فارس خشان
بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لتصفية الولايات المتحدة الأميركية قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، أطلّ الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، ليتحدّث، بثقة وبفخر وباعتزاز وبتحدّ، عن "جبهة لبنان المتقدمة" وعن "صواريخ لبنان" وعن " محور لبنان" وعن "قوة لبنان".
لا أحد يعرف عدد هؤلاء الذي كانوا يشاهدون نصرالله أو يستمعون إليه، إلّا أنّ الجميع كان يتابع أنباء الطائرات الحربية العشرين التي جالت، في الوقت نفسه، في الأجواء اللبنانية على علو منخفض، ويستمعون الى الروايات الكارثية عن فتك فيروس كورونا بغالبية المنازل اللبنانية، ويصابون بالذهول أمام اضطرار المستشفيات في لبنان الى اعتماد ما بات يُعرف بالسيناريو الإيطالي لجهة اختيار المرضى الذين يمكن استقبالهم، ويتحسّرون لانكباب وسائل الإعلام الدولية على إجراء تحقيقات عن إسرائيل، كواحدة من الدول الرائدة في تلقيح شعبها ضد جائحة كوفيد-19، في حين كانت آخر التقارير التي بثّتها عن لبنان تتحدث عن مآسي شعب يقف على حافة الجوع والموت.
إنّ هذه المفارقات بين الكلام عن "قوة لبنان" وبين حقائق "انهيار لبنان"، تجد سببها الجوهري في خطاب نصرالله الأخير، بصفته وثيقة أساسية من وثائق إلغاء "حزب الله" للدولة، في الواقع، كما في المبدأ.
الدول التي تستحق اسمها، هي التي تُمسك سلطاتها الدستورية بالسياسة الخارجية، وبالإستراتيجية العسكرية، وبالتحالفات الإقليمية والدولية.
خطاب نصرالله الأخير، يفضح كلّياً، وبطريقة لا لبس فيها، التعدّي الصريح على هذه المبادئ.
هو، لم يعد يتحدّث باسم "حزب الله" بل بات يتحدّث باسم لبنان، فيحدّد الصديق والخصم، والبطل والخائن، والمحور الذي ينخرط فيه في مواجهة المحور الآخر، والأدوار المناطة بصواريخه، ووظيفة لبنان كجبهة متقدمة في المواجهة، وتطلعات لبنان الثقافية والدينية.
وهذه الخيارات التي ينسبها نصرالله الى لبنان، تتنافى كلّياً مع توجهات لبنان الرسمي الذي طالما أعلن، بوثائقه وبتعهداته وبكلماته، النأي بالنفس عن المحاور الإقليمية وصراعاتها.
في شخص الأمين العام لـ"حزب الله" جرى الاستيلاء، دفعة واحدة، على رئاسة الجمهورية وعلى مجلس الوزراء وعلى وزارات الخارجية والداخلية والدفاع والتربية والثقافة، ناهيك عن الاستخفاف الفظيع بتطلعات غالبية اللبنانيين الذين، إن وجدتَ بينهم من يتحالف مع نصرالله في السياسة الداخلية، فلن تجد بينهم، إلّا قلة قليلة، توافق على تسليم لبنان وشعبه الى "فيلق القدس" الإيراني الذي تنتمي اليه طروحات نصرالله، من ألفها حتى يائها.
وسط هذه الحقيقة الاستيلائية التي رسمها نصرالله، بعبارات لا تحتمل اللبس، لا يزال ثمة من يتوهّم أنّه قادر على إنقاذ لبنان من أزماته المالية والاقتصادية والاجتماعية، بإعلان تمسكه بمبادرة فرنسية "محنّطة"، وبصراعه "المضحك" من أجل "وزارات سيادية" في "حكومة فاعلة" جاذبة للمجتمع الدولي، بحكوماته وبصناديقه.
إنّ روحية المساعي الهادفة الى إنقاذ لبنان تتنافى مع جوهر خطاب نصرالله الأخير.
المبادرة الفرنسية كما حيثيات قواعد المجموعة الدولية لدعم لبنان كما رؤى صندوق الدعم الدولي، تقوم كلّها على أنّ لبنان يستحيل أن ينهض من كبوته التاريخية، إذا لم يخرج من صراع المحاور.
وخطاب نصرالله الأخير موجّه تحديداً، وباسم لبنان، ضد هذه القواعد الهادفة الى إنقاذ لبنان.
وليس في العالم دولة واحدة موهومة أنّ في لبنان قوة دستورية واحدة توافق على تجاوز إرادة "حزب الله"، فرئيس الجمهورية، إن لم يكن يقف عند إرادة "حزب الله" طوعاً، فهو "أسيره"، والحكومة المقبلة كما الحكومة السابقة، تكون أو لا تكون بإرادة "حزب الله"، والمجلس النيابي الحالي، بفضل قانون الانتخاب، من جهة وبفعل "الواقعية السياسية" من جهة أخرى هو رهينة لدى "حزب الله".
و"حزب الله" هذا الذي لا يجد قوة واحدة تتصدّى سياسياً له، فعلاً لا قولاً، يفرض على لبنان قواعد تعجّل في انهياره بدل أن تساهم في إنقاذه.
وبهذا المعنى، فإنّ الخطاب الأخير لنصرالله هو خطاب "أنتي-إنقاذي" بامتياز، ومجهض لكل المبادرات، ومحبط لكل الآمال، ويبحر بلبنان عكس الريح، ففي زمن المصالحات الكبرى، يقوده الى المواجهة الكبرى، على متن صواريخ تستقطب صواريخ أقوى لتسقط على رؤوس شعب بلا مأوى وبلا ملجأ وبلا مال وبلا احتياطات وبلا مستشفيات وبلا مساعدات.
ونصرالله في خطابه الأخير هذا، لم يعلن السيطرة النهائية على الخيارات الوطنية، بل أظهر أنّه، من موقعه، يقود لبنان وشعبه، على طريقة المهلوسين، فهو لا يفاخر بالخطأ فحسب بل يصرّ عليه أيضاً، وهو لا يظن أنّه أقوى من "محاصرة" الولايات المتحدة الأميركية فقط، بل يؤمن إيماناً عميقاً بأنّه هو من يحاصرها، أيضاً.
وهكذا، فإنّ ترك لبنان لنظرة نصرالله للأمور، لا تعني نهاية الآمال بإنقاذه فقط بل تعني أيضاً أنّ فقر شعبه هو غنى، ودمار منازله هو ازدهار، وجوع الناس هو تخمة، ومصادرة الأموال هي تبذير، وانتشار كورونا هو نعمة، وإسقاط لبنان في الجحيم هو دخول مبارك الى الجنّة.
عن "النهار" العربي