هل تعادي الدولة الفرنسية الإسلام والمسلمين؟

هل تعادي الدولة الفرنسية الإسلام والمسلمين؟


20/12/2020

قد يبدو للبعض من المثقفين والمفكرين، أن هذا التساؤل لا يستحق الطرح، فبالنسبة لهم، أسئلة مثل هذه أجوبتها حسمت، ليس منذ عقود، بل ومنذ عشرات العقود، ولا يمكن لدولة علمانية رائدة كفرنسا أن تعادي أية دين أو ثقافة.. وهذا ينطبق تماماً على الإسلام وسواه من الثقافات والمعتقدات.

لكن بالنسبة للمتدينين، الجواب هو عكس ذلك تماماً، وهذا ما يؤيدهم فيه بعض ممن لا يمكن اعتبارهم متدينين، ويصنفون عادة كمثقفين، ولسان حالهم: لماذا لا نكون على حق؟ أوليس ثمة قرائن مادية تدل على مثل هذا العداء؟

ما لا شك فيه أن هناك إسلاموفوبيا في فرنسا وغيرها من دول الغرب

يرى هذا الفريق أنّ ثمة ما يكفي من الأدلة على هذا العداء، منها مثلاً صدور قانون منع النقاب في فرنسا، ونشر وإعادة نشر الرسوم المسيئة للنبي، عليه السلام، وتصريحات ماكرون حول مأزومية الإسلام، ورفضه نقد الصحيفة التي نشرت الرسوم المسيئة، وهلمّ جرّا.

وهذه كلها يرى فيها هؤلاء أدلة دامغة على عداء الدولة الفرنسية، بل والمجتمع الفرنسي أيضاً، للإسلام، ولو لم يكن الأمر كذلك لأصدرت الدولة قوانين تمنع الإساءة إلى الإسلام، ولعاقبت من يخرقها!

اقرأ أيضاً: من يحمي العلمانية في فرنسا: القانون أم العدالة الاجتماعية؟

وبرأي هذا الفريق، الديمقراطية الفرنسية كاذبة، والإسلاموفوبيا في فرنسا متفشية، والدولة متورطة في هذا الأمر وشريكة فيه.

فماذا يمكن القول وكل تلك القرائن المادية موجودة؟ وهل يمكن بعدها نفي جريمة فرنسا بحق المسلمين؟

ما لا شك فيه أنّ هناك إسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية، في فرنسا وغيرها من دول أوروبا، وأسبابها متعددة، وأنّ ثمة الكثير من الرياء والنفاق والعدوانية على المستويات الرسمية، وحتى في أعلى مستوياتها، فهذه المجتمعات ليست قطعاً مثالية.

اقرأ أيضاً: هل تنجح فرنسا في كف يد أردوغان عن مسلميها؟

لكن أن تكون في تلك المجتمعات مشاكلُ كبيرة أو صغيرة وعيوب وعورات وأزماتٌ شيء، وشيطنة تلك المجتمعات ودولها، ووضعها كلها في خانة العداء الكامل للإسلام والمسلمين شيء مختلف تماماً، فتلك المجتمعات والدول إضافة إلى سيئاتها الكثيرة لديها أيضاً حسناتها.

 إذاً لماذا لا تصدر تشريعات صارمة تحمي المقدسات الدينية؟

الجواب ببساطة، سواء أعجبنا هذا ألم يعجبنا، لأن الدولة والمجتمع في فرنسا وفي كل أوروبا والنظم السياسية المشابهة لها -أي النظم العلمانية الديمقراطية- في مناطق أخرى من العالم، تعتبر نفسها غير معنية وملزمة بأي مقدسات، وكل تلك المقدسات تعتبر شؤوناً خاصة لأهلها فقط، ما يعني أن مقدساً ما برأي إحدى الجهات، يمكن أن يكون عادياً جداً برأي سواها، ويمكن أن يكون على النقيض من ذلك برأي غيرهما.

ترفض الأنظمة العلمانية الديمقراطية سن أي قوانين تحمي المقدسات فهي نفسها مشروطة بأن تكون مفصولة عنها

فعلى سبيل المثال: السيد المسيح؛ ثمة تباين في نظرة أصحاب الديانات السماوية إليه بين الألوهية والنبوة والتكذيب، وبالنسبة لغير المتدينين، هناك من يحترمه كشخصية بشرية عظيمة، الدولة والمجتمع في فرنسا وكل الدول التي تتبنى العلمانية الديمقراطية، تعتبر أنّ كل ذلك ليس من شأنها، وهي تعطي الحق الكامل لكل شخص من أولئك أن يعبر عن رأيه التام في المسيح، فإن أساء أحدهم الرأي فيه، فهي لا تمنعه لأن آخر يرى في ذلك جرحاً لمقدسه، فهذا المقدس لا يعني الدولة بحد ذاتها، وهي لا تعتبره مقدساً، بل وممنوع عليها بتاتاً أن تعتبره مقدساً، أو تعتبر سواه كذلك.

اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل زيارة السيسي لفرنسا ذات أهمية استثنائية؟

فالدولة -والمجتمع معها- مفصولان كلياً عن المقدسات، كل المقدسات، ولكن هذه الدولة لا تمنع أحداً من اتخاذ المقدسات التي يريدها، ولا تسمح لأحد بأن يمنعه من ذلك، ولا تسمح لأحد بأن يضطهده وينتقص من حقوقه بسبب مقدسه، لكنها قطعاً لا تعطي أية حصانة لمقدسه، ولن تحميه من أن يكون عرضة لنقد أو هجوم الآخرين، ولكنها تعطي كامل الحق لأصحابه بأن يدافعوا عنه كيفما شاؤوا، وأن يردّوا بأي هجوم معاكس أو مبادر على غيرهم إن شاؤوا، بشرط أن يجري كل ذلك بشكل سلمي تماماً ولا يتسبب بأي عنف أو اعتداء عمليين.

اقرأ أيضاً: تفاصيل المشروع السري للإخوان بفرنسا.. وما حقيقة الدعم القطري؟

ولذا ترفض الأنظمة العلمانية الديمقراطية سن أي قوانين تحمي المقدسات، فهي نفسها مشروطة بأن تكون مفصولة عن كل المقدسات، وألا تقر بقداسة أي منها، فهذه الأمور هي  شأن خاص بهم وحدهم وبشكل حصري.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى في واقع الأمر المقدسات نفسها تختلف بشكل كبير.. بل وتتناقض، وكذلك المواقف منها، فسنّ أي قوانين تحمي مقدساً ما يمكن أن تصبح اعتداء على مقدسات أو على حقوق سواه، وسن قوانين تحمي الأديان -مثلاً- سيعتبرها غير المتدينين اعتداء على حرياتهم في أن يرفضوا تلك الأديان وينتقدوها ويعتبروها أباطيل وخرافات، تماماً كما سيعتبر المتدينون سن قوانين تميز أو تحابي الإلحاد تنتقص من حقوقهم وتقيد حرياتهم، وهم بدورهم سيجدون ذلك ذريعة للمطالبة بأمور مماثلة، وعندها حتى الملحد نفسه سيكون لديه الحق بأن يطالب بقوانين تمنع نقد الإلحاد أو الإساءة إليه، وعندما يبدأ كل هذا فلن يتوقف وسيتسع وينمو ويتضخم.. وسيأتي اليوم الذي يصل الحد التي تصادَر فيه حرية الاعتقاد والرأي ويُمنع النقد، ويصاب المجتمع بالعقم والشلل الفكريين في المحصلة!

اقرأ أيضاً: فرنسا العلمانية أمام تحدي التطرف و"الانعزالية الإسلامية"

وهكذا ترفض الأنظمة الديمقراطية العلمانية رفضاً قاطعاً سن أي قوانين تحمي الأديان، وتعتبر ذلك اعتداء على حقوق وحريات غير المتدينين، أو حتى المتدينين أنفسهم عندما تكون تلك القوانين لصالح دين دون سواه أو أكثر من سواه، وتعدُّ مثل هذه القوانين عودة إلى القرون الوسطى وظلاميتها وفرضها القسري للمقدسات الفئوية الجهوية.

ما يعني أن هذه النظم عندما ترفض حماية دين ما أو مقدس ما، سواء كان الإسلام أو سواه، فهي لا تتقصد عداءه أو محاربته أو تستهدفه حصرياً بالشر المتعمد، ولكنها تدافع عن نفسها وقوانينها وقيمها ونواظمها الخاصة من وجهة نظرها، وتقول لكل صاحب مقدس يعتبر أنه تعرض لاعتداء على مقدسه، إذا كان هذا الاعتداء معنوياً فقط، فعليك أنت وحدك تقع مسؤولية الرد بالكامل وبالشكل الذي تريده، فردّ ولن نمنعك.. بل سنحمي حقك في الرد، ولكن بشرط أن تبقى ردودك معنوية فقط، وممنوع عليك ممارسة أي عنف عملي في ردك، أما في حال تعرضك لأذى مادي أو عملي أو عياني فعلينا وحدنا تقع مسؤولية حمايتك بالكامل، وهنا أيضاً لا يحق لك الرد بعنف عملي بذريعة الدفاع عن النفس، لأن الدولة هي من سيدافع عنك!

العلمانية ترى في سن قوانين تحمي الأديان اعتداء على حقوق وحريات غير المتدينين أو حتى المتدينين أنفسهم

وإذا ما تمعنا في الحادثة الأخيرة التي وقعت في فرنسا، وتم فيها نشر رسوم مسيئة لنبي الإسلام، وتسببت بمقتل مدرس فرنسي بشكل وحشي لأنه عرضها في مدرسته، موقف الدولة الحازم الواضح هو أن على المختلفين أن يتعاملوا بالحسنى، وهذا هو الأمر المرجو، فإن لم يكن، فعليهم عندها أن يتصارعوا بالحسنى، وهذا هو أضعف الإيمان، وهو الصراع الذي لا ينجم عنه أي عنف مادي أو عملي، ويبقى داخل حدود السلمية.

اقرأ أيضاً: قانون الأمن الشامل: هل تسير فرنسا على خطى الاستبداد والشمولية؟

وبالتالي ففي حالة الحادثة الأخيرة، موقف الدولة الواضح هو أن المسلمين تعرضوا فعلاً لاعتداء معنوي من شخص يعادي الإسلام، لكن الدولة لا تمنع الشخص من محبة أو عداء من أو ما يريد والتعبير المعنوي عن ذلك، ومعاداة أحدهم للإسلام هي بالنسبة لها كمعاداة آخر للشيوعية أو لليمين القومي مثلاً، وهي ليست مع ولا ضد هذا أو ذاك، وهي تلزم الجميع بأن يلتزموا باللاعنف والمواجهة المعنوية في صراعهم هذا بدون أي عنف عملي أو مادي، وبالتالي.. الدولة تقول للمسلمين ردوا على من هاجمكم بنفس الأسلوب، سفّهوه واسخروا منه وصفوه بأقبح الصفات وما شابه، ولن نمنعكم أو ندع سوانا يمنعكم، لكننا لن نتدخل في معركتكم الخاصة بكم، ولن نسمح لكم أو لسواكم باستخدام أسلحة ممنوعة على الجميع في مجتمعنا، وما ينطبق على فرنسا ينطبق على كل الدول العلمانية المشابهة لها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية