هكذا أصبح لواء الإسكندرون السوري محافظة تركية

هكذا أصبح لواء الإسكندرون السوري محافظة تركية

هكذا أصبح لواء الإسكندرون السوري محافظة تركية


09/11/2023

في حين لا يزال الاتجاه الرسمي في سوريا يُسميه "المحافظة السورية الخامسة عشرة" و"اللواء السليب"، ولا تزال خرائط سوريا تتضمنه وتظهره كمنطقة سورية محتلة، فإنّ تركيا تعتبر لواء الإسكندرون اليوم المحافظة الحادية والثمانين، فتستفيد من مينائه وتعتمد على محاصيله الزراعية المتنوعة، وتروّج له باعتباره منطقة جذب سياحي ترفد الاقتصاد التركي. فما هي قصة اللواء؟ وكيف أصبح محلّ نزاع؟

الحرب العالمية الأولى.. وعود ومعاهدات

كان لواء الإسكندرون في العصر العثماني سنجقاً تابعاً لولاية حلب، بحيث كان بمثابة مرفأ للولاية ومنفذها إلى البحر المتوسط. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، بدأت في تموز (يوليو) العام 1915 المراسلات بين الشريف الحسين بن علي، والسير هنري مكماهون، الممثل الأعلى لملك بريطانيا في مصر، والتي أبدت فيها بريطانيا موافقتها على الاعتراف باستقلال العرب بعد الحرب.

اقرأ أيضاً: تركيا في القرن الأفريقي: حنين العثمانيين الجدد للهيمنة

ووفقاً لما جاء في المراسلات، فإنّ الحدود الشمالية للدولة العربية المرتقبة تمتد حتى قاعدة جبال طوروس شمالاً، على خط العرض 37، الذي تقع عليه المدن ذات الغالبية العربية، من مرسين وأضنة غرباً، حتى ماردين شرقاً، مروراً بأورفة (الرها)، بحيث كانت تشمل كامل مناطق لواء الإسكندرون الواقعة إلى الجنوب منه.

كان لواء الإسكندرون منفذ ولاية حلب إلى البحر المتوسط

وعندما وُقعت اتفاقية "سايكس-بيكو" السريّة، كان كامل الساحل السوري الشمالي واقعاً ضمن مناطق الإدارة الفرنسية، بما في ذلك أراضي اللواء، وهي المناطق التي قضى الاتفاق بانفصالها عن تركيا، ومن ثم انضمامها إلى الدولة العربية بعد الاستقلال. وعند قيام المملكة العربية السورية العام 1918، كانت مناطق اللواء جزءاً منها، وقد حضر ممثلين عنها إلى المؤتمر السوري العام في حزيران (يونيو) العام 1919.

قامت فرنسا بتسليم مناطق سوريا الشمالية في اتفاقية لوزان عام 1923 إلى تركيا

وفي آب (أغسطس) العام 1920، أكدت معاهدة "سيفر" على ضم كامل اللواء إلى الأراضي الخاضعة للانتداب الفرنسي على سوريا، واعترفت الدولة العثمانية المنهارة، في المادة 27 من المعاهدة، بعروبة مناطق جنوب الأناضول وارتباطها بالبلاد العربية. وفي العام 1921، قامت حكومة الانتداب الفرنسي بعمل إحصاء سكاني في اللواء، أظهرت نتائجه أنّ نسبة الأتراك في اللواء لا تتجاوز حدود الـ 20 بالمئة.

خريطة معاهدة سيفر ويظهر فيها وقوع كامل لواء الإسكندرون ضمن سوريا

الانضمام إلى الدولة السورية

بعد بداية الانتداب الفرنسي على سوريا، قام الجنرال الفرنسي "هنري غورو" بإصدار سلسلة مراسيم عرفت بـ "مراسيم التقسيم" (بين آب (أغسطس) 1920 وآذار (مارس) 1921) قضت بتقسيم سوريا إلى دويلات منفصلة، خاضعة للانتداب الفرنسي، وكان لواء الإسكندرون إحدى هذه الدويلات، إضافة إلى الدويلات الأخرى:  دمشق، وحلب، وجبل العلويين، وجبل الدروز، ولبنان الكبير.

اقرأ أيضاً: ماذا تريد تركيا من الوطن العربي؟

قوبلت مخططات التقسيم برفض شعبي كبير، ما انتهى بدايةً إلى إنشاء الاتحاد الفيدرالي السوري بين دمشق وحلب، ثُمّ إنشاء الدولة السورية عام 1925، عبر توحيد الدولتين: دمشق وحلب.

وخلال تلك الفترة، قامت فرنسا بتسليم مناطق سوريا الشمالية -في اتفاقية لوزان عام 1923- إلى تركيا، والتي شملت مدناً سورية عديدة كـ: الرُها، وعين تاب، وماردين، بينما بقي لواء الإسكندرون -وأهم مدنه: أنطاكيا، والإسكندرون، والريحانية، وأرسوز- ضمن المناطق السورية.

توقيع معاهدة لوزان في تموز العام 1923

بقي لواء الإسكندرون ضمن الأراضي السورية بعد معاهدة لوزان

وخلال فترة الثورة السورية الكبرى (1925 - 1927)، قام رئيس الدولة السورية آنذاك "أحمد نامي" بزيارة اللواء، ومن ثم أرسل وفداً وزارياً سورياً إلى اللواء، أجرى مباحثات حول إعادة ربط اللواء بسوريا، وكان حينها دولة مستقلة تُحكم مباشرة من قبل حاكم عسكري فرنسي.

وقد أكدت المفاوضات على المحافظة على كامل حقوق مختلف مكونات اللواء من غير العرب، من الأتراك، والأرمن، والأكراد، وبناءً على ذلك، انعقد اجتماع المجلس التمثيلي لدولة إسكندرونة وأقرّ رسمياً الانضمام للدولة السورية، وذلك في عام 1926. وعندما وُقعت معاهدة الاستقلال بين سوريا وفرنسا العام 1936، كان اللواء مشمولاً ضمن مناطق الدولة السورية.

توقيع معاهدة الاستقلال بين سوريا وفرنسا عام 1936

إعادة الفصل.. قرار أمميّ

خلال فترة الانتداب الفرنسي على اللواء، كان الفرنسيون قد بدأوا التخطيط لفصل اللواء من جديد؛ إضعافاً للدولة السورية الوليدة، وإرضاءً للجمهورية التركية الطامحة آنذاك للتقليل من خسائر معاهدة سيفر واستعادة أكبر قدر ممكن من ممتلكات الدولة العثمانية، فسمحت منذ العشرينيات بسياسة تتريك هادئة، ساهمت في رفع نسبة الأتراك من 20% إلى حدود الـ 35% خلال 15 عاماً.

وبعد انضمام الدولة السورية إلى عصبة الأمم عام 1936 وشمول أراضيها لواء الإسكندرون، بادرت تركيا برفض إبقاء اللواء ضمن الدولة السورية، وطالبت بتحويله إلى دولة مستقلة، تمهيداً لضمه لاحقاً. ورفعت تركيا القضية إلى عصبة الأمم بالتعاون مع فرنسا، وهو ما اعتبر مخالفةً فرنسية لصكّ الانتداب الذي يمنع الدولة المنتدَبة من التنازل عن أيّ جزء من الأراضي المنتدبة عليها.

وفق الإحصاء السكاني عام 1921 فإنّ نسبة الأتراك في لواء الإسكندرون  لم تتجاوز حدود الـ 20 بالمئة

من جهتها، قامت عُصبة الأمم بإرسال مراقبين دوليين إلى اللواء، وفي 28 كانون الأول (ديسمبر) العام 1936، وصلت اللجنة إلى أنطاكيا، وطافت مختلف مناطق ومدن اللواء، وتعرّفت على فئات السُّكان، واجتمعت مع الوجهاء والزعامات. وخلال فترة وجود البعثة في اللواء، نظّم السُّكان من العرب والأرمن مسيرات شعبيّة، شارك فيها الآلاف ورفعوا فيها الأعلام السورية واليافطات التي تُعبّر عن مطالبهم بالمحافظة على ارتباط اللواء بالدولة السورية.

وبعد فراغها من مهمتها، عادت اللجنة إلى جنيف، وبحسب أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية فقد عبّرت اللجنة عن الانطباعات التالية:
1. الأتراك لا يُشكّلون أكثرية السّكان في لواء الإسكندرون.
2. الغالبية العُظمى من سكان اللواء، بما فيهم نسبة من الأتراك، تُعارض ضم اللواء إلى تركيا.
3. الأتراك في اللواء ليسوا مضطهدين من جانب السُلُطات المحليّة.

اقرأ أيضاً: تركيا ما بعد فوز أردوغان.. ما شكل "العثمانية الجديدة"؟

ولكن، وأثناء وجود بعثة المراقبين في اللواء،  كانت محادثات سريّة قد جرت بين فرنسا وتركيا، اتفقت فيها الدولتان على فصل اللواء وجعله منطقة مستقلة ذاتياً منزوعة السلاح. وهو ما تمّ في 29 أيار (مايو) العام 1937 مع إصدار عصبة الأمم قراراً بفصل اللواء عن سوريا، وتعيين حاكم فرنسي جديد له.

وعند صدور القرار كان عدد سكان اللواء 220 ألف نسمة، 105 آلاف منهم من العرب، و85 ألف من الأتراك، و25 ألف من الأكراد، و5 آلاف من الأرمن. وقد استقبلت تركيا قرار عُصبة الأمم بارتياح وترحيب كبيرين.

دولة هاتاي.. دولة تركية

مع نهاية عام 1937، شكلت عُصبة الأمم لجنة لوضع قانون انتخابات للدولة الجديدة، وكان يقضي بأن يسجّل كل ناخب نفسه ضمن المجموعة العرقية التي ينتسب لها، وقد اعترضت تركيا على هذه المادة، وطلبت أن يُسمح لكل ناخب بالتسجيل في المجموعة التي يختارها، وتمّت الاستجابة لهذا المطلب. كان الهدف من وراء هذا التعديل هو التمكن من استمالة عدد كبير من غير الأتراك وتسجيلهم ضمن القائمة التركية عن طريق الضغوطات والمال وبالاتفاق مع السلطة الفرنسية. كما سمحت فرنسا لتركيا بإدخال أكثر من خمسة وعشرين ألف تركي إلى اللواء، وقامت السلطة المنتدَبة بتزويدهم بتذاكر هوية خاصّة باللواء، يستطيعون بموجبها ممارسة حق الانتخاب.

قام الجنرال هنري غورو بإصدار سلسلة مراسيم قضت بتقسيم سوريا لدويلات منفصلة خاضعة للانتداب الفرنسي كان الإسكندرون إحداها

وبتاريخ 21 نيسان (إبريل) العام 1938، وصلت اللجنة الدولية إلى اللواء للإشراف على سير عملية الانتخابات. وبدأ التسجيل للانتخابات في شهر أيار (مايو) 1938، وفي ذلك التوقيت، أذاع راديو "إستانبول" نبأً عن اتفاق سريّ بين فرنسا وتركيا، عُقد في جنيف في العاشر من آذار (مارس) 1938، تعهدت فرنسا بموجبه بضمان أغلبية تركية في مجلس اللواء المقبل، وبدأت تركيا بحشد قواتها على حدود اللواء، مع إنذار فرنسا باحتلاله إن لم تَفِ بتعهداتها.

وتحت هذا الضغط، باشرت فرنسا بإجراءات لتنفيذ تعهدها، وذلك عبر إعلان الأحكام العُرفية، والطلب إلى اللجنة الدولية وقف عمليات تسجيل الناخبين بحجّة التوتر الأمني في اللواء. وقامت السلطة الفرنسية باستغلال هذه الفترة، فأقدمت على توقيف القيادات من السكان العرب، وملأت السجون بالمعتقلين من الشباب العرب.

اقرأ أيضاً: هل تتمنى حقاً عودة الخلافة العثمانية؟

وفي 23 حزيران (يونيو) 1938 اتفقت فرنسا وتركيا على إدخال 2500 جندي تركي إلى اللواء للمشاركة في حفظ الأمن، وفي 29 من الشهر نفسه غادرت اللجنة الأمَميّة، وقامت بإعداد تقريرها الذي أظهر تفوّق العرب عددياً على الأتراك، ورفعته بتاريخ 30 تموز (يوليو) 1938 إلى عصبة الأمم.

أصدرت عصبة الأمم عام 1937 قراراً بفصل لواء الإسكندرون عن سوريا وتعيين حاكم فرنسي جديد له

في تلك الأثناء، كانت فرنسا وتركيا قد اتفقتا على تشكيل لجنة مشتركة للإشراف على انتخابات جديدة بعد مغادرة اللجنة الأمميّة. وكان قرار العرب هو مقاطعة النسخة الجديدة من الانتخابات، ففازت القوائم التركية بالتزكية.

وفي الثاني من أيلول (سبتمبر) 1938، عقد مجلس اللواء الجديد جلسته الأولى، وانتخب رئيساً له، وشُكل مجلس وزاري من الأتراك، قبل أن يعلن في السابع من أيلول (سبتمبر) 1938 عن قيام دولة "هاتاي" التُركيّة في اللواء، والتي بدأت مرحلة تتريك كاملة، طالت كُلّ شيء، بدءاً من إلغاء التعليم باللغة العربية، وحتى تبنّي الليرة التُركيّة كعملة رسمية.

احتجاجات دمشق في شباط عام 1939 ضد فصل لواء الإسكندرون

الاستفتاء.. الخطوة الأخيرة قبل الضمّ

وفي حزيران (يونيو) من العام 1939 أشرف الفرنسيون على عقد استفتاء حول انضمام اللواء إلى تركيا، شهد تجاوزات كبيرة، كمشاركة الآلاف من الأتراك الذين نُقلوا في شاحنات للمشاركة فيه، وقاطعه العرب الذين كانوا يشكلون نحو 40% من سكان دولة "هاتي" (29% علويين عرب و11% سنة عرب).

وفي الأول من أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، أُعلن رسمياً عن ضم اللواء إلى تركيا وتحوّل اسمه إلى "محافظة هاتاي"، وأصبح المحافظة التركية الحادية والثمانين. وقد استغلت تركيا اندلاع أحداث الحرب العالمية الثانية آنذاك، وتفكك وانهيار منظمة عُصبة الأمم، وانشغال العالم بالحرب لضم اللواء إليها نهائياً، في خطوة لم تعترف بها عُصبة الأمم، ولا خليفتها منظمة الأمم المتحدة.

لماذا فعلت فرنسا ذلك؟

كان الإجراء الفرنسي بفصل اللواء عن سوريا ومن ثُمّ تسليمه لتركيا مُخالفاً لصكّ الانتداب على سوريا، والذي نصّ في البند الرابع منه على التزام الدولة المنتدَبة باحترام وِحدة البلاد المُوكلة إليها والحفاظ عليها.

في أيلول 1938 أُعلن رسمياً عن ضم اللواء إلى تركيا وتحوّل اسمه إلى "محافظة هاتاي" وبدأت مظاهر التتريك الكامل

أما السبب الذي دفع فرنسا لهذا الإجراء فتبيّن لاحقاً، حيث يذكر "جورج بونيت"، وزير خارجية فرنسا خلال الفترة 1938 - 1939، في مذكراته: "كانت الحكومة البريطانية تحاول جاهدة لإنشاء سلسلة من الأحلاف، تشمل بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي وتركيا، وكانت بريطانيا وفرنسا راغبتين في الوصول إلى اتفاقية مع تركيا، ولكن تركيا كانت ترفض كُل اتفاق مع فرنسا ما لم توافق على ضم "هاتاي" إليها".

اقرأ أيضاً: كيف استعادت السلطنة العثمانية سيطرتها على سواكن؟

وهكذا، كان ضم اللواء إلى تركيا مؤامرة حيكت بين فرنسا وتركيا، ضمنت بموجبها فرنسا دخول تركيا إلى صفّ الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وبالفعل، وبعد نحو الشهر من الضمّ، عُقد في 19 تشرين الأول (أكتوبر) اتفاق يؤسس لتحالف عسكري فرنسي-إنجليزي-تركي لمدة 15 عاماً.

جورج بونيت (يسار) مع بول بانليفيه رئيس الوزراء الفرنسي إبّان الحرب العالمية الأولى

توتر دائم وقضية عالقة

في الأعوام التالية، طبقت سياسة "تتريك" اللواء، فتم تغيير كافّة الأسماء من العربية إلى التركية. وتعرّض العرب السوريون في اللواء لحملات تضييق استمرت عقوداً من قبل الأنظمة المتعاقبة، وتسببت بهجرة الكثير منهم، بالتوازي مع نقل آلاف الأتراك وتوطينهم في اللواء بهدف تغيير هويته العربية السورية بالكامل. واليوم، يُشكّل السكان العرب في اللواء نحو 27% من مجموع السُّكان.

من جهتها، لم تعترف الحكومة السورية بضمّ اللواء، استناداً منها للمادة الرابعة من صكّ الانتداب، وظلّت قضية اللواء سبباً للتوتر الشديد في العلاقات بين تركيا وسوريا إلى يومنا هذا.

مُلصق ترويجي تركي يظهر جانباً من الأماكن السياحية في اللواء

واليوم، لا تزال الخرائط السورية تُظهر لواء الإسكندرون على أنه منطقة سورية محتلّة، في حين كانت الأحداث خلال الأعوام الأخيرة سبباً لتراجع المطالب، إلّا أن مقطع فيديو لوزير الخارجية السوري انتشر في نهاية آب (أغسطس) الماضي، وهو على حدود اللواء، يشير إلى جباله، ويقول: "لواء الإسكندرون أرض سورية، وستعود لنا".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية