يستبطن الخطاب السياسي الموجه إلى القارئ أو المتلقي، رسائل عامة وأخرى مواربة؛ لأنه خطاب موجه بامتياز، يحتمل رأياً، وشخصيات سياسية، وأفكاراً. يحاول الخطاب أن يفرضها على المتلقي، ويقنعهم بها، من خلال واجهاتٍ إعلامية مثلاً.
المواقع والصحف الإلكترونية، تمثل اليوم أبرز هذه الواجهات، التي لم تعد تكتفي بنقل الوقائع والأحداث على شكل أخبار، إنما تعمل على التدخل في صياغتها وكيفية عرضها، وتدعيمها بالصور والمصادر والآراء، حتى تمنحها توجهاً معيناً، ومصداقية ما. لا تخلو دوماً من الرغبة في السيطرة، وتحويل الرأي العام إلى قوةٍ ضاغطة، يمكن استخدامها من أصحاب المصالح المعنيين، لفرض سياساتٍ ونتائج محددة.
في قفص الأيديولوجيا
موقع "نون بوست"، موقع إعلامي عربي. وفي خانته التعريفية "من نحن"، لا يُعرف عن مسؤوليه، أو موقع جغرافي محدد يعمل منه، لكنه يتحدث كونه يفتح الفرص للشباب حتى يعملوا معه وينشروا فيه، كما إنه يتحدث عن تركيزه على صحافة المواطن، ويقدم تحليلاتٍ سياسية عميقة، كما يشجع الحوار. ويتوجه بحسب قوله "لشرائح المجتمع العربي المختلفة، فيرصد أهم التطورات التي تهم المواطن العربي على تعدد اهتماماته وانتماءاته العرقية والدينية والمذهبية والسياسية". لكن ذرائع النزاهة سرعان ما تتساقط أمام شيطنة الآخر وإرهاب الأيديولوجيا.
ويشتمل الموقع على عدة أقسام، هي؛ التقارير، الآراء، التحليلات. وقسم للمرئيات، وآخر للمدونات.
يوجه ديفيد هيرست في مقال ترجمه "نون بوست" تهديداً مبطناً بقوله: قطر لديها أصدقاء، وهؤلاء لديهم جيوش جرارة
ولدى تصفح الموقع، نجد -على سبيل المثال لا الحصر- في قسم التقارير مقالةً للصحافي البريطاني ديفيد هيرست، نشرت بتاريخ 8 حزيران (يونيو) 2017 تحت عنوان "لماذا الحملة ضد قطر مكتوب عليها الفشل". حيث يسارع الموقع إلى ترجمة هذا المقال عن موقع "ميدل إيست آي" بعد مدة قصيرة على بدء الأزمة الخليجية، مكتفياً بتعريف هيرست على أنه "كبير الكتاب في الغارديان البريطانية سابقاً". محاولاً تخطي كون هيرست كاتباً يوجه منذ سنوات معظم مقالاته وآرائه لدعم ما يسميه "القوى الفاعلة في المنطقة: قطر، تركيا، جماعة الإخوان". وهو الذي ينتهي مقاله بتهديد مبطن: "قطر لديها أصدقاء، وهؤلاء لديهم جيوش جرارة". مركزاً على تأجيج الأزمة الخليجية.
مقال هيرست: لماذا الحملة ضد قطر مكتوب عليها الفشل؟
وبالنظر إلى قسم الآراء، يمكن انتقاء مقالةٍ منه بعنوان "السعودية: من التسلط الديني إلى التسلط العلماني" للكاتبة التونسية سمية الغنوشي. حيث تقول في مقالتها: "ما يجري اليوم على أرض الحرمين تحديث اجتماعي مشوه يتلخص في مشاهد من الحفلات الفنية المختلطة وكشف شعر الرأس ونزع العباية وقيادة السيارة من دون حرياتٍ سياسية". ومن الواضح، أن مقولة الكاتبة تحمل مغالطةً كبيرة، كون التحديث الاجتماعي، لا بد أن يقود لمزيدٍ من الحريات الفردية.
غير أن الكاتبة، تجهد طوال مقالتها للتركيز على أن التحديث الاجتماعي، ليس سوى "مؤامرة لإرضاء الخارج، واستغفال الداخل". كما إنها مؤامرةٌ ضد الديموقراطية؛ لأن التغيير يأتي من رؤوس النظام السياسي! ولا يمكن تحييد المقال، عن نيته المسبقة في مهاجمة المملكة العربية السعودية، واستباق أي رد فعل اجتماعي داخلي فيها أو تغيير في القوانين والأنظمة دون رؤيةٍ علمية أو أمثلةٍ على "الضرر الذي أحدثه هذا التغيير" إن وجد.
مقال سمية الغنوشي: السعودية: من التسلط الديني إلى التسلط العلماني
ومن جديد، يخفي الموقع توجهات الكاتب المسبقة؛ إذ إن الكاتبة التونسية، هي ابنة راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس، المرتبط بجماعة الإخوان والقريب سياسياً لدولة قطر، وأنها زوجة رفيق عبدالسلام وزير خارجية تونس الأسبق عن حزب النهضة الإخواني، وأحد إداريي مركز الجزيرة للدرسات سابقاً. وهذا يعيدنا من جديد إلى صحفيٍ أو كاتب، يقدم على أنه كاتب موضوعي ومحايد، ولكنه في الحقيقة داعم لتوجهات الموقع، ويفتقد للحيادية أو الموضوعية.
غياب الموضوعية
باب التقارير، لا يخلو هو الآخر، من التوجيه والتحريض، من خلال لغة خطابٍ تكتفي باستخدام عناوين موضوعية، ثم تعمل هي الأخرى على دعم توجهات دولة قطر وحلفائها الذين تحدث عنهم ديفيد هيرست آنفاً، فعلى سبيل المثال أيضاً، يأتي تقرير "عملية غصن الزيتون.. ما لها وما عليها" كمثالٍ فاضح، لتكريس العنف في سوريا.
ولا يتورع كاتب التقرير، الإعلامي السوري "أحمد الصوراني"، عن كتابة جملٍ تكرس العنف، كـ "علت الأصوات للمطالبة بفتح جبهات تُوقف زحف النظام في محافظة إدلب وجاءت المطالبات بفتح معركة الساحل للضغط على النظام ونقل المعركة إلى أراضيه". ثم يقوم الإعلامي السوري بنقل آراء أفراد من موقع فيسبوك، لتدعيم هذه المقولة. مما يجعل الخطاب السياسي يشير ربما إلى المطالبة بالمزيد من العنف.
تقرير الصوراني: عملية غصن الزيتون.. ما لها وما عليها
من جهته، يركز قسم التحليلات في جانبه السياسي أيضاً، على المحور المعاكس للتحالف "القطري التركي الإخواني"، وفي تقريرٍ إعلامي أعده فريق الموقع ونشر بتاريخ 10 شباط (فبراير) 2018 حول عملية الجيش المصري في سيناء "سيناء 2018"، يحاول فريق التحرير التركيز على ما سُمي "الأهداف الخفية للعملية أو ما ورائها"، مشدداً على أنّ العمليات السابقة للجيش كانت تقع "في إطار رد الفعل والثأر من عمليات محددة للمسلحين في سيناء"، أما هذه فعملية معلن عنها مسبقاً وتجيء في توقيت يسبق الانتخابات الرئاسية. معتبراً أنها ربما تكون جزءاً من "صفقة القرن" الأمريكية، وتحالفاً "يوازي تحركات إسرائيلية تجاه قطاع غزة"، وتضييقاً على المعارضة المصرية.
يحاول "نون بوست" تقديم كتاب الرأي على أنهم مستقلون، غير أنّ معظمهم يحملون تاريخاً مؤيداً لقطر وحلفائها
ويجهد التقرير لتفكيك العملية وتقديمها على أنها مضرة في كل شيء، وتقمع، وتعبر عن رسائل خارجية، ولا يقوم بأي إشارة موضوعية إلى "فكرة إنهاء مشكلة المسلحين بصورةٍ شبه كاملة"، ولو لفترةٍ زمنية محددة. متناسياً أن هامش المعارضة في مصر مرتفع بكل حال في الإعلام المجتمعي والرقمي منه تحديداً.
تقرير عملية سيناء: عملية "سيناء 2018".. رسائل وتساؤلات في انتظار الإجابة
الجانب التفاعلي من الموقع، ورصد جمهوره، وردود أفعاله، وما يتأثر به من خلال طرح الموقع، يمكن رصده من خلال صفحة "نون بوست"، على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك". حيث تطالع المتلقي مجموعة "المواد" التي تعيد الصفحة نشرها من خلال الموقع. إضافةً إلى نشرها فيديوهات تفاعلية ومواضيع "إنفوغراف" منوعة، الجانب السياسي الراهن منها، يعمل على "اجتزاء بعض الوقائع" والتركيز على مهاجمة دول التحالف العربي بكل وضوح ودون مواربة.
وكمثال، تم نشر فيديو بتاريخ 11 شباط (فبراير) 2018، تحت عنوان "ماذا كان سيحصل لو نجحت الثورة اليمنية"، والفيديو يستذكر في محتواه الثورة اليمنية، ويضع بين كل لقطة ولقطة في الفيديو القصير صوراً لولي عهد المملكة العربية السعودية، وحاكم دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم يأتي النص بعباراتٍ كـ "نجاح الثورة اليمنية كان سيجعل شعوب الخليج تقتدي بها ربما"، وكانت اليمن "ستشكل خطراً على جيرانها"، كقوةٍ سياسية واقتصادية. وعباراتٍ أخرى تشير إلى دول التحالف العربي، متهمةً إياها بإيقاف الثورة، وتعطيل تقدم اليمن.
ولا يتطرق الفيديو إلى "الميليشيات الحوثية"، والدور الإيراني في اليمن، وخطر القوى التي تحمل مصالح "استعمارية" إن صح التعبير، ضد دول الخليج العربي، مما يخرجه عن منظومة القيم المهنية.
فيديو اليمن: انقر للمشاهدة
وبصورةٍ عامة، تعليقات المتابعين للصفحة، تم رصدها بصورةٍ تنازلية، حتى شهر ديسمبر 2017، وأعدادها قليلة جداً، معظمها يأتي في سياق منشورات صفحة "نون بوست" حول الأزمة الخليجية، التي شهدت الصفحة منذ بدايتها تحولاً في المواضيع، تركز على الهجوم على دول التحالف العربي داخلياً وخارجياً، بشكلٍ مباشرٍ أحياناً، وأحياناً بصورةٍ مبطنة. ولم يحقق الموقع رسالته التي تشجع الحوار وتبادل الآراء، ونبذ الطائفية. بل تجيء التعليقات غالباً في سياق "الهجوم على الجهة التي تهاجمها منشورات الصفحة".
ولعلّ ما تم تناوله من أمثلةٍ في هذا التقرير، غيضٌ من فيض، يمكن تركه للقارئ الذي بإمكانه تصفح الموقع والتنقل بين أقسامه. غير أن توظيف مواد الموقع، في الدفاع عن دولة قطر وجماعة الإخوان وتركيا، دون توجيه أي نقد موضوعي لسياساتهم الداخلية أو الخارجية، مترافقاً مع شيطنة الأخر أياً كان، في حالِ كان مختلفاً مع هؤلاء. يعد تدخلاً مباشراً وغير نزيه، للسيطرة على رؤية المتلقي، وتوجيهه، حتى يظل محصوراً ومحاصراً دوماً بين ثنائية الصديق والعدو، والخير والشر، بعيداً عن المنطق والوقائع.