هل تدافع إسرائيل عن الوجود أم عن الحدود؟

هل تدافع إسرائيل عن الوجود أم عن الحدود؟

هل تدافع إسرائيل عن الوجود أم عن الحدود؟


07/02/2024

طارق فهمي

في السنوات الأخيرة من عمر المواجهات الإسرائيلية – العربية، كانت الحكومات الإسرائيلية تسعى إلى تقليص خسائرها البشرية، وسادت نظرية أن المجتمع الإسرائيلي لا يتحمل سقوط أعداد كبيرة من الضحايا سواء من العسكريين، أو المدنيين، والآن تتغير الرؤية والمقاربة في اتجاه ما أكدته حرب غزة حيث بات الحديث عن الاستعداد لدفع تكلفة عالية مع امتداد الحرب الراهنة في قطاع غزة، وبات هناك قبول لمسألة الخسائر البشرية. ماذا جرى؟ وما وراء ما يجري من تطورات تتعلق بالرؤية الأمنية والسياسية للمواجهات الجديدة؟ والمحتمل أن تدخلها إسرائيل من غزة إلى مسارح عمليات أخرى؟

أسباب معلنة

مع تتالي سقوط قتلى من الضباط والجنود الإسرائيليين بصورة لافتة في أول مواجهة مع حركة "حماس" والتي تجاوزت 120 يوماً ومرشحة للاستمرار (سجل عدد قتلى إسرائيل في عملية طوفان الأقصى أكثر من 900 شخص فيما بلغ عدد المصابين الإسرائيليين أكثر من 2000 مصاب)، ومع تتالي الخسائر البشرية لعناصر نخبوية، دار سؤال في هيئة الأركان وتسرّب منه بعض المعلومات حول مدى تحمل إسرائيل استمرار الحرب، وانفتاح المشهد العسكري على عكس ما كان سابقاً في أطول مواجهة كانت 54 يوماً ولم تقع كل هذه الخسائر الإسرائيلية سواء على مستوى الجنود أو الخسائر الاقتصادية الكبيرة، وفي مساحات ممتدة من التطورات التي تحتاج إلى مراجعات حقيقية ولا تزال، وكان التصور ما بين موقفين:

الأول: يؤكد على تحمل إسرائيل مزيداً من المواجهة أو الحرب على جبهات متعددة في التوقيت نفسه، إذ إن هذا الأمر سيؤدي لمزيد من استدعاء القوة العسكرية والقيام بعمليات كبيرة، ثم الشروع في مواجهات وترتيبات أمنية واستراتيجية مثلما هو جار في حال غزة، أو الاتجاه لمزيد من التسليح وتطوير منظومة الدفاعات الحديثة، مثل منظومة "السماء الحمراء" و"الليزر" و"مقلاع داوود"، مع تطوير القدرات الراهنة لمنظومة القبة الحديدية بدعم أميركي، وغيرها من الإجراءات والتدابير المتطورة التي تدفع لمزيد من الخطوات الاستراتيجية والسياسية المكملة، ما سيؤدي إلى مزيد من الخسائر الكبيرة لموازنة تعاني من حال تأزم وتعيش على الدعم الخارجي بخاصة من المساعدات الأميركية، والمنظمات التطوعية التي تضخ الأموال خارج سياق الإقرار السنوي الذي يمر عبر الكونغرس.

الثاني: الذي يرى أن ما يجري في إطار المواجهة الحالية مرتبط في الأساس بقضية مهمة ورئيسة، وهي وجود الدولة العبرية في محيطها الإقليمي، وأنها معرضة للحظة فارقة في تاريخها لم يرد إنهاء هذا الوجود، أو على الأقل مواجهته بالقوة من خلال التجرؤ على الدولة، والدخول في أراضيها، في إشارة للهجوم الخاطف الذي قامت به "حماس".

وكشفت السردية الإسرائيلية، ونظرية الأمن التقليدية، والتي كانت تؤكد على قدرة إسرائيل النوعية والحرب خارج حدودها وذراعها الاستراتيجية الرادعة، ومن ثم كان الرأي الأرجح الاستمرار في المواجهة، ونجح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وعدد من الجنرالات السابقين في هيئة الأركان، في التحرك لفرض قوة الدولة. وكان قرار تشكيل مجلس الحرب وتبني استراتيجية ممتدة وطويلة مع التركيز على استعادة الردع والقوة في مواجهة ما يجري، وعدم الإنصات للمطالب التي دعت، من اليوم الأول، للتهدئة، أو على الأقل الاستمرار في التفاوض وتحرير الأسرى الذين ما زالوا في يد "حماس"، وعجزت إسرائيل عن الإتيان بهم حتى الوقت الراهن على رغم وجود قوات النخبة من عناصر "لواء غولاني" الذي دخل الخدمة في أرض الميدان، ثم أعادت هيئة الأركان عناصره إلى الداخل، إضافة لوجود قوات أميركية ممثلة في عناصر "دلتا"، ووحدة استخبارات نوعية من بريطانيا للبحث عن الأسرى.

إجراءات تنفيذية

ولهذا تبنت إسرائيل الدولة والحكومة ومجلس الحرب، على رغم التباين اللافت في المواقف والاتجاهات، العمل على مسارين، الشروع في إجراءات أمنية واستراتيجية، والعمل العسكري المباشر، والانتقال من شمال القطاع إلى جنوبه ووسطه، ومن الجنوب إلى مناطق المقاومة من مدينة غزة، وتطهيرها إلى خان يونس حيث المواجهات الراهنة، ومنها الوصول إلى رفح حيث تتم زحزحة الفلسطينيين إلى الحدود مع مصر، إضافة إلى الاستمرار في التفاوض من أجل إتمام صفقة تبادل الأسرى، الأمر الذي يكشف عن تبني إسرائيل الخيارين معاً في إطار تقبل استراتيجية الأمر الواقع التي تحاول التعامل معها، واتضحت في مواقف متعددة، منها إقناع أسر وعائلات الأسرى بأن التفاوض مستمر وأن إسرائيل ماضية كدولة في مساره، إلا أن بقاء الدولة والاستمرار في الإقليم وحياة إسرائيل تحتاج بالفعل إلى الاستمرار في الحرب والمواجهة، وعدم الإنصات للدعاوى بوقف الحرب وتقديم تنازلات موجعة قد تؤدي إلى تآكل استراتيجية الردع الكبيرة التي كانت تملكها إسرائيل، وتتباهى بها في المنطقة.

والآن، تتعرض هذه المعطيات الثابتة والراسخة للتراجع بخاصة أن أعداد القتلى يتم الإعلان عنها يومياً وبصورة مباشرة، وتسمح الرقابة العسكرية بنشر كل التفاصيل ما قد يحرج الحكومة الراهنة، ويؤكد أمام الجمهور الإسرائيلي أن هذه الحكومة غير قادرة على الدفاع عن المواطن الإسرائيلي ما قد يشجع على مزيد من معدلات الهجرة للخارج، والانتقال من أرض "أورشليم - القدس" أرض اليهود الأخيرة، وحقهم في الوجود، إلى الشتات مجدداً.

يشار هنا إلى أن مكتب الأمن القومي الإسرائيلي أشار إلى أن عدد قتلى إسرائيل، خلال الصراع العربي - الإسرائيلي، بلغ 23 ألفاً و169 شخصاً، وأن عدد قتلى إسرائيل، خلال حروبها مع الدول العربية، كان الأكبر بين عامي 1947 و1948، حيث بلغ نحو 6500 شخص، كما قتل خلال حرب الاستنزاف في سيناء، بين عامي 1967 و1973، نحو 1000 جندي إسرائيلي.

تأكيدات حقيقية

ومع الاستمرار في هذا النهج من السياسات الإسرائيلية سواء العسكرية أو السياسية، فإن السؤال المطروح مرتبط بتقبل مؤسسات نظام الحكم العسكرية، (وزارة الجيش - هيئة الأركان - مجمع الاستخبارات العام)، فكرة الحرب المفتوحة مع توقع مزيد من الخسائر البشرية والاقتصادية من أجل خلق منع وطنية جديدة تعمل إسرائيل للوصول إليها في المديين القصير والبعيد، الأمر الذي يفسر تصميم رئيس الوزراء الإسرائيلي، ومن ورائه مجلس الحرب، على الاستمرار في الحرب، بل والمواجهة، مع فصل ما يجري من خطوات بتقبل تنفيذ اتفاق تبادل للأسرى ووقف تكتيكي للحرب، ما يشير إلى أنه، حتى مع تقبل الإطار الزمني المطروح أي بين 35 أو 40 يوماً، والبناء عليه، فإنه لا يعني أن إسرائيل ستوقف ما يتم من إجراءات في عمق القطاع من ترتيبات أمنية، بل الاستمرار في التواجد في غزة وحكمها، ما يؤكد استمرار النزعة العسكرية الكبيرة وتوافر مقوماتها، وأنها لن تتراجع، مع التأكيد، أيضاً، على تقبل تلّ أبيب الخسائر الراهنة والمتوقعة، والاستعداد الفعلي لدفع ثمن اقتصادي كبير وبالغ الأهمية، إضافة للاستمرار في حكم القطاع،  أطول مدى، إلى حين فرض استراتيجية الردع التي تسعى إسرائيل للوصول إليها في الوقت الراهن من دون الإنصات أو الاستماع إلى أي نصائح بالتهدئة وتقبل الأمر الواقع خصوصاً.

وسيكون ثمن احتلال قطاع غزة مكلفاً للغاية، وسيؤدي إلى استنزاف القدرات الاقتصادية في مرحلة ما بعد الحرب، والتي تحسب بتواجد الجندي والضابط الإسرائيلي على الأرض، وتأمين مهامه، مع التوقع بوجود جيوب للمقاومة ستعلن عن نفسها في إطار ما سيجري من مواجهات، حتى مع تشكيل قوة متعددة الجنسيات عربية أو أجنبية وغيرها من الإجراءات التي تطرحها إسرائيل، في الوقت الراهن، ما يؤكد أن هناك اتجاهاً للتضحية بكل ما يجري، ورفض أي ضغوطات أميركية لوقف الحرب، ولو تدريجاً، قبل التوصل لقدرة المناعة والردع الجديد في مواجهة التهديدات والأخطار التي يمكن أن تتعرض لها إسرائيل وتتطلب التعامل معها بقوة، ومن خلال استراتيجية متعددة وجديدة تتجاوز الرؤية والمقاربة القديمة والارتكاز للحلول السياسية، أو التهدئة، أو التخوف من الخسائر في الأرواح.

وتواجه إسرائيل لحظات حاسمة في تاريخها وتسعى للتواجد في الإقليم كدولة لليهود، ومن دون ذلك، فإن الأخطار ستتجدد وتتنوع، وربما المواجهة المقبلة لـ "حزب الله" والفصائل المتنوعة في العراق واليمن وسوريا، والتي بدأت العمل على مسار متعدد لإنهاك القدرات الإسرائيلية، ومحاولة إدخالها في حلقة فراغ حقيقية ما يتطلب مواجهة مفتوحة، وعدم الإنصات إلى ما كان قائماً ما سيتطلب مزيداً من استخدام القوة العسكرية الممنهجة.

الخلاصات الأخيرة

ومن الواضح أن إسرائيل، حكومة ومجلس حرب، ستتجه إلى الاستمرار في مسار المواجهات المفتوحة وتوظيف قدرات الدولة في فرض موقف جديد في غزة، وفي مواجهة الأطراف الوكيلة لإيران، والتي تعمل في إطار متجدد والوصول إلى إسرائيل، واستهداف موانئ ومنشآت ومصالح استراتيجية في باب المندب والممرات الدولية والعربية، وهو ما ستعمل إسرائيل على مواجهته بصورة شاملة قبل الاتجاه إلى التهدئة.

وسيتطلب الموقف الراهن، مع إعادة تغيير نظرية الأمن الراهنة وبناء نظرية أمن جديدة، ومع إعادة التأكيد على ضرورة إصلاح وتطوير الجيش الإسرائيلي من خلال خطط استباقية على رغم ما كان يتم من خلال خطط سابقة، والتي كانت تسعى لتشكيل جيش حديث يتبع أحدث أنماط في المواجهة العسكرية والاستراتيجية، ما يؤكد أن ما سيجري، من الآن فصاعداً في إسرائيل، مرتبط بالفعل برغبة حقيقية في الوجود في الإقليم كدولة كبيرة لديها قدرة على الردع والمواجهة والعمل، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال حلول جذرية متكاملة  وليس إتباع خطط نظرية غير واقعية في ظل تبدل خريطة التهديدات المواجهة لأمن إسرائيل .

ومن ثم، فإن إسرائيل ستتقبل سقوط قتلى ودفع تكلفة اقتصادية كبيرة من أجل الوصول إلى قدرة الردع والعمل على المستقبل مع عدم تقديم أي تنازلات في إطار ما يجري من تحديات أو أخطار، بخاصة أن استخدام القوة الممنهجة في مسرح العمليات في قطاع غزة هو ما سيفرض بالفعل استراتيجية إسرائيل الجديدة في الإقليم، ويؤكد على قدرتها في مواجهة أية تحديات أو أخطار قد تمثل خطراً على الأمن القومي الإسرائيلي في المدى المنظور، وحمايته من أية مستجدات متوقعة من الفصائل والميليشيات في الإقليم، والتي ثبت أن لديها القدرة، ولو متواضعة، في التعامل، الأمر الذي سيتطلب الاستمرار في تحديث منظومات الدفاع، وتطوير القدرات الاستخباراتية والمعلوماتية، والعمل في العمق الاستراتيجي لمسارح العمليات المتوقعة.

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية