في أعقاب الأزمة المالية العالمية، عام 2008، التي اجتاحت المؤسسات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية، منتقلة إلى أقطاب العالم، تصاعدت أصوات تيارات الإسلام السياسي، بامتلاكها الحل الأمثل للخلاص من مثل تلك الأزمات الدورية التي لا يخلو منها النظام الرأسمالي، ويكمن في تطبيق نظرية "الاقتصاد الإسلامي"، وبين الآمال المعلقة من قبل الشعوب الإسلامية، والانتقادات التي تتعرض لها تلك النظرية، يبقى التساؤل عن إمكانية تطبيق "نظام الاقتصاد الإسلامي".
الرأسمالية.. قصة حبّ من طرف واحد
عام 2009؛ فاز المخرج الأمريكي، مايكل مور، بجائزة أحسن فيلم وثائقي من مهرجان البندقية، عن فيلمه "الرأسمالية... قصة حبّ"، في نقد واضح وصريح، لآلية عمل النظام الرأسمالي، والذي أنتج معظم الأزمات المالية التي تعاني منها الطبقات الأقل فقراً، وحاول إثبات أنّ الحروب هي نتاج طبيعي لجشع النظام الرأسمالي، وغالباً ما يدفع ضريبتها البسطاء، وقد أثبت التاريخ أنّ البحث عن الموارد هو محرك الاستعمار.
تستمر الكتابات الإسلامية حول نظرية الاقتصاد الإسلامي في مقابل الاقتصاديات الوضعية الرأسمالية والشيوعية ومشتقاتها من الاشتراكية والاشتراكية الديمقراطية
في غضون ذلك، تستمر الكتابات الإسلامية حول نظرية الاقتصاد الإسلامي في مقابل الاقتصاديات الوضعية (الرأسمالية ومشتقاتها من الليبرالية والنيوليبرالية، والشيوعية ومشتقاتها من الاشتراكية والاشتراكية الديمقراطية)؛ إذ تهتم مثل تلك الأطروحات بتناول الجانب الروحي والنص الإلهي، لتنظيم الحياة الاقتصادية، كما فعل النبي محمد، صلّى الله عليه وسلم، وما فعله الخلفاء الراشدون، رضي الله عنهم، من بعده، كان ذلك أبرز ما تناوله بحث مطول بعنوان "الاقتصاد الإسلامي وأبعاده الأمنية"، نشره الدكتور كمال حطاب، أستاذ الاقتصاد في جامعة اليرموك الأردنية، تناول فيه أهمية "اتخاذ منهاج الاقتصاد الإسلامي كعلم متكامل، نستطيع أن نبني عليه اقتصاديات المجتمعات الحديثة؛ إذ إنّه أثبت نجاحه على مدى قرون مضت، عاشت فيها الدولة الإسلامية على خيرات وفيرة"، على حدّ قوله.
اقرأ أيضاً: كوارث اقتصادية ربما يشهدها العالم في 2019
لكن ما أغفله الدكتور حطاب، يمكن رصده تاريخياً عبر الحركات الانفصالية والثورية، التي قامت في قلب الدولة الإسلامية، منذ وجود النبي محمد، صلى الله عليه وسلّم، بين ظهرانيّ المسلمين، حيث قام الخوارج في غزوة حنين، كما تشرح الباحثة التونسية، ناجية الوريمي، في كتابها "الإسلام الخارجي: الإسلام واحداً ومتعدداً"، بمطالبة المهمشين من المسلمين، بالعدالة في تقسيم غنائم الحرب فيما بينهم. وفي كتابه "الفتنة الكبرى"، يرصد عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، ما تم الادعاء من قبل المحتجين على الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنّه كثرت في عهده سيطرة الأمويين على الثروات، وبدأت اقتصاديات الإقطاع، التي استأثر فيها الأمويون بالأراضي الزراعية في الشام، وبدأت الظواهر الاجتماعية التي تنتج عنها الثورات؛ من انتشار الفقر، واستئثار طبقة معينة بالموارد دون غيرها، ونراها عبر انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين الذين استمر حكمهم قرابة خمسة قرون؛ إذ كثرت في عهدهم الحركات الانفصالية مثل؛ القرامطة في الجزيرة العربية، والرستميين في المغرب العربي، الذين سعوا لتأسيس دويلات بعيدة عن مركزية الخلافة التي تستأثر بالسلطة والمال، بعد تفشي مظاهر الصعلكة والفقر في المقاطعات التابعة لمقر الخلافة في بغداد، ويمكن الاستشهاد بالثورات الاجتماعية الأكبر؛ "البابكية، وثورة الزنج"، والتي قامت من أجل رفع الظلمات عن فئات بعينها إثر التمييز الاجتماعي الذي تعرضوا له، وما قدمته من مطالب اجتماعية بحتة تعكس مدى الظلم الواقع عليهم.
الحروب والطبيعة الإنسانية
تغلف معظم الحروب عبر التاريخ الإنساني بغلاف ديني أو اجتماعي، ولكنها بالأساس تقع من أجل الموارد الاقتصادية، وهو ما يحاول العلم إثباته، بعد نشر دراسة علمية في المجلة الأمريكية للأنثربولوجيا الفيزيائية، حول الحرب الأهلية الوحيدة المسجلة من قبل الباحثين في علم الحيوان داخل مجتمع القردة، والتي جرت رحاها لأربعة أعوام، بين عامَي 1974 و1978، في غابات تنزانيا الإفريقية؛ حيث استمرت قبيلتان من الشمبانزي في القتال العنيف، على مصدر غذاء وحيد داخل الغابة، وشنّت إحداهما حروباً دموية قتلت فيها رفاقها من أجل انتزاع الموارد، ما دفع العلماء للاستمرار في دراسة سلوك حيوانات مسالمة، مثل الشمبانزي، وسبب تحولهم إلى قتلة متوحشين، وما وضعوه كان سؤالاً أكبر، وهو: هل الحرب والعنف هما من المكونات الأساسية لطبيعتنا الحيوية، وليسا مما يمكن التحكم به؟! ربما يفتح هذا التساؤل آفاقاً أخرى، لنتفكر: هل ينقسم البشر لطبقات اجتماعية نتيجة لحالة بيولوجية بحتة فرضتها عليهم الطبيعة، ويحاولون تهذيب أنفسهم بالقوانين التي تضبط التعاملات الاقتصادية والاجتماعية، بعيداً عما يحاول الإسلامويين ضبطه كعلم يمكن تطبيقه وسط كل التعقيدات التي تتحكم بالمجتمعات الحديثة؟
اقرأ أيضاً: هل يحتكر الإخوان المسلمون اقتصاد "الحلال" في أوروبا؟
هنا نجد كتاب "الاقتصاد الإسلامي والاقتصاديات الوضعية"، للباحث عبد الرحمن أبو قطيفة، والصادر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، عام 2013، ويوضح فيه الباحث أهمية الصراع الطبقي في انهيار النظم الاقتصادية الوضعية، وغياب هذا الصراع في ظلّ الحكم الإسلامي طبقاً للشريعة الإسلامية التي تسند إلى مبدأ الزكاة والتكافل والوقف، كأشكال لدعم الطبقات الأفقر، والتي يتكفل الأغنياء بحمايتها من براثن الفقر، وأنّ الجانب التطوعي الذي يستند إليه الاقتصاد كنظام سماوي، يمكنه أن يقضي على ظاهرة الفقر التي تنتشر في مجتمعات العالم الثالث، وربما العالم أجمع، والذي يتماهى بين شقي الرأسمالية والاشتراكية كأنظمة متعرضة بدورها لأزمات حتمية، لا يمكنها الفكاك منها، ولكن هل الزكاة وحدها كأحد أشكال التبرع تضمن إزالة الفوارق الطبقية، والذي يتعارض مع الفكر الإسلامي الذي يرى البشر طبقات، بحكم النص القرآني: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: (165)].
الربا... وأصل الشرور
"لاَ تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبا، رِبَا فِضَّةٍ، أَوْ رِبَا طَعَامٍ، أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَّا، مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبا" [سفر التثنية (23: 19)].
اقرأ أيضاً: مؤشر جديد على تفاقم الأزمة الاقتصادية في تركيا
يرى أصحاب المنهج الاقتصادي الإسلامي؛ أنّ محورية الاقتصاد تكمن في المعاملات الربوية التي ترعاها المؤسسات المصرفية والتمويلية، كجزء أساسي من محركات عجلة الاقتصاد، ويتبنون فكرة تحريم الربا من منظور إسلامي، باعتبارها المتسبب الأول في العواصف الاقتصادية الطاحنة، بيد أنّ الإسلام لم يكن المحرم الأول للربا، فقد حُرم الربا قبلاً في التوراة، وما يزال محرماً بين اليهود. ورغم ادعاءات أصحاب هذا المنهاج بقدرته على التعامل مع كافة المجتمعات، إلّا أنّ إغفال العوامل الثقافية والاجتماعية والجغرافية يبدو واضحاً لديهم، وإذ يرى كبار المفكرين الأوروبيين أنّ الاقتصاد هو المحرك الفعلي لسيرورة التاريخ، ينقدهم أصحاب الفكر الإسلامي، باعتبار أنّ الاقتصاد جزء بسيط من هذا المحرك، دون الإلماح لأدلة تدعم قولهم.
أستاذة اقتصاد بالأزهر: أكثر من 40 عاماً أعمل بمجال الاقتصاد ولم أفهم الفارق الجوهري بين البنوك الإسلامية والمصارف الأخرى
وتتبلور الآلية الوحيدة التي تحققت من الاقتصاد الإسلامي، في المصارف الإسلامية، لمواجهة المصارف البنكية التي تتبني مبدأ الربا، وهو ما تحدثت بشأنه أستاذة الاقتصاد بجامعة الأزهر، الدكتورة كريمة كريم لـ "حفريات": "أكثر من 40 عاماً أعمل في مجال الاقتصاد، ولم أفهم بعد، ما هو الفارق الجوهري بين البنوك التي تتبنى نظاماً إسلامياً، كما يزعمون، والمصارف الأخرى، فالتعاملات المالية تستوي فيها الفائدة تقريباً؛ فالإقراض -على سبيل المثال- في البنك الإسلامي يخضع لقانون الفائدة، إلّا أنّ المسوق لتلك الفكرة، يدرك كيف يصوغها للناس بشكل أكثر روحانية، ويقنعهم بأنّها معاملات إسلامية، بيد أنّ نظام الفائدة هو حتمي بسبب ما يطرأ على النقود من تغيرات، لا يمكن لأيّ مصرف الاستغناء عن نظام الفائدة، بل إنه نظام بشري قائم قبل أن يعرف العالم البنوك التجارية في شكلها المعاصر".
بين الزهد والرفاه
أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر عادل حميد يعقوب: الاقتصاد الإسلامي هو السبيل الأمثل لتحقيق الرفاه الاقتصادي
ويرى أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، الدكتور عادل حميد يعقوب؛ أنّ الاقتصاد الإسلامي هو السبيل الأمثل لتحقيق الرفاه الاقتصادي الذي تسعى الدول لتحقيقه، وأنّ الأعوام الأخيرة، خاصة بعد أزمة 2008، شهدت العديد من الأبحاث والدراسات المهمّة لدعم النظرية، إلّا أنّها بالفعل لم تكتمل بعد، حتى في التجارب التي يروج لها البعض بالتجارب الإسلامية، وأشهرها ماليزيا، لم تحقق التنمية بالاقتصاد الإسلامي كنظرية متكاملة فحسب، وإنما بالإستهلاك الأمثل للموارد، وتكثيف العمل والإنتاجية، وهي الدعامة الرئيسة لأي اقتصاد ناجح، خاصة في ظلّ التنافسية العالمية في عصر التكنولوجيا.
يوتوبيا الاقتصاد
في كتابه "اقتصادنا"؛ استعرض السياسي العراقي، محمد باقر الصدر، نقداً مطولاً للنظريتين؛ الرأسمالية والاشتراكية، باعتبار أنّ الاقتصاد الإسلامي أثبت جدارته في الصمود أمام النظامين، ويأتي استعراضه في صورة أخلاقية، بعيدة عن الحاجة المادية الملحة التي تحكم حركة التاريخ، ويأتي نقض الحرية الاقتصادية التي توفرها اقتصاديات السوق وما يترتب عليها من أضرار اجتماعية واقعة على الغالبية من البشر، أمام كفالة الإسلام للفقراء، من مأكل وملبس ومسكن، وهنا يتبنى الصدر نظرية أن يصير البشر جميعاً أخياراً يتقاسمون الموارد فيما بينهم ويكفلون حياة كريمة بنوابع إنسانية، بعيدة عن آلية اجتماعية توفر انتقال الثروة والدخل وتوزيعهما، دون أن تستند الجماعة على الفوقية والتبرع، يغفل الصدر وغيره أيضاً من المنظرين للاقتصاد الإسلامي نظام الدولة القائم منذ آلاف السنين، هل ستقوم الدولة هنا بتطبيق مثل هذا النظام؟ وأيّة منظمة ستكفل تحقق مثل تلك النظرية؟ وهل يوجد للدولة مكان في مجتمع الاقتصاد الإسلامي؟