسيّ العربي"؛ حيث قرأ حينها قضية الردة باعتبارها معضلة مجتمعية، تتقاطع فيها مُحددات دينية (عقدية) وقبلية ومالية (الإحالة على مفهوم الغنيمة)، أو ما نشره باقتدار في مقالة نشرها في موقعه الرسمي قبل وفاته، وجاء فيها أن "الوضع القانوني لـ"المرتد" لا يتحدد في الإسلام بمرجعية "الحرية"، حرية الاعتقاد، بل يتحدد بمرجعية ما نسميه اليوم بـ"الخيانة للوطن"، بإشهار الحرب على المجتمع والدولة".
مضامين الاجتهاد الخاص بالردة والخيانة العظمى هو نفسه الذي اشتغل عليه محمد عابد الجابري
نحن نُذكر بخدمات أهل "الإسلام النظري"، في حالة الراحل الجابري، ونحن ونأخذ بعين الاعتبار أنّ صاحب "نقد العقل العربي"، توفي في آذار (مارس) 2010، بينما صدرت وثيقة "سبيل العلماء" للعلن، في غضون شباط (فبراير) 2018، ومع استحضار تاريخ صدور اجتهاده في الموضوع، فقد اتضح اننا انتظرنا عقداً من الزمن حتى يعمل علماء "الإسلام المؤسساتي" باجتهاد واحد [على الأقل] من اجتهادات أهل "الإسلام النظري".
بتعبير آخر، عندما كان يُحرر الجابري في الموضوع، كان التجاهل مصير هذه الأعمال، عند فقهاء وعلماء المؤسسة الدينية، وإذا كنّا نتفهّم أن تحظى اجتهاداته بنقد وأحياناً شيطنة من أقلام المشاريع الإسلامية الحركية، بسبب موضوع المرجعية الإسلاموية التي تختزل الدين في التدين الإسلامي المعني، فإنه يصعب تفهم التجاهل الذي طال أعماله، وأعمال غيره بالتأكيد.