هل تؤمن بقدرة البرمجة اللغوية العصبية على صناعة العقول؟

هل تؤمن بقدرة البرمجة اللغوية العصبية على صناعة العقول؟


05/08/2018

استوقفتني نصيحة أحد مدربّي البرمجة اللغوية العصبية إلى أولياء الأمور، معتمداً على لغة الجسد: "انتبهوا إلى الجهة التي تنظر إليها عيون أطفالكم أثناء حديثهم؛ فحيث ينظرون يتكشّف صدقهم أو كذبهم". من الواضح أنّ هذه التقنية تستطيع أن تحدد بشكلٍ دقيق إذا ما كان الطفل يتذكر أو يتخيل. الوهج المبدئي لهذه التقنية في سبرها السريع لأعماق الطفل، يجعلنا نظن أننا وجدنا ضالّتنا في التواصل مع أطفالنا، لكن إذا نظرنا أبعد من أنوفنا قليلاً، نرى أننا نعمي أنفسنا عماءً إرادياً عن مسؤوليات التربية، فطالما لم نتمكن من قراءة مشاعر أطفالنا، هذا يدل بشكل واضح أننا بعيدون عنهم. وهذا البعد ينجم أصلاً عن عدم الثقة بمشاعرنا. هل يمكن للحب أن ينمو بمعزل عن الثقة؟ ماذا لو اقتربنا مِن أطفالنا أكثر هل كنّا بحاجة إلى هذه التقنية؟

في عالمنا المأخوذ بأوهام السرعة لا وقت إلّا لعلاج الأعراض وحدها  أو إعادة برمجة الدماغ حسب تسمية هذه التقنية

هذا التساؤل يفتح أبواباً واسعةً على تساؤلاتٍ أكبر. بتنا اليوم نشهد إقبالاً شديداً على منتجات البرمجة اللغوية العصبية في مجتمعاتنا، فالجميع يريد حلاً سريعاً لمشاكله، ويتوقّع أن يجد ضالّته في هذه التقنية؛ حيث إنّها تقدّم برنامجاً شاملاً وسريعاً من الحلول، يطال جميع مجالات النشاط الاجتماعي، ففي هذا العالم المأخوذ بأوهام السرعة، لا وقت إلّا لعلاج الأعراض وحدها، أو إعادة برمجة الدماغ كما تفضل هذه التقنية أن تسميه. الإنسان البرنامج مدفوع بقوة إلى خلاصٍ يتوفّر في فكرة الإنسان المتفوق، والإنسان المتفوق الذي تتبناه البرمجة كأحد أهدافها، هو الأكثر تكيفاً ـ هذا جيد جداً ـ ولكن التساؤل الأعمق الذي يتم تمويهه: ما الذي يجب أن يتكيّف معه الإنسان؟

اقرأ أيضاً: علميًا: كيف تتسرب الدعاية المتطرفة إلى عقول الناس؟

على الإنسان أن يتكيف مع جملة الشروط التي تُنتج الواقع؛ لأنّ الإنسان المنفصل عن الواقع تُرفضُ أهليّته الاجتماعية والإنسانية، ويبدو أنّ البرمجة فهمت الدرس جيداً، فقدرتها التأثيرية الواسعة ونفوذها المتزايد، ينمّ عن فهمها الدقيق للآلية التي يعمل بها عصرنا "عصر السرعة"، فالعناوين العريضة التي تُقدّمها: "سرعة التعلم والتذكر، سرعة الإقناع، سرعة التخلص من المخاوف والعادات، سرعة اتخاذ القرار، سرعة القراءة، سرعة العد، سهولة الانسجام، سهولة التأثير على الآخرين، زيادة الإنتاج، سرعة الوصول إلى الهدف، اختصار الوقت"، ليست سوى برمجة الفرد على مقاس هذه السرعة، من خلال تقنيات يتلقفها الأفراد على أنّها هدايا مغلفة بالسرعة والسهولة، ولكن ربما يتكشّف لنا في الوجه الآخر لها، أنّها تدسّ السم في الدسم.

اقرأ أيضاً: علماء الأعصاب يحذرون: دماغك قد يأكل نفسه!

فإذا كانت البرمجة اللغوية العصبية تقوم على دعم أو تعديل اتجاهات الفرد وأفكاره وسلوكياته بالاتجاه الإيجابي، ومن منطلق التفكير الإيجابي، من أجل التوافق مع متطلبات الحياة، وبناءً على رغبة الفرد نفسه. فإنّ عملية غسيل الدماغ على النقيض منها، تسعى إلى تجريد الفرد قسرياً من أفكاره واتجاهاته وقيمه، لتضع مكانها أفكاراً جديدة تخدم الطرف القائم بعملية الغسل. بالطبع غسيل الدماغ لا يتم  فقط بشكله المباشر كما يحدث في أماكن الاحتجاز والمعتقلات، وإنما هناك التحكم غير المباشر والذي تمارسه السلطات السياسية والدينية والاقتصادية ووسائل الدعاية والإعلام؛ حيث يُطلَق عليها اسم البرمجة أو "الهندسة الاجتماعية ضمن سياق السيطرة على العقل" كما وردت  في كتاب "حروب العقل" لماري د.جونز ولاري فلاكسمان. وبالنظر إلى السّير الذاتية لمدرّبي البرمجة؛ فإننا نلاحظ ارتباطهم بتلك السلطات كمستشارين في المجالات التربوية والسياسية والاقتصادية  ووسائل الإعلام والدعاية، وفي المجالات الدينية أيضاً ،على الرغم من زعم دعاة الدين أنهم يرفضون البرمجة، هذه الموضة الدخيلة على مجتمعاتنا على حد قولهم، ونلاحظ أن معجمهم اللفظي لهؤلاء المستشارين يتناغم مع آليات السيطرة التي تمارسها تلك القوى (التحكم، السيطرة، القيادة، الترويض، الاستغلال، التفوق، المصلحة، الامتلاك، التأثير، الهدف، صناعة الأطفال، صناعة الجماهير). فالدماغ الذي يشاركون في غسله، يعملون على إعادة برمجته، وكل هذا يندرج تحت اسم التكيّف.

اقرأ أيضاً: أفكار إرهابية.. في عقول مسالمة

حتى الآن لم يتكيّف الإنسان مع الحياة؛ بل تكيّف وبشكلٍ مفرط مع فكرة البقاء، أن تبقى، لا تنفصل عن منافسة ضمنية تطرح أسماء التفضيل كحَكمٍ نهائي بين القطيع البشري. وتعيد إنتاج فكرة "البقاء للأفضل". لهذا نجد أنفسنا اليوم محاصرين تماماً بقوائم التفوق، التي تُحدّد القوة والأهمية، الشاغلان الأساسيان لأفراد المجتمعات، وبما أنّ المكانة والقوة تنجمان عن التملك والملكية، فإنّ المكانة تتحدد على مؤشرات هذه القوائم، إنّها الصورة التي تعكس علاقة الإنسان مع الواقع، والمبرمجون اللغويون ليسوا بعيدين عن هذه الصورة؛ إذ يعتمدون هذه الآلية في تسويق أنفسهم، ففكرة التنافس لا تنفصل عن برامجهم، لهذا تحظر في أجنداتهم الخطوات أو الطرق أو الأسباب ضمن قوائم تفضيلية، تمنح المتلقي إيقاعاً سريّاً يفتح باب الأهمية والمكانة، ضاربةً عرض الحائط أنّ "الإنسان أكثر من مجموع أجزائه"، بالتالي هو أوسع من البرامج التي يمكن أن ينتجها أو أن يحملها.

القدرة التأثيرية الواسعة للبرمجة اللغوية العصبية ونفوذها المتزايد ينم عن فهمها الدقيق للآلية التي يعمل بها عصر السرعة

قبولنا بفكرة صناعة الأطفال، صناعة الجماهير، أو بالأحرى صناعة العقول، هو تقييد لتفتّح هذه العقول، التي يمكن لها أن تنتج وعياً يتجاوز اختزاليتنا الفجة للإنسان والعالم؛ حيث يتم اختصار الوعي إلى برنامج، والمعرفة إلى معلومة، والقراءة إلى فعل تحصيل كمّي، والرياضيات إلى حساب ذهني، وبالتالي الإنسان إلى آلة،  وهذا بالضبط ما يمنعنا من الاستغراب حين يصادفنا عنوان "كيف تصنع إرهابياً"، وعلى الطرف النقيض "كيف تؤهل إرهابياً"، ويخوّلنا أن نتساءل: هل البرمجة حقاً تصبّ في التنمية البشرية، أم في جيوب مروّجيها؟

اقرأ أيضاً: احذر.. هكذا تؤثر "السوشيال ميديا" في دماغك

يقول إدغار موران في "إيكولوجية الفعل" بأنه: "عندما يبدأ فعل ما سواء في وسط اجتماعي أو طبيعي، فإنّ ذلك الفعل يفلت تدريجياً من إرادة الفاعل الأوّل، ليدخل في سيرورة تفاعل قد تغيّر اتجاهه أو مساره". من هنا يمكننا الافتراض أنّ الإرادة الطيبة لكل من عالمي البرمجة "ريتشارد باندلر، وجون جيندر"، اللذَين أسّسا لما أصبح يُعرف بالبرمجة اللغوية العصبية، يمكن أن تذهب في اتجاهٍ مغاير للإرادة والجهد المبذولين في هذا المنحى، فهل يمكن لتقنية القراءة السريعة أن تنجح مع كتب مثل؛ "لهب شمعة" لباشلار، دون أن تسقط عنه الحلميّة التي تغلفه؟ أو هل بالإمكان قراءة "البطء" لكونديرا خارج ضفاف التأمل؟ ربما تكمن الإجابة في الوعي وليس في العقل الباطن، فهناك الطرق المفضية إلى النهاية، وبالمقابل الدروب المفتوحة على الحياة ، ووحده الوعي من يحدّد فضاء خطواتنا.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية