أربعة مبدعين عراقيين علموني الكثير عن الموسيقى: نجيب المانع، علي الشوك، أسعد محمد علي وفوزي كريم. صحيح إن الراحل أسعد محمد علي هو الموسيقي المحترف الوحيد بينهم، لكنه يصنف على الأدباء نقداً (كتابه النقدي بجزأين، وعنوان المبحث هذا مأخوذ منه) وكتابة رواية.
هم من طينة مختلفة من الأدباء، تلك التي فهمت الثقافة على أنّها منظمة معرفية متصلة، فلا أديب كبيراً دون أن يكون على اتصال حي ومؤثر مع أشكال الإبداع الفني الأخرى.
عملان للمانع (البصرة- 1926- لندن 1992) جرّاني من ياقتي وأنا في مقتبل حياتي الثقافية، ليدلاني على شهوة روحية من طراز رفيع، كتابه عن بيتهوفن، ومقالته الرفيعة عن فن السيدة أم كلثوم بعد أيام من رحيلها.
منذ خمسينيات القرن الماضي العراقية الفياضة بموجات من التحديث الفكري، وهو يدعو بعضاً من الأصدقاء المعنيين بقضايا الأدب والفكر، إلى سهرة بداره، للاستماع إلى بعض من أعمال بيتهوفن، ريمسكي كورساكوف، هاندل وغيرهم، إلى جانب إسطوانات بأصوات عمالقة الثقافة العالمية من أمثال إرنست همنغواي وألبيركامو، وإلى شيء من مسرحيات وليم شكسبير وجورج برناردشو(1).
ابن الطبقة المتوسطة
هو نوع من الأنتلجنسيا التي أنتجتها الطبقة المتوسطة، فالرجل شغل منصب مدير "شركة نفط خانقين المحدودة"، ومنها خبر شتى المعارف العلمية والاقتصادية واللغوية الأجنبية (الإنجليزية)، ومن هنا جاءت ترجماته العميقة: رواية "غاتسبي العظيم" لسكوت فترجيرالد، وكتاب "ديستوفسكي" لرينيه ويليك وكتاب "بيتهوفن: دراسة في تطوره الروحي" للمؤلف جي دبليو سوليفان، وكتاب "مارسيل بروست والتخلص من الزمان" وكتاب "تولستوي" والكتاب البارز لستيفان زفايج "بناة العالم".
اللافت أنّ معرفة المانع بلغة شكسبير جاءت بعيداً عن مواضع الدراسة "تعلم الإنجليزية – عن طريق قراءته الكتب القديمة التي كان يبتاعها في سوق الكتب في الزبير والتي كان يعرضها الضباط والجنود الإنجليز بعد أن كانوا ينتهون من قراءتها في معسكراتهم في قاعدة الشعيبة، وقد كان في تلك الكتب كثير من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي التي كان قد سمع بها نجيب في دراسته بثانوية البصرة كمسرحيات شكسبير وغيرها".(2)
وعلى الرغم من أنّ ترجماته زادت على العشرين كتاباً، إلا إنها "لم تضاعف رصيده كما يقول، فالعرب يرون في الترجمة مجرد مهنة متطفلة".
في مقدمته لكتاب "بيتهوفن: دراسة في تطوره الروحي" يؤكد المعنى الذي جذبني إليه بقوة "ترجمتي لهذا الكتاب ابنة شرعية للحب، حبّ مزدوج، وقد يتورد الحب والجذوة الداخلية في واحدة.. إنه حب مزدوج فهناك بيتهوفن موسيقي الأعماق وهنالك كتاب سوليفان أحد كاشفي الأعماق".
وليس بعيداً عن هذا المعنى كانت مقدمة سوليفان لكتابه الذي طبع أول مرة في 1927 ومنها نقرأ: إن "موسيقى بيتهوفن، أكثر من أي مؤلف موسيقي آخر، تثير حتماً نوع الانعكاسات التي ترد في هذا الكتاب. إنّها وكما يقول إرنست نيومان، خصوصية مخيلة بيتهوفن التي ترفعنا مراراً وتكراراً من الموقع الذي نحن فيه. إنّها إعادة تقييم ليس فقط لكل اللموسيقى ولكن لكل الحياة، كل العاطفة وكل الأفكار ".
وهذا التأثير، قد تم الاعتراف بخصوصيته منذ فترة طويلة كوظيفة لأدب أعظم. مثلما هو أيضاً، وظيفة أعظم موسيقى، على الرغم كونه (بيتهوفن) ينفذ هذه الوظيفة بطريقة مختلفة للغاية، بل تكاد تكون موسيقى بيتهوفن، الموسيقى الوحيدة القوية بما فيه الكفاية لممارسة ذلك بشكل لا لبس فيه"(3).
هذه الصلة المعرفية بالموسيقى تدعمت عند نجيب المانع بعد تأسيس "الشركة العربية لإعادة التأمين" كشركة مشتركة بين الشركات العربية لإعادة التأمين ومنها الشركة العراقية، وكان مديرها الدكتور مصطفى رجب الذي عيّن المانع في شركته ثم رشحه للعمل بالشركة العربية لإعادة التأمين في مركزها ببيروت؛ حيث سافر المانع وأقام هناك مع عائلته مختلطاً بالأجواء الأدبية والثقافية التي كانت تعج بها بيروت في الستينيات وأول السبعينيات، سواء الأجواء الثقافية الشرقية العربية، أو مظاهر الثقافة الغربية؛ حيث بدأت المسارح تعرض المسرحيات الأوروبية واللبنانية والقطع الموسيقية والأغنيات الكلاسيكية، وحيث كانت محلات بيع الإسطوانات تتنافس في عرض أحدث تكنولوجيات التسجيلات الفاخرة وتكنولوجيا تسجيل الآلات المتنوعة، وقد زرته في بيروت فوجدته يسكن في شقة في محلة (الحمراء) ذات غرف ثلاث مليئة بالإسطوانات الكلاسيكية، بما يفوق عددها على الألوف، وبالكتب العربية والشرقية باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية، مما أدى إلى دخول المانع في مشاكل مالية مع الدائنين بأثمان الإسطوانات وغيرهم من الكفلاء والضامنين، مما كانت سبباً في إنهاء علاقة المانع بشركة التأمين العربية وقيام خصومة بينه وبين الشركة المذكورة ومديريها أدت إلى عودته إلى بغداد في السبعينيات"(4) ليعمل في حقل الترجمة.
انشغل المانع في مطلع الستينيات بالأدب السياسي إلى جانب الألوان الأدبية الأخرى
وذلك الشغف بالموسيقى بدأ مبكراً (وتحديداً أثناء دراسته الحقوق ببغداد وتخرجه أوائل خمسينيات القرن الماضي) فتكتبت عنه شقيقته الأديبة العراقية المعروفة سميرة المانع والتي لجأ إليها في مقر إقامتها بلندن "يريد من أهله، أن يستمعوا معه إلى الموسيقى الكلاسيكية، يشاركونه حبه وهواياته الجديدة. اسمعهم قطعتي "شهرزاد" و"الدانوب الأزرق"، بداية، في باحة بيت الزبير بالمساء، ثم تدرجت الأنغام حتى وصلت إلى سمفونيات بيتهوفن وغيره منسابة أو مرعدة في جو بيت الزبير الصافن الحائر. استمر، كعادته، يلم بالموضوع الإلمام الكافي بصبر دؤوب، حتى تكدست الأسطوانات والتسجيلات عنده ففاقت أعدادها الآلاف، أصبح البيت كتباً واسطوانات اينما سار المرء، كمستودع أو مكتبة عامة في سنوات عمره الأخيرة".(5)
هوية ثقافية عربية تتصل بالآخر المعاصر
والتوجه نحو الآخر عبر كل هذا الفيض من الترجمات الرفيعة لم يتعارض مع عمق عربيته؛ ثقافة ولغة، ففي بحثه "توثيق الارتباط بالتراث" المقدّم إلى مؤتمر الأدباء العرب السابع العام 1969 إشارة توكيدية لهذا المعنى "كرامتنا لا تبيح لنا أن نأخذ على الدوام من الحضارة الإنسانية ولا نعطيها، ونحن إذا حصرنا إنجازنا الحضاري فيما يتعلق بالأدب في الحدود التي لا يستطاع نقل مدركاتها والتي تفقد جمالها في الترجمة، فإن علينا ونحن نحتضن لغتنا الرائعة ونعالج بواسطتها إحساسنا بالوجود أن ينير لها سبيل الانتقال من إمكانات التعبير الموضعية إلى شمولية الوعي الإنساني، وذلك لا يتيسر لنا إلا إذا احترمنا كل ما هو حي وملهم بالحياة في التراث الإنساني واستوعبناه كملك خاص بنا مباحٍ لنا كل الإباحة".
هذا ينتقل إلى إنجازه في كتابة القصة القصيرة، فقد كان أسلوبه لا يخفي التأثر بالتيار الحديث الوافد من الغرب، وتحديداً بين نهايات خمسينيات القرن الماضي وبدايات ستينياته. ومن إنجازه القصصي:
*"الممثل يضحك الجمهور" في مجلة "الرسالة" اللبنانية 1957.
*"الأعمى والحذاء" في مجلة "الفنون" العراقية 1958.
*"فولكنر على نهر الغرّاف" في مجلة "المثقف" العراقية 1958.
*"شاعر يعترف" في مجلة "المثقف" العراقية 1958.
*"الدرس الأول" في مجلة "الأديب" العراقية 1961.
وانتقل هذا النسيج القائم على معاصرة لا تخجل من جذرها العربي معرفة وثقافة، إلى قراءة نقدية لاتجاهات الأدب العالمي الحديثة. ففي خمسينيات القرن الماضي ومع اندفاع الأفكار حد التلاطم في العراق، كتب نجيب المانع بحثه المفصّل المعمّق عن الروائي الأميركي ايرنست همنغواي في مجلة "الآداب" اللبنانية، وهو بحث جدي بإمكانه أن "ينهض وحده كتاباً جديراً بأخذ مكانه في المكتبة المعاصرة".
لا الأدب وحسب، بل انشغل المانع في مطلع الستينيات بالأدب السياسي إلى جانب الألوان الأدبية الأخرى؛ إذ نشر مقالات وتعقيبات عن الديمقراطية والحرية وما يتصل بهما وما يتفرع عنهما، مما أثار ردود أفعال هنا وهناك، وحرّكت أقلاماً للتصدي له، وتحديداً بين أوساط العقائديين؛ قوميين وماركسيين، على الرغم من كونه بدأ حياته الثقافية متأثراً بالتيار الماركسي فهو "عندما تخرج محامياً وأزمع العمل في محاكم البصرة بعد إنهائه الدراسة في كلية الحقوق أثناء ما كان عميدها المرحوم الأستاذ السيد منير القاضي وكان تخرجه عام 1947. وعند مجيئه إلى البصرة وتوطد علاقاته بجماعة نادي المحامين آنذاك حيث تكامل العنصر الثالث من عناصر تكوينه النفسي والأيديولوجي الثقافي؛ فالعنصر الأول هو ثقافته العربية وتولعه بعلوم القرآن وأدبيات العرب والشعر العربي، والعنصر الثاني هو الثقافة الغربية متمثلة في إجادته اللغة الإنجليزية والفرنسية واهتمامه بكلاسيكيات الغرب من شعر وموسيقى وغناء ورسم ونحت ورقص ومسرح، أما العنصر الثالث فيه فهو الإيمان والعمل على تحقيق شعارات الحركة الوطنية في الحرية والمساواة والديمقراطية والتحرر من نفوذ الاستعمار والانتصار لقضايا الفقراء والعمال والنساء والجنود والفلاحين".(6)
نشر مقالات وتعقيبات عن الديمقراطية والحرية وما يتصل بهما وما يتفرع عنهما مما أثار ردود أفعال هنا وهناك
وهذا التأثر بشعارات التحرر المأمول انعكس في موقفه حين "أُعلنت الجمهورية العراقية يوم 14 يوليو (تموز) 1958 في المذياع. كان نجيب غائباً في فيينا لأمر يتعلق بوظيفته. لكن هذا لم يمنع المتابعين لنشاطه الأدبي من أن يجدوا مقالاً له في مجلة "الآداب" البيروتية عنوانه: "ثورة، موزارت وأمريكي". يكشف المقال جزءاً من عودة نجيب للتفاؤل والأمل. يبشر ويرجو من العهد الجديد أن يفتح للشعب العراقي صفحة جديدة بيضاء مشرقة يستحقها، تدعو للتسامح، العدل والمساواة بين العراقيين جميعاً، وبينهم وبين الانسانية كلها".(6)
لكن هذا لم يمنعه، كما تقدم، من توجيه النقد للحكم الجمهوري 1958 الذي يروج لها يساريو العراق على أنه ممثل لتلك الشعارات الوطنية، "استمر نجيب المانع مديراً لمصلحة توزيع المنتجات النفطية حوالي عام (1960-1961)، نقل بعدها إلى وزارة الخارجية العراقية بعد أن التقى بوزيرها الراحل هاشم جواد – الذي أعجب بمزايا نجيب وكفاءته الخلقية والثقافية وإجادته الإنجليزية والفرنسية وبقي يشغل إحدى مديريات وزارة الخارجية، وأظنّها (الدائرة القنصلية) مدة تناهز العام ثم بعدها فصله الراحل عبد الكريم قاسم أثناء سفر هاشم جواد لحضور اجتماعات هيئة الأمم المتحدة في صيف 1961 وكان عبد الكريم وكيلاً لوزير الخارجية آنذاك، وكان سبب الفصل فيما سمع في حينه، أنّ المانع كان قد كتب مقالاً في جريدة الأهالي (جريدة الحزب الوطني الديمقراطي – وكان نجيب عضواً فيه) يصف فيه إعدام ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري (بأنه اغتيال وليس عقاباً عن جريمة لأن لم تكن هناك محاكمات قانونية)– مما أغاظ عبد الكريم قاسم فأصدر الأمر بفصل نجيب من وزارة الخارجية، وبقي عاطلاً طيلة أيام عبد الكريم قاسم"(7).
هذه التفاصيل الجوهرية لجهة بدء انفصال المانع عن "ثورة 14 تموز" والتحول إلى نقدها بعد تحولها إلى تصفيات وصراعات داخلية توثقه شقيقته سميرة المانع "عاد إلى بغداد بعد فترة قصيرة ليرى بأم عينه أحقاً ما نشد وما تصور؟ لم يكن حظه سعيداً بعد هذا الغياب، خاب فأله بما رأى. كانت البلاد متبلبلة متحيرة. الكثير من التمزقات يعانيها أخوة بالداخل وآخرون من خارج البلاد يؤججون الوقود بالشعارات البراقة ليحترق الجميع بنار مستعرة. وجد محكمة منتظمة (محكمة الشعب) الكل يستمع لها يومياً، تعرض جلساتها بالتلفزيون تحاكم أفراداً من العهد الملكي وغيرهم، فيها من تناقضات العراق ما أخافه من نهاية مصيرها. فهي، باعتقاده، لا تعطي النموذج الجيد للعراقيين، ليروا كيف تصان هيبة العدل، وتظهر الرزانة والوقار والحكمة بأعلى صورها".
وحيال ذلك شرع المانع "بإبداء رأيه، كعادته دوماً، بصراحة وبصوت عال، سواء بجلساته الخاصة أم على صفحات المجلات والجرائد وبالأخص في جريدة "الأهالي" للحزب الوطني الديمقراطي، التي شجع أن ينشر فيها تلك الأيام. كتب حوالي عام 1959 سلسلة مقالات حول معنى النظام الديمقراطي، أهمية فصل السلطات الثلاث وتداول الحكم، تحدث عن الحرية والعدالة، الرحمة والمساواة، كقيم جليلة لها شأنها. نشر هذه المقالات، بجرأة، وهو في وظيفة حكومية كبيرة، في فترة حكم عبد الكريم قاسم، كأول مدير عام للمنتجات النفطية المؤممة مؤخراً في العراق. لم يصمت للنجاة بجلده ولينال الحظوة من أجل المناصب الأعلى. كتب مقالاته بتجرد بعيد عن المصلحة الشخصية، وبشكل حيادي قل نظيره بين الكتاب، آنذاك. في وقت اشتداد الصراع السياسي بالبلد، والاهتمام بالأشخاص والزعامات بدلاً من الالتفات إلى القيم والمبادئ والثوابت التي يعتقد أن أية ثورة حقيقية لا تقوم إلا بوجودها"(8).
ولنلاحظ هنا المفارقة، ففي الوقت الذي اعتبر تيار المانع، الحكم الملكي "رجعياً وممثلاً لقوى الاستعمار" لكن ذلك الحكم "الرجعي" فتح الطريق أمام المانع لتطوير خبراته الإدارية والعملية في أبرز الوظائف، بينما أطاح به الحكم الذي وصف بأنه "الوطني الممثل لقضايا الفقراء والعمال والنساء والجنود والفلاحين".
تبعثر نتاجه وعومل بإهمال يفوق إهمال النقاد والمؤرخين له في العراق وغاب عنا شاهد من أكثر الشهود مصداقية
هذه المفارقة التي تحولت إلى حذر يقارب الكراهية من "الثورات التقدمية" اختبرها المؤلف شخصياً مع نجيب المانع "نذر الرعب كانت تطل على البلاد، والكارثة تكشف عن ساقيها، غير أن ما جعل تلك النذر تصبح نذيراً، قول للناقد والمترجم والمثقف الموسوعي نجيب المانع، فذات صباح وفيما كنت أضع مجموعة من الكتب والمجلات في مدخل "مكتبة النهضة" ببغداد (عملت فيها هرباً من ملاحقات السلطة لليساريين 1979)، حياني بابتسامةٍ مرسومةٍ بعناية كما نظراته النقدية العميقة حين يصوغ من نقد الموسيقى، نصوصاً في الأدب والمعرفة، لأسارع بدعوته إلى فنجان قهوة، بعد أن حملت له كرسياً ونسخة من العدد الجديد لمجلة "الهدف" الفلسطينية التي كانت تصلنا من بيروت، وفيه قصيدة لي عن الشاعر البحريني القتيل سعيد العويناتي، واسأله: ما رأيك بالمفاجآت القادمة من طهران: "وصل الخميني والناس رفعت سيارته على الأكتاف"، وعلى النقيض من حماستي التي كانت، على نحوٍ ما، تعويضاً عن خيبتي / خيبتنا المحلية، قال: "يا ابني إن ماتراه باعثاً على السرور، هو مدخل إلى موت أسود سيحصد بلادنا وأهلها"! ولولا محبتي الكبرى للرجل، وتقديري الذي يقارب التبجيل، لكنت أسمعته مابقي مضمراً فيّ من شعارات الثورية الجوفاء: "هذه مخاوف البرجوازيين الصغار من حركة الجماهير"، ولم تمض سنة أو أكثر حتى كان "الموت الأسود" يطل من شبابيك البيوت في أرجاء العراق كلها.(9)
وهذا النقد الغاضب للسائد الثقافي عربياً وعراقياً، هو ما واصله لاحقاً حتى بعد وصوله إلى المنفى اللندني "نجيب المانع يهدر بما يشبه الأسئلة والأجوبة عن الثقافة والمثقفين العرب، وعن المعرفة الغربية والمعرفة العربية. كان يسأل ويجيب نفسه دون أن ينتظر تعليقاً أو استئنافاً، يكاد يتطاير الشرر والسخط من كلامه، فهو لا يعثر على الشتيمة المناسبة التي يوجهها إلى الشعراء والكتاب والمثقفين العرب الذين يجهلون العلوم والأدب الغربي واللغات والموسيقى"(10).
وعن الشريحة المثقفة العراقية يتحدث عن بغداد وشارع الرشيد ومقاهي المثقفين فيه:"في ذلك الشارع الذي أتذكره الآن بكآبة، مقهيان متجاوران هما؛ السويسرية والبرازيلية، كنا نحشر فيها متأبطين كتباً لا نعيا من ترديد ما فيها. ولأنها كانت في اعتقادنا نهاية الحياة ظهرت كأنها تدلنا على بداية الخبرة في الحياة، وكنت أنا القادم من الزبير أبدوا لأولئك البغداديين إنساناً ريفياً أو بدوياً عليه أن يجلس "مجازياً" في حضرة إبداعهم عند باب البهو الذي مكانتهم في صدارته، ولست أنسى كيف كانوا يتخاطبون باعتزاز من وصل غاية الرحلة، وبيننا شخصان أو ثلاثة بلغت بهم اختناقة الإنجاز الموعود حدود كبرياء صاعقة متسلطة". هنا تدرس الناقدة فاطمة المحسن هذه الصورة "لعل هذا الوصف فيه بعض مبالغة، ولكن الأكيد أنّ الطبيعة الحادة في تقسيم الولاءات الأبوية، كانت بارزة بين أدباء العراق، فالزعيم الأدبي ينبغي أن يملك سمات الحكيم السياسي الذي يفتي ويصادر ويسفّه ويبتز"(11).
واتصالا مع هذا الغضب الهادر في نقد الثقافة العراقية والعربية حفلت يوميات نجيب المانع "ذكريات عمر أكلته الحروف" التي صدرت بعد وفاته، و تكشّفت لي عبر هذه المذكرات شخصية تختلف كثيراً عما ألفت من الأشخاص، مع أنها تمثل النموذج المشاع لشخصية الأديب العراقي. إنه يحمل الكثير من صعلكة وعبثية الذين قيض لي معرفتهم من الكبار والصغار، ابتداء بالجواهري وسعدي يوسف حتى أصغر روائي أو شاعر كتب الأدب للتو. ولم أجد تفسيراً لهذه الظاهرة سوى عند نجيب المانع في ما يشبه مذكراته هذه. قد يحرص الأديب المتصعلك على الحصول على عمل ورواتب وبدلة ومكتبة وطاولة، ولكنه يبقى طريد نفسه وطريد خوفه وطريد شعوره بالنكران والجحود، ينوء بثقل الكبرياء التي يسميها المانع الكبرياء الزائفة. في هذا الكتاب يجد القارئ مقاطع من النادر أن يدونها أديب عربي في سياق الحديث عن نفسه، فهو يقول:"في علاقتي مع المبدعين لم أقدم مفتاح مدينتي إلا لاثنين: المتنبي ودوستويفسكي؛ فالمتنبي أورثني عقدته ولم يورثني اقتداره في العلو عليها: وعقدة المتنبي في نظري هي كبرياء الوجود مع كبرياء الإنجاز، فأودع عندي كبرياء الوجود وحدها وتركني أحاول إنجاز ما يتماشى معها، فسهل على القاصي والداني أن يستشف الوهن والخديعة والتكلف في هذه الكبرياء التي أرتديها بين الحين والحين مثل بدلة تصرخ طالبة أن تتحرر من كياني "(12).
في خريف عام 1992 أغمض المانع عينيه على كرسيه الهزاز في إغفاءة أزلية، وحيداً في داره بلندن
ويكاد المانع يختزل معظم خبراته الفكرية والحياتية عبر قصصه وروايته "تماس المدينة" (13)، فهو "حاول أن يضع خبراته ويسخر ثقافته في عمل أدبي قصصي، فكانت له قصص قصيرة ذات طابع تصويري واقعي مأسوي هي ضرب من الكوميديا السوداء، يقف بعضها في ذروة الإنتاج القصصي العربي. وحين أراد أن يضع ثقل ثقافته في عمل إبداعي يتحدث فيه عن المدينة بوصفها الأرض التي تتعايش فيها الثقافات بتجانس وتوافق، أخرج روايته الوحيدة "تماس المدن" فجاءت مثقلة بعدد من المشاريع الروائية، ولم تحقق انتشارها أو تستقطب اهتمام النقاد، وقوبلت بالصمت والإهمال. ولم يكن ثمة ما ينوء به ظهره مثل إحساسه بالهيبة أمام الكتابة، وترهبه لها. فكلما أقدم على أعمال قلمه، يتمثل أمامه عظماء الأدب من المتنبي والمعري والجاحظ إلى دستويفسكي وبروست، فترتجف يداه أمام حجم التحدي".(14)
تبعثر نتاج المانع، عومل بإهمال يفوق إهمال النقاد ومؤرخي الأدب له في العراق، وغاب عنا شاهد من أكثر الشهود مصداقية لتدوين سنوات من عمر الثقافة العراقية مملوءة بالعطاء، ومملوءة بشخصيات أدبية تكاد تقترب من الأسطورة، ولكن غاب عنا نتاجهم لعلة فيهم أو في الظروف التي تحكمت بوجودهم، نساء ورجالاً. والنتيجة واحدة: ضياع خيوط كثيرة من نسيج ثقافي شديد التناغم برغم طبيعة عناصره المتضاربة، خيوط تبعثرت في رياح السنوات والأحداث الجارفة تبعثر مبدعيها.
في خريف عام 1992 أغمض المانع عينيه على كرسيه الهزاز في إغفاءة أزلية، وحيداً في داره في لندن، لا يؤنس وحدته سوى كتاب نام على صدره، عاجزاً عن نقل ما شهد من اضطراب في لحظات الصمت الأخير(15).
أبواب العراق الموصدة
معظم أصدقائه فارقوه، لا يعرف عنهم شيئاً. أُبعدوا في عمليات تهجير وتخوين وما شاكل من تُهم. يرى نفسه محاطاً ويسمع بأنواع التحزب والعشائرية والمحسوبية من أعلى إلى أدنى المستويات في وطنه. صار تغليب العنصر الذاتي على المصلحة العامة شيئاً عادياً مقبولاً بين الأفراد. المنافسة النفعية والنرجسية في ذروتها. بدت ثقافته وبالاً عليه. أبواب العراق موصدة عليه إلا إذا أصبح عبداً مطيعاً. جهوده وعمره يضيعان.
"ابتدأ قلبه يتسارع نبضه، صار يشعر أنّ الحياة التي صارع وضحى بالغالي والنفيس من أجل أن تكون شيئاً جميلاً نقياً محترماً جديرة بالبقاء، ليست سوى حيلة وخدعة للبعض وبالنسبة له لا معنى لها. لم يبق عليه حين كنا نودعه في بابه بالزيارة الأخيرة، وأنا أحذّره بغباء من مغبة التدخين، بينما هو يبتسم ساخراً، لسان حاله يقول: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا/ وحسب المنايا أن يكن أمانيا"(16).
مقال في فلسفة الصوت
وعوداً إلى بدء هذه الاستعادة للمانع، لابد من التنويه بمقاله المقتدر عن "كوكب الشرق" بعيد رحيلها "أم كلثوم: الغياب المستحيل والمؤسسة الوجدانية"(17)، فهو مقال في فلسفة الصوت والغناء العربي وبخاصة غناء صاحبة "رق الحبيب" فهو يرى "مع أم كلثوم يكون الغناء بالدرجة الأولى فعلاً من أفعال الاكتراث. إنه توغل سعيد الاكتشاف في الطوايا الخفية عن الوجدان وهي تتعامل مع فنها بجدية نابعة عن الشخصية القوية لكن المتعاطفة، وعن الهيمنة على كل شيء من كلمات ولحن وجمهور، هيمنة متزاوجة مع الحب الذي تتناول به كل شيء من كلمات ولحن وجمهور".
ويوجّه المانع نقداً حاداً لأعمال الموسيقار عبد الوهاب لصاحبة الصوت العبقري "لم يكن أداء أم كلثوم في غالبيته تكسرات الوجع في الخاصرة ولا تهويشات الصبية في الشوارع ولا رقصاً هيناً كهز البطن، ولو أن عبد الوهاب الذي ألّف لها أقل أغانيها جودة مثل "انت عمري" و"هذه ليلتي" استوحى مع الأسف جو هز البطن وزاد ذلك جناية أن وضع لها موسيقى كريهة سمجة ملأى بالتكلف والمراهقة الشائخة أخطر أنواع المراهقة".
وجّه نقداً حاداً لأعمال الموسيقار عبد الوهاب لصاحبة الصوت العبقري أم كلثوم
ويقرأ المانع إرث أم كلثوم بطريقة مختلفة حين يجعلها استثنائية في تاريخ الفن:"لنعد إلى أم كلثوم الأصيلة، أم كلثوم "ياللي كان يشجيك انيني" و "الآهات" و "الحلم" و "الإطلال" والأعاجيب الأخرى. إنها تبرهن هنا على الندرة والاستثناء في تاريخ الفن؛ حيث تكون عبقرية الأداء بحد ذاتها إنجازاً إبداعياً فالمعتاد أنّ الذين يقومون بأداء ألحان غيرهم كمغنين أو أقوال غيرهم كممثلين إنما ينالون مكانتهم الفريدة ممن هم أكبر منهم، فمن يكون جون كيلكد ولورانيس اوليفييه لولا شكسبير، ومن يكون كاروزو وجيلي لولا أوبرات فيردي وبوتشيني، والشيء نفسه يصدق على المغنين العظام الذين تخصصوا بأوبرات فاغنر مثل لورينز ميلكيور وكيرستين فلاكشتاد، ذلك أن كل هؤلاء ليسوا أكثر من أقمار تدور حول أفلاك كبيرة عاكسة نوراً لا ينبع منها بصورة مباشرة. غير أنّ أم كلثوم وهي مؤسسة موسيقية ومؤسسة وجدانية معاً، يدور حولها التأليف الموسيقي واهبة الذين لحنوا لها مسوغات وجودهم، ولا أستثني منهم حتى أفضلهم وأعظمهم في نظري وهو زكريا أحمد".
معجزة
توصف أشياء كثير بأنها معجزة، ويكون الوصف أحياناً من قبيل التزويق للكلام المنطلق على عواهنه أو على السياسة المبالغة المباحة أو جرياً على تضخيم الشيء ليسهل تصديقه على قائله قبل سامعه. و"لكننا إذا وصفنا صوت أم كلثوم بأنه معجزة، فلا أعتقد أننا نسير على غرار ذلك. إنه معجزة بسبب كونه أولاً يحوز على أشد المتطلبات الجمالية دقة كصفاء النبرة وعلو الطبقة والكفاية في الإيصال بدون ميكروفون، والنقاوة المطلقة في الذبذبات ابتداءً من مستوى الهمس حتى نهاية مدى حنجرتها وكذلك طول ضبط التنفس خصوصاً في أغاني الأربعينيات والخمسينيات؛ حيث وصلت معها أم كلثوم إلى غاية النضج في التعبير. ثم إن صوتها معجزة؛ لأنه لا يستطاع مجاراته أو تقليده فهو أداءٌ لا يقبل الإعادة، لا من قبل الآخرين فهذا أمر مستحيل، ولكنه لا يقبل الإعادة حتى من قبل أم كلثوم نفسها فهي تقدم الأغنية الواحدة عديداً من المرات ولكن بأداء مختلف الظلال ودقائق التشويه والتطريزات الصوتية، بحيث تبهر الجمهور الذي يستمع إليها فكأنه يستمع إلى انبعاث جديد للأغنية التي كان يألفها منها. ثم إن صوت أم كلثوم معجزة بسبب إيحائه بالجو الذي تريد أم كلثوم أن ترسمه بكل ما في طاقاتها العجيبة على التمثل والتقمص والانجذاب. فإذا قالت كلمة الليل فأنت في الليل، وإذا نطقت اسم النيل فكأنك تمد يدك لتحسس مياه ذلك النهر الخالد، وإذا قالت (هلت ليالي القمر) فقد انتشر لؤلؤ القمر على صفحة الخيال، إن يكن الخيال وثّاباً مشاركاً، وإذا تحدثت عن الشوق فأي معنى للشوق لا يوجد في مرسم حنجرتها المترامي الأطراف"؟
__________________________
المصادر:
(1) وحيد الدين بهاء الدين "نجيب المانع .. ذلك الراهب في محراب الأدب والفن"، ملحق "عراقيون"، جريدة "المدى" البغدادية 19-10-2011
(2) عبد اللطيف الشواف (قانوني عراقي ووزير راحل)، "هكذا عرفت نجيب المانع" كتابه "عبد الكريم قاسم وشخصيات أخرى"، "دار الحكمة- لندن 2009".
(3) ي. ث. ن. سوليفان، دار تشوبهام، 1927. ترجمة علي عبد الأمير بتصرف.
(4) و(6) عبد اللطيف الشواف (قانوني ووزير راحل)، "هكذا عرفت نجيب المانع" كتابه "عبد الكريم قاسم وشخصيات أخرى"، "دار الحكمة- لندن 2009".
(5) و(8): سميرة المانع، المصادر الثقافية لنجيب المانع، ملحق "عراقيون"، جريدة "المدى" البغدادية 19-10-2011.
(7)عبد اللطيف الشواف (قانوني ووزير راحل)، "هكذا عرفت نجيب المانع" كتابه "عبد الكريم قاسم وشخصيات أخرى"، "دار الحكمة- لندن 2009".
(9) علي عبد الأمير، "استفاق الشاعر فوجد نفسه.. صنديد البوابة الشرقية"، كتابه "حنين بغدادي" دار الأديب- عمّان 2012.
(10) و(11) و(12)، فاطمة المحسن، جريدة "الرياض" 2000. عن يوميات المانع "ذكريات عمر أكلته الحروف"، دار الانتشار العربي، بيروت 1999.
(13) مطبوعات وزارة الثقافة والاعلام بغداد، 1989.
(14) و(15) مي مظفر، "العراقي نجيب المانع في "ذكريات عمر أكلته الحروف" الكاتب المنسي صدمه انحطاط النثر العربي المعاصر"، صحيفة "الحياة" 25 ايار/مايو 2005.
(16) سميرة المانع، المصادر الثقافية لنجيب المانع، ملحق "عراقيون"، جريدة "المدى" البغدادية 19-10-2011 .
(17) نجيب المانع، "أم كلثوم: الغياب المستحيل والمؤسسة الوجدانية"، مجلة "الإذاعة والتلفزيون" البغدادية 1975.