منذ إعلانها برنامجها السياسي، عام 2017، كشف البرنامج الجديد لحركة حماس أنّه لا مانع في المستقبل من إقامة دولةٍ فلسطينية على حدود 1967، دون الاعتراف بدولة الاحتلال، أملاً من الحركة في أن يمنحها ذلك قبولاً دولياً أكثر، لكنّ الوثيقة، من زاويةٍ أخرى، تكشف جانباً من صراع الحركة على السلطة مع حركة فتح بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007.
اقرأ أيضاً: تدوير المناصب الحكومية في غزة.. حماس تعزز الانقسام
ورغم رفض حماس الدخول في منظمة التحرير قبل عقودٍ من تعديل برنامجها السياسي، ورفضها القاطع لاتفاقية السلام الفلسطينية الإسرائيلية (أوسلو)؛ فإنّها، ومن خلال خطواتٍ داخلية، وأخرى خارجية سياسية ودبلوماسية، بدأت تتجه إلى كونها حركةً تسعى نحو السلطة، أو ربما الاستقلال كسلطةٍ حاكمة على غزة التي تشكل جزءاً من فلسطين فقط، فما هي ملامح هذه الرغبة الحمساوية، إن وجدت؟ وما هي أهدافها؟
صناعة الشِّقاق
يمرّ اليوم ما يقارب 12 عاماً من الانقسام بين حركتَي فتح وحماس، وهو انقسامٌ لا بدّ من أنّه يسعد دولة الاحتلال، التي تعمل بمقولة نابليون بونابرت: "إذا أخطأ عدوّك فلا تقم بمقاطعته أبداً"، لكنّ هذا الانقسام ليس وليد لحظة عنفٍ واجتثاث، عام 2007، بل يعود في جذوره العميقة إلى موقف جماعة الإخوان المسلمين بعد هزيمة عام 1967، واحتلال ما تبقى من أرض فلسطين؛ حيث رأت الجماعة حينذاك أنّ هذه الهزيمة "انتقام إلهي ممّا حدث لجماعتهم وتعذيبهم في السجون، من قبل الرئيس الراحل، عبد الناصر، وعدّوا بُعد الدولة عن الإيمان وعدم تطبيق الشرع الإلهي السبب الأول للهزيمة"، وفق دراسة لمجدي نجم، نشرتها جامعة "بير زيت " عام 2007.
في ميثاقها التأسيسي أسّست حماس لنوع من الطائفية السياسية بالقول إنّ فلسطين إسلامية وليست علمانية كعلمانية منظمة التحرير
ويقود لوم الجماعة لعبد الناصر إلى لومها مشاركته الأساسية في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية؛ حيث نأت الجماعة عن المنظمة منذ نشأتها، عام 1964، وهو ما قاد مباشرةً إلى تفكيرها في تشكيل فصيلٍ مقاوم خاص بها، وقد تبلورت هذه الفكرة بالتحديد، بعد اجتياح بيروت، عام 1982، وذلك لأنّه "بعد هزيمة منظمة التحرير في لبنان، ورحيل قياداتها والعديد من عناصرها أبعد عن فلسطين، رأت الجماعة أنّ هذا الحدث، يشكل بداية نهاية منظمة التحرير رسمياً"، بحسب مقال للباحث الدكتور عقل صلاح، في موقع "رأي اليوم"، عام 2017؛ ما جعل الجماعة، التي تختلف أيديولوجياً كذلك مع بعض التوجهات اليسارية والسياسية داخل منظمة التحرير، إلى تدشين جناحها العسكري المقاوم في فلسطين، وهو حركة حماس.
حماس لم تقبل بأيّة مشاركة في الجبهة الفلسطينية الموحدة للفصائل الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير، وبدا نفورها من فتح يتضح بحلول انتفاضة عام 1987 في فلسطين؛ حيث كانت الحركة تقوم ببعض النشاطات، كتنظيم الإضرابات والمظاهرات بصورة مستقلة في الضفة وغزة، معلنة وجودها في فلسطين.
اقرأ أيضاً: الانقسام الفلسطيني.. 12 عاماً على التبعات المنسية
بعد ذلك، يقول صلاح: "قامت الحركة بإصدار ميثاقها، في آب (أغسطس) 1988، الذي يستمد مبادئه من فكر الإخوان المسلمين، إلا أنّه كان على غرار الميثاق الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير ولكن برؤية دينية، ومن هنا نجد أنّ نجم حماس بدأ بالصعود بقوة، على أنّها حركة خارج أطر منظمة التحرير وعملية السلام، ولاحقاً أوسلو بالتحديد".
انتمت رؤى حماس التأسيسية إلى جماعة الإخوان المسلمين أكثر من انتمائها إلى محيطها وبيئتها الفلسطينية وهذا أفقدها الكثير
ولعلّ أهم ما ميّز ميثاق حماس، عام 1988، هو أنّها أسّست من خلاله لشقاقٍ عميق في بنية الفصائل الفلسطينية، وحولت مسار الصراع مع الاحتلال إلى مسار صراعٍ داخلي، يمكن عدّه طائفياً وإضعافاً للمقاومة؛ إذ تؤكّد، في المادة السابعة والعشرين منه (منشور في الموقع الرسمي للحركة)؛ أنّ منظمة التحرير الفلسطينية شقيقة لحماس "لكن حماس لن تستبدل أبداً إسلامية فلسطين بالرؤى العلمانية لمنظمة التحرير".
وخلال تسعينيات القرن الماضي؛ نأت حركة حماس بنفسها عن السلطة الفلسطينية، التي تأسست منذ 1994، قدر الإمكان، ولم تقبل بأيّة مشاركةٍ واضحة في المجلس التشريعي الفلسطيني، وخاضت بعض العمليات ضدّ الاحتلال بصورةٍ منفردة، ومرت فترات خففت حماس فيها من لهجتها السياسية تجاه السلطة الفلسطينية، وبحلول الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عام 2000، كاد يظهر شبه توافق على دعم نضال الشعب الفلسطيني فصائلياً في الضفة وغزة، إلى أن انتهت الانتفاضة، وتوفّي الرئيس الراحل، ياسر عرفات، لاحقاً، عام 2004.
بعد ذلك، في مطلع 2006، ربحت حماس الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وبدأت الخلافات تدبّ من جديد، حول المرجعية التي سوف تؤول إليها السلطة الفلسطينية بين فتح وحماس، فتفجّر الصراع واضحاً، منذ عام 2007، وقامت حماس بالاستيلاء على قطاع غزة عملياً، وسط عمليات عسكرية لعناصرها، وحوادث قتل واختطاف بينها وبين حركة فتح بالتحديد، فيما تمترست فتح بأجهزتها وسلطتها في الضفة الغربية، وبدأ عصر الانقسام الداخلي في فلسطين، وتبدّلت أدوارٌ كثيرة، ربما أهمّها؛ أن هناك صراعاً تقوده حماس سياسياً وعملياً ضدّ السلطة الفلسطينية، داخلياً وخارجياً، لكن هل تقمصت حماس هذا الدور وحدها، أم إنّ الاحتلال قادها إليه؟
من المقاومة إلى السلطة
ويشير مجدي نجم؛ إلى أنّ "اغتيال قادة تاريخيين في حماس، مثل الشيخ أحمد ياسين والقائد عبد العزيز الرنتيسي، ربما كان يهدف إلى تغيير تركيبة الحركة، وبالتالي مسارها داخل فلسطين كحركة مقاومة"؛ فقد أسهم اغتيال قادة حماس المهمّين، وفق نجم، في ارتفاع أسهم الحركة شعبياً، بينما كانت فتح تعاني انحداراً في شعبيتها، بعد تراكم المعضلات أمامها من قبل الاحتلال، ولعوامل داخلية وخارجية أخرى، منعت تحقيق إقامة دولةٍ فلسطينية والمضي في عملية السلام، وهو ما أتاح "لأمريكا غالباً، رسم دورٍ جديد لحماس، يمكن لها أن تخوضه وحدها، لتكون قطباً في معادلة السلطة الفلسطينية، له ثقله، وبالتالي يصبح لحماس جانبٌ سياسي، وليس فقط عسكرياً، وذلك ... من أجل تطويع الحركة لاحقاً بصورةٍ سياسية، حتى تقبل بالاشتراطات الأمريكية والتسويات الإسرائيلية".
عزّز الانقسام الفلسطيني ضعف الفلسطينيين وجعل حماس تخضع إلى تركيبة جديدة قوامها السعي إلى السلطة على سلم المقاومة
وإضافة إلى ذلك؛ تمّت إزاحة الرئيس التاريخي للفلسطينيين، ياسر عرفات، من الساحة، فترك موته فراغاً لا يمكن لفتح أن تسدّه وحدها، وشعرت حماس بعد ذلك بحاجتها إلى المشاركة السياسية في السلطة، خصوصاً أنّها باتت تحتاج إلى غطاء سياسي ونوع من الشرعية أمام العالم، كما أنّ قوتها تعاظمت شعبياً وداخلياً، لكنّها لم تستطع التوافق طويلاً مع فتح، التي تشبه بوجودها نوعاً من (مستقبل حماس) في السلطة؛ حيث بدأت فتح في قمة الثورية والنضال، وانتهت في أوسلو، وهذه مسيرة تريد حماس أن تخوضها وحدها، علّها تصل إلى مكانٍ غير أوسلو، ولو إلى دولةٍ أخرى خاصّة، تمثّل جزءاً من فلسطين.
لكن، بعد انتخابات 2007، واندلاع المواجهات بين الحركتَين، اتّضح أنّ حماس أسرعت لاقتطاع حصةٍ لها من السلطة، بعد أحداثٍ دموية انتهت باستيلائها على قطاع غزة.
ومثلما ظهر أنّ السلطة الوطنية تهيمن على الضفة الغربية؛ فإنّ حماس بدأت، بعد سيطرتها على قطاع غزة، بالهيمنة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً عليه؛ أي إنّها عادت لاستنساخ تجربة غريمها، إن صحّ التعبير، وهو حركة فتح، لكن من الصعب القول إنّها تسيطر على الأمور بالفعل، فالشقاق والخلاف بين حماس وفتح، قابل للسيطرة في الواقع من دولة الاحتلال، كما أنّ حماس بدأت، منذ 2008، تنكمش وتحفر الأنفاق تارة بين غزة ومصر من أجل إبقاء الحياة قائمة، بسبب انتهائها اقتصادياً.
اقرأ أيضاً: الانقسام وصفقة القرن ليسا قدراً على الشعب الفلسطيني
وفي هذا السياق؛ تكشف دراسةٌ للمركز الفلسطيني للدراسات الإستراتيجية، عام 2017؛ أنّ "انفراد حماس في غزة أدّى إلى عزلةٍ عن (فلسطين)، وربما عزّز فكرة الانفصال، وأخذ يكوي وعي المواطنين والبسطاء، خصوصاً أنّ أكثر من عشرة أعوام من هذا الانفصال، خصوصاً مع سعي الحركة لإيجاد حلول لمشكلات القطاع، خاصة في مجالات الطاقة والإعمار ومحاولة إنشاء الميناء، بالتنسيق المباشر مع أطراف إقليمية، بعيداً عن السلطة الفلسطينية، ما أدخل الكثير من القلق من توجهات "حماس" المستقبلية"، ومن المعروف أنّ غزة لم تتقدم في مجالات والإعمار والخدمات التي يتحكم الاحتلال في بعضها كالكهرباء؛ لذا فإنّ بعض التسويات المحتملة مستقبلاً بين حماس والاحتلال، ربما تستهدف، على أبعد تقدير، ترك الاحتلال وغزة لشأنها حتى تتطور في الخدمات والإعمار، لا أكثر ولا أقل.
ومنذ مدةٍ غير قصيرة، شهدت غزة احتجاجاتٍ شعبية عديدة للمطالبة بحقوق الناس المعيشية والاقتصادية، بعد تردّي أوضاعهم في معظم مجالات الحياة، وكان آخرها في شهر آذار (مارس) الماضي؛ حين تظاهر فلسطينيون في غزة، وأسّسوا حركة "بدنا نعيش"، للمطالبة بحقوقهم، لكنّ حماس "قمعت المظاهرات بالعنف آنذاك، واستخدمت قوة مفرطة ضدّ مواطني غزة، واعتقلت المئات منهم، كما أنّها وظّفت الأحدث سياسياً، متهمة السلطة الفلسطينية بالتسبّب في تردي الأوضاع، وبتحريض موظفيها في القطاع للخروج ضدّ حماس، رغم الوضع الخطير المكشوف للجميع هناك"، وفق تقريرٍ لـ "دويتشة فيله "، بتاريخ 25 آذار (مارس) الماضي.
كما أنّ حماس ظلت تستثمر، مضطرة أو غير مضطرة، في كلّ حربٍ يشنّها الاحتلال ضدّها، من خلال دماء أبناء غزة المحاصرين، التي استُثمرت في عمليات هدنة برعاية عربية ودولية أحياناً، لتبدو حماس متحكمةً بالأمور، ناهيك عن أخذها بقبول الأموال والمساعدات من بعض الدول، من باب الصمود، الذي كان يهدمه الاحتلال كلّ مرة، مبقياً الوضع على ما هو عليه.
وبحلول عام 2017؛ قامت حماس أخيراً بتعديل ميثاقها الخاص بالحركة من جديد، والذي رأى كثيرون أنّه "محاولة من حماس للحصول على نصيبٍ من السوق، وحيازة قبولٍ دولي وأمريكي جديدَين، وطرح نفسها كبديلٍ نهائي عن منظمة التحرير، أو ما تبقى منها، بحسب تقرير "بي بي سي"، في أيار (مايو) 2017، كما أنّ الاستعداد الحمساوي للاستقلال بغزة ربما يكون مبرراً في زمنٍ لاحق، إذا ما فرضت عليها الظروف التي صنعها الاحتلال ذلك، والانقسام الفلسطيني الفلسطيني، الذي أسهم في قصّ أجنحة حماس وتحويلها إلى حركة براغماتيةٍ تقريباً، تسعى نحو السلطة، كلفها ذلك أيضاً جزءاً من شعبيتها وقيمها التي بنت عليها ذاتها كحركة، إضافة إلى فشلها المتكرر والمعروف في إدارة القطاع الذي اقتطعته من فلسطين فعلياً، من أجل المقاومة، التي تراوح مكانها منذ 12 عاماً، دون جديد، سوى المزيد من الخسائر الفلسطينية في الضفة والقطاع، كأن الانقسام، مجرد محاولةٍ للتهرب من موتٍ مؤجل للقضية الفلسطينية، بعد أن أصبح أخوة النضال، غرماء السلطة.