نحتاج، نحن الذين نصف أنفسنا بالتنوير والاعتدال، إلى وقفة نقد ذاتي طويلة وجريئة، أظنّ أنّ ما أسميناه "تنويراً واعتدالاً"، لم يكن في سلوكنا وحياتنا مطابقاً لما ندعو إليه، صحيح أنّنا نقدم أفكاراً إنسانية عظيمة، وندعو إلى قيم جميلة، لكننا لم نحترم أفكار ومعتقدات الآخرين. وكانت دعوتنا إلى التغيير، مشحونة بالتعصب والعجرفة.
لا مشكلة للعلمانية مع المحتوى الديني، مهما كان، طالما أنّ الفضاء العام تنظمه صناديق الاقتراع
ليس المطلوب أن نغير أفكار الناس ومعتقداتهم، لكن أن نكرّس الحرية والعيش معاً، مهما كانت اتجاهات الأفكار وأساليب الحياة التي نؤمن بها، أو نتبعها، المطلوب أن نكون قادرين على احترام بعضنا وندافع عن حقوقنا جميعاً، وليس أن يغير بعضنا بعضاً.
كلّ ما نحتاج إليه جميعاً؛ أن نعتقد أننا نحتمل خطأنا وصواب الآخر، ثم وفي ظل هذه القيم نتجادل بعقلانية؛ أن يفسّر كلّ واحد أفكاره ومواقفه على أسس عقلانية، وليس دينية أو أيديولوجية، ثمّ يكون كلّ واحد ما شاء وما يطمئن إليه، وليس مطلوباً سوى ألا يطبق أحد معتقداته على الآخرين، ولا يطالب أحدٌ أحداً بالاعتقاد، أو عدم الاعتقاد بفكرة أيّة فكرة، وليس الاختلاف أو التشابه في الأفكار والاتجاهات مقياساً للحبّ أو الكراهية، التقبّل أو الرفض.
اقرأ أيضاً: تنوير ديني تقوده المجتمعات للحيلولة دون تدنيس المقدّس
ليس الخطأ في التديّن، مهما كان محتوى هذا التديّن، لكنّ الخطأ في تطبيق ما يؤمن به المتدينون في الفضاء العام، وبالتالي؛ فليس المطلوب منهم أن يغيروا أفكارهم ومعتقداتهم الدينية، لكنّ المطلوب أن يكون الجميع أحراراً فيما يؤمنون به، وفي أسلوب حياتهم، ولا يقيّد حريتهم هذه، أو ينظم فضاءهم العام، سوى القانون والعقلانية الاجتماعية والأخلاقية.
اقرأ أيضاً: تجليات النقد والتنوير عند طه حسين
لم تكن المواجهات الفكرية والإعلامية التي خضناها تفيد الاعتدال والتنوير في شيء؛ كانت مواجهة بين تطرّفين لا يكسب فيها سوى التطرف. والأسوأ من ذلك أنها لم تكن مواجهة بين العلمانيين والمتدينين، لكنّها كانت مواجهة بين تيارين دينيين، لا علاقة للعلمانية بها.
لا يشغل العلمانية الاعتدال الديني، كما لا يشغلها التشدد الديني، ولا يهمّ العلمانيين سوى الحياد الإيجابي تجاه التنوّع بكلّ أبعاده وجوانبه، وأن يساهم هذا التنوع في المشاركة العادلة في الجدل العام على أسس عقلانية وبلا يقين، وفي ذلك تتساوى السلفية مع الليبرالية في فرصهما وحقوقهما، ولا مشكلة للعلمانية مع المحتوى الديني، مهما كان، طالما أنّ الفضاء العام تنظمه صناديق الاقتراع، وأنّ العالم المشهود يفهم كما هو وبأدواتنا العقلانية الإنسانية، معترفين ومقدرين أنّنا بشر تعتري تقديراتنا وأفهامنا المصالح والأهواء والاجتهادات المتعددة والمتنوعة، وفي ذلك نقدّر الحقّ والخير والجمال، بلا يقين ولا انحياز.
اقرأ أيضاً: أولى خطوات التنوير تبدأ بهزيمة المؤسسات الناقلة للتطرف
إنّ الحجاج الديني الذي يمارسه علمانيون، لا يختلف في شيء عمّا يفعله السلفيون، كلاهما يستخدم الدين ويوظفه للهيمنة على الفضاء العام، ومصادرة العقل والحرية، لكنّ الكلمة السواء هي أن يلتزم السلفيون والمحافظون والليبراليون واليساريون والوسطيون بالجدل العقلاني الحرّ والخالص، متقبلين نتيجة الاختلاف، وملتزمين بالحرية والمساواة للجميع، وحقّ الجميع وواجبهم أيضاً في المشاركة والتشارك.
اقرأ أيضاً: العلمانية كحلّ؟.. الإسلاموية وعلاقة الدولة بالدين
لا تسعى العلمانية إلى استبعاد المتدينين، على العكس؛ فإنّها تسعى إلى مشاركتهم، بل ويزعجها انسحابهم من الفضاء العام أو حيادهم، لكنّها تدعو إلى الحياد تجاه الدين نفسه، وليس المتدينين، بمعنى أنّ المتدينين يقدمون أفكارهم على أسس واعتبارات إنسانية وعقلانية، وليس باعتبارها حقاً نزلاً من السماء، فالاحتكام إلى الاقتراع يعني بالضرورة أنّ أحداً لا يرى فكرة الفضاء العام حقاً نزلاً من السماء، بل إنه لا يجوز دينياً، كما عقلياً، أن يكون الحقّ الذي نزل من السماء موضوعاً للتصويت والاقتراع، ما يعني بالضرورة أن ما نتجادل حوله لا يعتقد أحد، ولا يجوز أن يعتقد، أنّه دين.
الاختلاف بين الجماعات والتيارات والآراء الدينية خلاف في البيت الواحد، ولا يضيف شيئاً ولا يهمّ المواطنين
قد يبدو الأمر ملتبساً أو صعب التطبيق، وهو كذلك بالفعل، فلو كان سهلاً واضحاً لما وقع الاختلاف والصراع، لكننا لا نعرف سبيلاً لحسم الاختلاف أو ترجيح اتجاه، سوى الجدل العقلاني والتصويت، ولا يمكن الاحتكام إلى العقل بما هو الإجماع الوحيد، إلا بالقبول بأننا لا نعرف الصواب، لأننا لو كنا نعرفه لما كان جدلاً ولا انتخاباً، وفي ذلك؛ فإنّ الحياد تجاه الدين ليس لأنّه خطأ؛ بل لأنّه ليس موضع إجماع، سواء بالإيمان به، أو فهمه وتفسيره، أو معرفة مراد الله تعالى.
ولما كان يستحيل إجبار أحد على الإيمان، أو منعه من الإيمان؛ فإنّه لا معنى للانتخاب والجدل سوى أن يكون مجالهما ما ليس إيماناً او اعتقاداً، هكذا؛ فإنّ الحياد تجاه الدين ضرورة علمانية ودينية أيضاً، ومن ثم فإنّ الجدل الديني يخصّ التيارات الدينية وحدها، ومجاله هو الفضاء الديني؛ ولا علاقة له بالعلمانية، ولا بالفضاء العام، وهكذا أيضاً؛ فإنّ الاختلاف بين الجماعات والتيارات والآراء الدينية، المعتدلة والمحافظة منها، أو الليبرالية واليسارية؛ ليس سوى خلاف في البيت الواحد، ولا يضيف شيئاً إلى الحريات والمصالح العامة، ولا يهمّ المواطنين، ولا يجوز أن يشغل سوى أطراف الاختلاف نفسها، بعيداً عن الفضاء العام.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن تلتقي العلمانية مع الدين؟
لقد أوقعنا أنفسنا، أو دفعنا الإخوان المسلمون والسلفيون، كما التنويريون الدينيون، بين البصلة وقشرتها، وفي خسائر مؤكدة بلا احتمال أو فرصة للمكاسب، أو إضافة شيء إلى الحياة العامة، إلا بقدر ما يمكن أن يضيف حسم الاختلاف على المسح على الخفّ، أو عدم المسح، أو الجمع بين صلاة المغرب والعشاء، أو عدم الجمع على الإنفاق العام والسياسات الضريبية والتشريعية، أو تحسين الحياة والناتج القومي، أو تجديد الموارد وتعظيمها.