هل هي "طالبان" واحدة؟

هل هي "طالبان" واحدة؟


21/09/2021

محمد الهادي الحناشي

تبدو اللحظة الأفغانية الراهنة شديدة الالتباس والغموض. شهر واحد بعد سيطرة حركة «طالبان» على السلطة، تجد الحركة نفسها غارقة في مستنقع كبير يسمى إدارة الحياة اليومية لشعب كامل. وفي الجهة الأخرى لا يبدو المجتمع الدولي على عجلة من أمره للاعتراف بسلطة الحركة، بكل ما يعنيه عدم الاعتراف بها من عزلة وعطالة يمكن أن تهدد ركائز حكمها الهشّ.
بعيداً عن النوايا والشعارات، فالآلاف من المقاتلين والأنصار الرافعين لراية الإمارة البيضاء عيل صبرهم من شظف الحياة في الجبال، وباتوا في انتظار أفضال الحكم الجديد الذي وعدهم بالحياة الكريمة وأساسها، من رواتب وموارد رزق، تكفل لهم الكفاف في معاشهم. وهذا لا يبدو يسيراً حتى الآن، فقيادة «طالبان» أعلنت بفخر أنها تمكنت من دفع رواتب أساتذة وموظفي جامعة كابل، ليظهر وزير تعليمها العالي الجديد مصرحاً بأنه مع العلم والتعلم. فيما يصطف الآلاف في شوارع العاصمة والمدن الكبرى ناصبين أسواقاً عشوائية لبيع ممتلكاتهم من أثاث ولوازم منزلية وحتى أدوات الطبخ وأغراضهم الشخصية من أجل الحصول على الغذاء بعد أن تأخر صرف رواتبهم. وباتت مشاهد حشود سكان العاصمة الأفغانية أمام المصارف طوال أيام الأسبوع مألوفة من أجل الوصول إلى بعض مدخراتهم، وسط تحذير من كارثة إنسانية محيقة بسبب مغادرة آلاف الأجانب العاملين في المنظمات الإنسانية، والتي كانت توفر الغذاء والدواء والتعليم لملايين الأفغان طيلة العقدين الماضيين. وباتت الإدارات ومخازنها وشبكاتها معطلة يحرسها بعض مقاتلي الحركة بأزيائهم العسكرية الجديدة.
هذه الإكراهات تحاول «طالبان» الالتفاف عليها بخطاب ديني موجه أساساً لأعضائها وأنصارها، وهو خطاب لا يخلو منه تذكير على جدران العاصمة كابل. ويتكرر عبر موجات إذاعة الشريعة، التي تبث خطاباً مكرراً ومكثفاً موجهاً في المقام الأول إلى أنصار الحركة.
ولكن هذه الحركة ليست في واقعها بالصورة التي تحاول تسويقها هي عن نفسها. ذلك هو الانطباع الذي خرجت به بعد أيام أمضيتها في العاصمة كابل مؤخراً. تستنتج بسهولة أن القطار قد يكون يخفي وراءه قطاراً آخر، ما يفرض على المجتمع الدولي التسلح بأعصاب من حديد في تعامله مع حكومة أصحاب العمائم. فهي ليست تلك التي تلوح بالوعود على أساس الإيفاء بها أو تقطع العهود على أساس الالتزام بتنفيذها. فالحركة الأصولية الأفغانية وبقدر ما تبدو ظاهرياً حديدية التنظيم متماسكة الأركان، إلا أن تماسكها البادي للعيان يخفي وراءه أجنحة تشق الحركة. فهي حركة واحدة وفي الوقت ذاته متعددة السرديات والخلفيات التاريخية. ولو حاولنا تفصيل هذا التعدد تشريحاً، فسوف نجد أنفسنا إزاء أكثر من «طالبان» واحدة.
ثمة «طالبان» التي حكمت أفغانستان خمس سنوات نهاية عقد التسعينات وعرف بعض قادتها معتقلات باغرام وقندهار وغوانتانامو وباكستان وبولي شرخي. وهم الآن من ينتشون بسردية الانتصار على أميركا ويعتبرونها ذروة سنام إسلامهم، ويصرون في كل مناسبة على رفع رايتهم أثناء التصوير والحديث وحتى أثناء تجولهم في الأسواق، وجزء كبير منهم تصدر شأن الحكم في المديريات والولايات والمؤسسات الحكومية محملين بواجب ما يسميه الأفغان «الشفاعة»، وهي خدمة من عبّد أمامهم «طريق الفتح». فتجد العشرات يصطفون أمام مكتب المسؤول المتحدر من هذه القرية أو المدينة يطلبون وظيفة أو مساعدة أو خدمة، فتظهر في هذه الصور «طالبان» المنشغلة بمن شدّ أزرها طيلة عقدين، وهو جهد طويل يحتاج من الزمن مدداً لتسوية أوضاع عشرات وربما مئات الآلاف، ناهيك بالأوضاع المستعجلة لعسكريي «طالبان» القادمين من القرى والأرياف والجبال والمكلفين بمهام تأمين العاصمة، حيث تصادفك مفارشهم وأغطيتهم وأدوات طبخهم أمام المؤسسات التي يحرسونها. «طالبان» هذه القادم أفرادها من القرى والأرياف والجبال اصطدم أفرادها بحياة مدينة السبعة ملايين ساكن بطرقاتها وأضوائها وأبراجها ومطاعمها وأسواقها، فأظهروا من دون وعي منهم حقداً على من يعيش في رغد، بينما هم أمضوا زهرة حياتهم في الجبال والقتال من أجل لحظة تاريخية حققها الانسحاب الأميركي وأجبر الجميع على التعامل معهم كأبطال مكللين بالنصر. وليس أجدر من الأبطال برد الجميل، وهو لدى «طالبان» الانصياع التام لإملاءات العقيدة، وهو بنظرها الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
تخفي نظرة «طالبان» هذه مواجهة مع مجتمع المدن، الرافض لمبدأ الانصياع المطلق للأمر العقائدي وإن كان بقواعد ونصوص دينية. صنفت القوى المدنية هذا السلوك الطالباني بالاستبداد الذي يتطلب مقاومة سلمية تقودها شخصيات اعتبارية ونشطاء ومدونون وصحافيون ووسائل إعلام. وهو أمر لم تعهده «طالبان» في نسختها الأولى من الحكم، فأمامها اليوم نحو أربعة ملايين أفغاني يستخدمون الإنترنت مقابل بضع عشرات عام 2001. وهي في مواجهة نحو عشرة ملايين ينتظرون مقاعد الدراسة، من بينهم ثلاثة ملايين فتاة بعكس الوضع في نهاية التسعينات، حيث كان تعليم الفتيات غائباً. تبدو «طالبان» مرتبكة في فرض خطابها وهي ترى من كانت تنتظر منهم رد الجميل والإعراب عن التأييد يخرجون في موجات عصيان ورفض لممارساتها، فترتبك في ردود فعلها ملوحة بالتخويف، والردّ العنيف على النساء والرجال منتهجة سياسة الترويع والخوف.
«طالبان» هذه تلقى رضوخاً من ملايين الأفغان الكادحين، الذين يمضون أيامهم في العمل المنهك إن وجد، من أجل ضمان الكفاف من القوت. لا يعنيهم من يحكم لأن حالهم لم يتغير مع تبدل الحكومات ولم ينالوا من الحكومات المتعاقبة بجميع ألوانها وتسمياتها ما يغير واقعهم إلى الأفضل. وهم اليوم يشكلون القوة الضاغطة التي يمكن أن تنفجر في أي لحظة، إذ لم تستطع ملء بطونهم الخاوية وتحسين ظروف بقائهم، بوقف الكارثة الإنسانية المقبلة بسرعة مع دخول فصل الشتاء القاسي على الأفغان، خصوصاً الفقراء منهم؛ وما أكثرهم في البلاد.
في منطقة وزير أكبر خان حيث القصر الرئاسي، وفي مقرات الوزارات ومكاتبها الوثيرة وأيضاً في مقرات الولايات، هنالك «طالبان» أخرى وهي ذاتها ذات وجهين؛ الأول باتوا يسمونه بلا مواربة فريق الفنادق والقصور، وهم أولئك الذين أمضوا مع أسرهم والمقربين منهم العقد الأخير في الدوحة وأداروا المفاوضات مع الجانب الأميركي، والتي انتهت إلى الاتفاق الذي مهد للانسحاب الأميركي ووصول الحركة إلى الحكم. وهؤلاء طيف كبير، هو الذي يظهر في الإعلام ويقدم للعالم الخطاب الذي يرغب في سماعه الغربيون بالخصوص ويستعملون اللغة التي يستسيغها المجتمع الدبلوماسي الدولي، فيقدمون أجوبة فضفاضة عن أسئلة حقوق الإنسان وتعليم المرأة وعملها ومشاركتها في الفضاء العام، وعن المشاركة الواسعة في الحكم لجميع الأطياف والإثنيات. لكنهم يعرفون أنهم عاجزون عن تحقيق وعودهم، لأن «طالبان» العسكرية المقاتلة، التي يبدو «الصوت الحقاني» فيها مرتفعاً وعالياً ترى أن النصر كان آتياً ولا ريب تحت قرقعة السلاح، وأن الأميركان مغادرون لا محالة مع المفاوضات أو بدونها، وبالتالي فإن العالم عليه أن يقبل بالأمر الواقع، وأن عليه التعامل مع الإمارة الإسلامية بالشروط والقواعد التي تضعها للحكم، والتي سوف تحاول فرضها بالقوة على المجتمع. قد يبدو الأمر في سياق الحركات السياسية كصراع أجنحة، ولكن في حالة «طالبان»، وفي السياق الأفغاني يبدو المشهد مثل الماتريوشكا أو دمى الشاي الروسية حيث يتناقص حجم الدمى لتخفيها الدمية الكبيرة وهي ما يراه العالم تحت اسم «طالبان»، التي تفننت في إضفاء جانب كبير من القداسة والروحانية على زعيمها ساكن قندهار، الملا هبة الله أخوند، الذي يحيط نفسه في العاصمة التاريخية لـ«طالبان» بعلماء الحديث وبنجل الملا عمر الشاب، الملا محمد يعقوب وزير الدفاع. وهنا يمكن الحديث عن «طالبان قندهار» التي تمسك بقواعد اللعبة العقائدية والتنظيرية وبالرمزية التاريخية، والتي لن تكون سلطتها هذه المرة بالقوة ذاتها التي كانت عليها «طالبان» الأولى، وقد جرت مياه كثيرة تحت جسور كابل وهيرات ومزار شريف وجلال آباد. هناك حيث المشهد الاجتماعي تغير بكامله وبات حكام كابل المتعجلون لحلحلة المشاكل في مأزق إدارة قواعد اللعبة بين «طالبان الحكم» في كابل و«طالبان القواعد» في الشوارع و«طالبان الرمزية التاريخية» في قندهار. هذه الحيرة الداخلية تجعل المجتمع الدولي غير مستعجل في الاعتراف بنظام لا يزال يسعى للحصول على مشروعية داخلية يحتاجها للحكم والسيطرة على الأوضاع.

عن "الشرق الأوسط" اللندنية

 
الصفحة الرئيسية