
أظهرت معطيات المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية، حتى الآن، أن إسرائيل استطاعت توجيه ضربة كبيرة للبنية العسكرية والنووية الإيرانية، مُستندةً على مزيج من التفوق التقني، والتفوق الاستخباراتي. لكنّ ذلك لا يعني أن استراتيجيتها العسكرية ضد إيران حققت نجاحاً كاملاً.
- استطاعت إيران في خلال الأيام القليلة الماضية استيعاب الصّدمة الإسرائيليّة الأولى، وأخذت الردود الإيرانية تبدو أكثر توازناً. ومع ذلك، فقد كان واضحاً أن العقيدة العسكرية الإيرانية المستندة إلى مبادئ الحروب غير المتناظرة، تُعاني من خلل كبير خلال هذه المواجهة مع إسرائيل.
- تُظهِر الخطوات الميدانية التي تتخذها إيران، سواء على الصعيد الدبلوماسي أو على المستوى العسكري، رغبة في وقف الحرب، من منطلق الوعي بأن العتاد العسكري الذي تمتلكه، والحالة الاقتصادية التي تمر بها، وشح الأوراق الإقليمية التي باتت تمتلكها للضغط على المجتمع الدولي وعلى إسرائيل، لا تؤهلها لخوض حرب طويلة.
- تؤكد إسرائيل أنها ماضية حتى تحقيق النصر الكامل على إيران استناداً إلى تفوقها الجوي الواضح. بينما تعول إيران في إمكانية تحقيق النصر على الحصول على دعم من بعض الحلفاء. لكنّ سيناريوهات وضع حدٍّ للتصعيد الميداني تبدو أكثر احتمالاً حتى الآن؛ على رغم أنها لا تزال تواجه عقبات لافتة من بينها عقبة مَنْ يتوقف أولاً.
بدأت إسرائيل، فجر 13 من يونيو، حرباً مباشرة على إيران، عبر هجمات جوية شاملة، حيث شاركت نحو 200 طائرة حربية من طراز إف 15، وإف 16، وإف 35 في الغارات التي تمَّت غداة انتهاء مهلة الشهرين التي منحها الرئيس دونالد ترمب لإيران للتوصل إلى اتفاق. ونفَّذت الطائرات التي شاركت في الهجوم نحو 330 غارة في المجموع، استخدمت فيها صواريخ ثقيلة، تمكَّنت من تدمير مبان سكنية بأكملها في العاصمة طهران. وتحدثت المصادر الإسرائيلية عن مشاركة قوات خاصة في الهجمات أيضاً؛ إذ قالت إن بعض القادة والعلماء النوويين اُغتيلوا عن قرب على يد القوات الخاصة.
ووردت أنباء عن تغلغل إسرائيلي تركَّز قُرب القواعد الجوية الإيرانية، وكان الهدف منه تحييد الدفاعات الجوية، والنيل من فاعليتها. كما استخدمت إسرائيل فيه مُسيَّرات خفيفة سُيِّرت من على مسافة قريبة في عملية تشبه تلك التي نفذتها قوات أوكرانية ضد قواعد جوية روسية في وقت سابق. وواصلت إسرائيل هجماتها المنسقة في خلال الأيام الثالثة التالية على أهداف عسكرية، ونووية، ومنشآت اقتصادية عديدة، مُخلفةً تدميراً واسعاً في البنى العسكرية والمنشآت النووية وبعض المنشآت الاقتصادية. وكانت العلامة الأبرز في الهجمات الإسرائيلية هي التمكن من استهداف عدد كبير من القيادات العسكرية الإيرانية من الصفوف الأولى، وعدد من مسؤولي وخبراء البرنامج النووي الإيراني.
بعد نحو عشرين ساعة من الهجوم الإسرائيلي بدأت إيران هجماتها المضادّة عبر إطلاق موجات من الطائرات المسيرة والصواريخ باتجاه إسرائيل. وفي خلال الأيام الأربعة الأولى (حتى لحظة إعداد هذه الورقة صباح يوم الاثنين 16 يونيو 2025) نفَّذت إيران 11 هجمة صاروخية باتجاه إسرائيل، استخدمت فيها نحو 370 صاروخا باليستياً، ونحو 100 طائرة مسيرة. وفيما لم تنجح غالبية المسيرات في الوصول إلى أهدافها نتيجة عمليات الاعتراض، كان معدل الصواريخ التي نجحت بتجاوز الدفاعات الجوية الإسرائيلية يتخذ منحىً تصاعديّاً من نحو 5% في خلال الموجة الأولى، إلى نحو 20% في خلال الموجة الثالثة من هجمات الليلة الماضية.
لا تزال المواجهة الإيرانية الإسرائيلية في أيامها الأولى، وقد يكون من المبكر الحديث عن فهم الاستراتيجيات العسكرية الدقيقة التي يطبقها كلٌّ من الجانبين على ميدان المعركة، ومعرفة الأهداف التي يبتغيها من وراء هذه المواجهة. ولكن استناداً إلى الخطوات الميدانية التي قام بها الطرفان حتى الآن، يمكن وضع اليد على أبرز المعالم العامة لاستراتيجياتهما الحربية.
بين النموذج السوري، والنموذج الأوكراني: معالم الاستراتيجية الحربية الإسرائيلية
حددت إسرائيل الغايات المعلنة لهجومها المباغت على إيران بالقضاء على التهديدات الوجودية التي يمثلها النظام السياسي الإيراني لإسرائيل. وفي سياق هذا الهدف الاستراتيجي العامّ، تتابع تل أبيب الخطوات التالية ميدانيّاً:
- ركَّزت إسرائيل في قصفها على المنشآت الصاروخية بقدر ما ركَّزت على المنشآت النووية؛ ليتبين من ذلك أن المكانة التي يحتلها المشروع الصاروخي ضمن قائمة التهديدات الوجودية في المنظور الإسرائيلي، لا يقل عن المكانة التي يحظى بها التهديد النووي الإيراني. ويمكن القول إن التهديد النووي الإيراني كان البوابة الأمثل لإسرائيل لشن هجمات واسعة في العمق الإيراني للقضاء على البرنامج الإيراني للصواريخ، والذي تعتبره تل أبيب تهديداً من العيار ذاته الذي يمثله التهديد النووي. وبهذا الخصوص كان عدد الهجمات التي نفذتها القوات الإسرائيلية ضد المنشآت الصاروخية، سواء تلك التي تعمل في مجال إنتاج الصواريخ أو منصات الإطلاق على رأس قائمة الأهداف التي رسمها الجانب الإسرائيلي لنفسه. وربما يذكرنا ما يقوم به الإسرائيليون في إيران من محاولات للقضاء على المشروع الصاروخي إلى جانب القضاء على قواعد الطيران بما قامت به إسرائيل في سورية غداة انهيار الأسد في سياق القضاء على أي تهديد ميداني متوجه نحو إسرائيل مع ضرورة الالتفات إلى صعوبة تحقيق ذات المستوى من النجاح.
- تُشير المعطيات إلى أن إسرائيل قامت بتطبيق ذات النموذج الذي طبقته في مواجهتها مع حزب الله، من حيث التركيز على استهداف صفوف القيادة العسكرية الأولى. ونجحت إسرائيل في تغييب الصف الأول من القادة العسكريين الذين يقفون خلف رسم الاستراتيجية العسكرية الإيرانية تجاه إسرائيل. وكان كلٌّ من قائد الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة محمد باقري، وقائد مقر خاتم الأنبياء غلام رشيد، وقائد القوات الجوية والصاروخية في الحرس حاجي زاده، يشكلون الصف الأمامي والعملياتي ضمن قائمة القادة العسكريين في إيران. وتؤكد إسرائيل أن التجربة التي خاضتها مع حزب الله، أثبتت أن تغييب الصف الأول من القادة الأيديولوجيين، وتعقُّب خلفائهم، له أثر واضح في تحييد التحدّي. وفي سياق ذلك، من المتوقع أن يستمر مسلسل الاغتيالات الإسرائيلي لتحييد وجوه أخرى من القيادات في الصفوف الأول العسكرية، وربما السياسية في إيران في مراحل لاحقة. مع ذلك ينبغي الالتفات إلى أن الفوارق الجوهرية بين إيران بصفتها دولة، وحزب الله باعتباره ميليشيا، قد لا تسمح بالحصول على ذات النتائج.
- نجحت إسرائيل في تكرار التجربة الأوكرانية على الأرض الإيرانية؛ حيث استخدمت أوكرانيا في الضربة الناجحة التي وجهتها للطيران الاستراتيجي الروسي في مايو الفائت مُسيَّرات صغيرة أطلقت من على مَقربة من الأهداف، بعد تهريبها إلى داخل الأراضي الروسية قبل أشهر من العملية. وتظهر المعطيات أن إسرائيل فعلت ذلك بالضبط؛ فقد قامت بتهريب عدد كبير من المسيرات الصغيرة، وقطع المسيرات المتوسطة إلى داخل الأراضي الإيرانية (تشير التفاصيل إلى أن القوات الأمنية الإيرانية عثرت على أكثر من مركبة تحمل عشرات المُسيرات الصغيرة في مناطق شتى من إيران)، كما نجحت في تسييرها من داخل الأراضي الإيرانية، لتنفيذ الهجمات المباغتة على الدفاعات الجوية الإيرانية تمهيداً للغارات الإسرائيلية. إنه نموذج أثبت إمكانية كبيرة في مفاجأة العدو، وصفعه من حيث لا يحتسب. وعلى الرغم من أنّ هذا النموذج أظهر التفوق الأمني الإسرائيلي فإنَّه غالباً من التكتيكات التي تصلح للاستخدام مرة واحدة ويصعب تكراره نتيجة حالة اليقظة الأمنية والاستنفار الأمني التي يحدثها لدى العدو.
وفي شكل عامّ، يمكن القول إن استراتيجية إسرائيل في الهجمات التي تخوضها ضد إيران في خلال الأيام الأربعة الأخيرة، كانت مزيجاً من هذه النماذج الثلاثة التي يمكن اعتبارها بنية العقيدة العسكرية الإسرائيلية الحديثة، وتضاف إلى العقيدة العسكرية التقليدية لإسرائيل، والتي تستند على التفوق الجوي.
مدى نجاح هذه العقيدة في الحالة الإيرانية
أظهرت المعطيات أن إسرائيل استطاعت توجيه ضربة كبيرة للبنية العسكرية (والنووية) الإيرانية في خلال اليومين الأخيرين، مُستندةً على مزيج من التفوق التقني، والتفوق الاستخباراتي. لكنّ ذلك لا يعني أن هذه العقيدة حققت نجاحاً كاملاً، إذ:
- لا تزال إيران تحتفظ بهيكل برنامجها النووي، وبرنامجها الصاروخي على الرغم من تلقيها ضربات موجعة؛ وعلى الصعيد النووي لم يؤكد أيٌّ من المصادر المحلية أو الدولية تلقي المنشآت النووية ضربة قوية، تخرجها من الخدمة أو تتسبب في إشعاعات تشير إلى عطل، أو عطب لافت في المفاعلات النووية أو مخزونات المواد المشعة. أما على مستوى البرنامج الصاروخي، فإن قيام إيران بتوجيه 370 صاروخاً باليستياً خلال الأيام الماضية، وبوتيرة متصاعدة سواء من حيث النوع أو الكم، يشير إلى فشل الهجمات الإسرائيلية في تحقيق شلل مفاجئ وسريع. وربما تعود أسباب ذلك إلى خطوات احترازية اتخذتها إيران لنقل المشروعين إلى الأعماق، ونقل الطائرات إلى قواعد بعيدة.
- أظهرت استراتيجية "تغييب صفوف القيادة الأولى" نجاحاً واضحاً في التعامل مع تحدي حزب الله، لكنّ قد لا يعني ذلك أنها ستنجح مع المؤسسة العسكرية الإيرانية، وذلك بسبب الاختلاف الجوهري بين الميليشيات (حزب الله)، وبين المؤسسة العسكرية النظامية (الجيش الإيراني والحرس الثوري). ويمكن توقع أن تستمر إسرائيل في اغتيال القادة الجدد، لكن الهرم العسكري الإيراني يتضمن عشرات الجنرالات الذين يمكنهم ملء الفراغ بسرعة، في حين أن قوانين المؤسسة ونظمها الداخلية تحول دون انهيارها حتى مع مقتل القادة الكبار.
- هناك عقبات تحول دون إعادة تكرار الاختراقات الأمنية الناجحة (على غرار التجربة الأوكرانية) في المراحل التالية من المعركة مع إيران. وبينما أظهرت إسرائيل تفوقاً استخباراتياً واسعاً، تمثل في معرفة أماكن وجود القادة والمختصين في البرنامج النووي، واختراق أنظمة الدفاع الجوي، وفي نجاح تجربة تهريب المعدات، والمسيرات إلى إيران. لكنّ التجربة الأوكرانية شأنها شأن كل التجارب الاستخباراتية، تستند إلى حد كبير على عنصر المفاجأة في نجاحها، ولن تكون صالحة للاستخدام لأكثر من مرة أو مرتين. ولذلك من المفترض أن تفقد هذه الاستراتيجية قوتها في الأيام المقبلة؛ إذ تتجه إيران نحو تغيير قنواتها لتبادل المعلومات، وتَخَفَّي القادة، وفي أشياء أخرى. وتشير التفاصيل الميدانية إلى أن إيران استطاعت العثور على شحنات من المسيرات المهربة في أماكن عدة، كما استطاعت إعادة أنظمة الدفاع الجوي إلى الخدمة بعد أن كانت الاختراقات قد حيدتها لعدّة ساعات.
وبطبيعة الحال ستواصل إسرائيل محاولاتها لتطبيق هذه الاستراتيجيات في الأيام المقبلة مع إدخال بعض التحديثات عليها بعد أن فقدت عنصر المفاجأة. لكن من شأن الخطوات الإيرانية للتصدي لها أن تدفع تل أبيب نحو العودة إلى نقطة التفوق التقليدية؛ حيث الطائرات الحديثة المزودة بالصواريخ الدقيقة.
معالم الاستراتيجية الإيرانية: التكيُّف مع مرحلة ما بعد الحروب غير المتكافئة
استطاعت إيران خلال الأيام الأربعة الماضية استيعاب الصّدمة الإسرائيليّة الأولى، وبدأت الردود الإيرانية تبدو أكثر توازناً. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان واضحاً أن العقيدة العسكرية الإيرانية المستندة إلى مبادئ الحروب غير المتناظرة، تُعاني من خلل كبير خلال هذه المواجهة مع إسرائيل.
وتستند العقيدة العسكرية الإيرانية على مبدئي "الحروب غير المتكافئة" و"الالتصاق بالعدو"، سواء في خلال المواجهات المباشرة، أو المواجهات عبر الوكلاء الذين كانوا يؤمنون لها الاقتراب من العدو الإسرائيلي. وطورت إيران أسلحة ملائمة لهذه الاستراتيجية من ضمنها: المسيرات وصواريخ كروز والزوارق السريعة والميليشيات غير المتمركزة لتحقيق مكاسب على صعيد هذين المبدئين. لكنّ المواجهة العسكرية الجارية مع إسرائيل تبدو وكأنها تجربة خارج السياق الذي أعدت إيران قدراتها العسكرية له على مدار أكثر من عشرين عاماً؛ فالمواجهة الجارية لا يمكن أن تنضوي تحت يافطة الحروب غير المتكافئة، كما يغيبُ عنها مبدأ الالتصاق المباشر، لغياب الأذرع الإقليمية التي وفّرت لإيران على مدى عدة سنوات هذا الالتصاق بإسرائيل.
وفي ضوء الوعي بأن المواجهة الجارية تقع خارج حدود ما أعدَّت له إيران عُدَّتها، وبينما أظهرت إسرائيل بفعل تفوقها الجوي الواضح أنها تفكر في جعل المعركة الجوية تغطي كل الجغرافيا الإيرانية فإن المؤسسة العسكرية الإيرانية التي فقدت في اليوم الأول العديد من قادتها من الصف الأول، اتخذت بعض الخطوات على مدى الأيام الفائتة، يمكن أن نستشف منها معالم استراتيجية إيران لخوض المعركة مع إسرائيل في هذا الواقع الجديد أو المستجدّ:
- أول تلك المعالم، أن إيران قررت عدم الاستناد إلى قدراتها الجوية التي تشكل عمودها الفقري طائرات حربية من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتعد طائرتا F-14 الأمريكية، وMiG-29 الروسية أكثرها تطوراً. وفي ضوء قناعة تامة بأن هذا السرب الذي تقادم به الزمن، ويتشكل من طائرات الجيل الثالث والجيل الرابع، لا يستطيع خوض معارك ناجحة بوجه الطائرات التي تمتلكها القوات الجوية الإسرائيلية مثل F-16 وF-35، لا من حيث السرعة، ولا من حيث المعدات، وحقيقة أنها لا يمكن بأية حال أن تبلغ الأراضي الإسرائيلية، قررت إيران التخلي عن خدماتها، وتفضيل خيار الاحتفاظ بها. وتشير المعطيات بهذا الخصوص إلى أن إيران حاولت منذ الساعات الأولى من القتال، نقل العدد الأكبر من هذا السرب إلى قواعد على الحدود الشرقية؛ حيث لا يمكن أن يبلغها الطيران الإسرائيلي، والاحتفاظ بعدد قليل منها في القواعد الأخرى، وذلك حرصا منها على عدم الانزلاق إلى التجربة السورية؛ حيث قضت إسرائيل هناك على كامل السرب الجوي غداة انهيار نظام الأسد في إطار فكرة القضاء على أي تهديد لأمن إسرائيل.
- في غياب الطائرات، استندت إيران بشكل كامل على ترسانتها من الصواريخ؛ لكن على هذا الصعيد أيضاً، استبعدت طهران إلى حد كبير مخزونها من الطائرات المسيرة، وصواريخ الكروز. وذلك في ضوء فشلهما في تحقيق الأهداف المرجوة خلال الموجات السابقة من محاولات استهداف الأراضي الإسرائيلية بسبب انخفاض سرعتها، وانكشافها أمام أجهزة الرادار التقليدية؛ وإمكانية القضاء عليها بصواريخ موجهة من الطائرات. ومقابل استبعاد هذه الأسلحة المعدة لخوض الحروب المبنية على التلاصق؛ استندت إيران على الصواريخ البالستية. غير أن استخدام إيران لهذه الصواريخ اقتصر في معظمه على طرازات تقليدية منها، مثل: عماد، وقدر، وفتح، مع عدد محدود -حتى الآن- لصواريخ متطورة مثل: فاتح، وخيبر شكن، وخرمشهر، وحاج قاسم. وقد تتراوح أسباب عدم استخدامها المحدود لهذه الأنواع المتطورة، بين حقيقة أن إيران لا تمتلك أعداداً كافية من هذه الصواريخ التي يمكن اعتبارها "صواريخ الديكور" على غرار ما تمتلكه من "صواريخ الميدان"، وبين الاعتقاد بأن الصواريخ المتطورة ستكون أكثر فاعلية في سياق نظام للردع، يستند إلى فكرة التحذير من تداعيات استخدامها للوصول إلى الأهداف السياسية بدلاً من الزج بها بكثافة في سياق الأهداف العسكرية.
وتشير التفاصيل إلى أن إيران اقتصدت هذه المرة في إطلاق الصواريخ، بما يمكن أن يحمل دلالات على أنها لا تريد أن تنساق وراء لعبة استنفاذ ترسانتها الصاروخية بسرعة. لكنّ نسبة النجاح في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية كانت هذه المرة أفضل من ذي قبل في عمليتي الوعد الصادق 1 و2، كما أظهرت هذه النجاحات نمواً مطرداً في خلال الأيام الأربعة الفائتة.
ويبدو أن القيادة الإيرانية تستوعب حقيقة الظروف المختلفة لهذه المواجهة، والتي تخرجها عن كونها منازلة في سياق الحروب غير المتكافئة. ولذلك وضعت القيادة الإيرانية بعض الأسلحة التي طورتها طهران لخوض تلك الحروب خارج السياج واقتصدت في استخدام أنواع أخرى.
مع ذلك، فإن السياسة الحربية التي تحاول إيران تطبيقها حتى الآن، تشير إلى استمرار رغبة القيادة الإيرانية في موضعة هذه المواجهة ضمن سياق "الحروب غير المتكافئة" التي تمتلك نسبة أكبر من الجاهزية لخوضها. وفي سياق هذه الرغبة يأتي التلويح بأن إيران جاهزة لتفعيل بعض الآليات التقليدية، من قبيل إغلاق مضيق هرمز، وخلط الأوراق الإقليمية، ونقل الاشتباك بينها وبين إسرائيل إلى بلدان أخرى، تراها منخرطة في دعم إسرائيل بشكل أو بآخر. وكل ذلك في سياق مبدأ من مبادئ الردع الذي ينسجم مع فكرة الحروب غير المتكافئة؛ حيث تسعى إيران إلى الضغط على المجتمع الدولي من طريق ابتزاز الحلفاء الإقليميين للغرب، وعبر التأثير على ممرات التجارة الدولية والطاقة.
وفي هذا السياق ذاته، لوحت إيران أكثر من مرة في خلال الأيام الفائتة، أنها ترغب في فتح جبهة ضد حلفاء إسرائيل الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، سواء بالأصالة، أو من طريق ما تبقى من شبكة وكلائها الإقليميين. فذلك إذ يعيدها إلى حقل هي مُتمرّسة فيه فإنَّه يمنحها فرصة استخدام ترسانة كبيرة من الأسلحة التي أعدتها على مدى الأعوام العشرين الفائتة، للنيل من منشآت العدو الملتصق، بعد أن تغنَّت بقوتها على النيلِ من جنود الولايات المتحدة وحلفائها المنتشرين على أكثر من قاعدة بالقرب من الحدود الإيرانية.
واتخذت طهران كل تلك الخطوات أو لوحت باتخاذها في إطار نظام ردع تقليدي، ترى أنه يوفر لها مناعة، ويمنحها قوة لوقف التصعيد الممارس بوجهها. وذلك من طريق الضغط على موقف المجتمع الدولي عبر الضغط على الحلفاء الإقليميين، أو عبر الضغط على المصالح الاستراتيجية للاقتصاد العالمي. ويبدو أن إيران لا تستهدف من وراء ذلك توسيع رقعة المواجهة، بمقدار ما تريد منه وقف النزيف، ونزع فتيل الأزمة عبر تفعيل الضغط الدولي على إسرائيل.
التلويح بحرب طويلة، والتخطيط للخروج السّريع منها
تُلوِّح إيران بعزمها خوض الحرب لمدة غير قصيرة لوضع حدٍّ للتمادي الإسرائيلي، إن لم نقل للقضاء على الدولة التي عَدَّتها التحدي الاستراتيجي على مدى العقود الفائتة، وحلمت على المستوى الأيديولوجي بمحوها عن الخريطة. ومع ذلك، فإن الخطوات الميدانية التي تتخذها إيران، سواء على صعيد الوجوه الدبلوماسية أو على مستوى القيادة العسكرية، تظهر رغبة كبيرة في وقف الحرب، من منطلق الوعي بأن العتاد العسكري الذي تمتلكه، والحالة الاقتصادية التي تمر بها، وكذلك شح الأوراق الإقليمية التي باتت تمتلكها للضغط على المجتمع الدولي وعلى إسرائيل، لا تؤهلها لخوض حرب طويلة. خصوصاً في ضوء التفوق الجوي الذي تمتلكه إسرائيل، والذي مكَّن الأخيرة من تحييد جزء كبير من دفاعات إيران الجوية. وتبدو هذه الرغبة جليّة في عدة مواقف اتخذها الإيرانيون في خلال الأيام الماضية، بحيث:
شهدت الأيام الماضية محاولات إيرانية عدة للتوسط لفض المواجهة العسكرية الجارية، تَمثَّل آخرها في الاجتماع الذي دعت إليه الخارجية الإيرانية، وشارك فيه سفراء العشرات من الدول. هذا بينما أعلنت إيران أنها ترحب بالوساطات الدولية، وعلى رأسها المحاولات التي تمارسها قطر وعمان والمملكة العربية السعودية لوقف إطلاق النار.
أكدت إيران على لسان أكثر من مسؤول عسكري ودبلوماسي، أنها تعمل على تصعيد لا يقتصر على الجبهة الإسرائيلية إذا استمرت الحرب، في محاولة لدفع عجلة الوساطات الدولية. وبهذا الصدد، وجَّه محمد باقر قاليباف، رئيس مجلس الشورى، والقائد السابق في الحرس الثوري، تهديداً للدول العربية حين أكد أن الحرب ستطالها في حال استمرت. وعلى الصعيد ذاته تؤكد جهات عسكرية إيرانية أن الأيام المقبلة ستشهد استخدام إيران لأسلحة مختلفة تماماً، في حال لم تنته المواجهة. كما ستشهد خطوات ميدانية مختلفة، قد يكون من بينها العمل على إغلاق مضيق هرمز، أو الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي (أعلنت طهران رسمياً وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية أثناء كتابة هذا التقرير). وكل ذلك يأتي في إطار "استراتيجية التهويل من القادم" لردع العدو، ووضع حدٍّ لممارساته.
حاولت إيران على مدى الأيام الماضية ربط العودة إلى المفاوضات بينها وبين الولايات المتحدة، بوقف التصعيد العسكري؛ إذ أكد مسؤولوها أن الحديث عن العودة إلى المفاوضات غير وارد في ضوء المواجهة العسكرية المحتدمة. بينما أشار وزير الخارجية الإيراني إلى أن بلاده مستعدة للعودة إلى المفاوضات والمسار الدبلوماسي في حال توقفت المواجهة العسكرية الجارية.
يجري ذلك كله، في ضوء وعي إيراني بأن ما تتم ممارسته ضدها، إنما يأتي في إطار حملة ضغط تهدف إلى وضع حدود للملفات الخلافية، وعلى رأسها البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي. وفي إطار هذا الوعي، تبذل إيران جهداً واضحاً لإعادة القطار إلى سكة الدبلوماسية، والخروج من المأزق في أسرع وقت ممكن.
السيناريوهات المحتملة
حتى لحظة إعداد هذه الورقة في اليوم الرابع للمواجهة، تؤكد كلٌّ من إيران وإسرائيل أن المواجهة العسكرية الجارية بينهما سوف تمتد لعدة أسابيع مقبلة. وتلوحان بأن المواجهة ستشهد في المراحل اللاحقة تطورات لم يتوقعها أيٌّ من المراقبين. وعلى الجانب الإسرائيلي، قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إن الحرب ستمتد إلى أن تقضي لا على القدرات النووية الإيرانية فحسب، وإنما على أشياء أخرى. وعلى الجانب الإيراني أعلن القائد الأسبق للحرس الثوري محسن رضائي، أن إيران أعدَّت نفسها لحرب تمتد لعدة أسابيع، وأنها ستستخدم فيها أسلحة لم تستخدمها من قبل لقلب المعادلة.
واستناداً إلى الواقع الاقتصادي الذي تعيشه إيران، والذي تعمل الحرب على تفاقمه إلى درجة لا يمكن تحملها، واستناداً إلى الواقع المتزعزع للقوة العسكرية الإيرانية؛ حيث تحول دون إمكان مواصلة هذه المواجهة لمدة طويلة، واستناداً إلى التفوق الذي أظهرته إسرائيل على صعيد التصدي للدفاعات الجوية، والهيمنة على الأجواء الإيرانية، يبدو مرجحاً أن تحاول إيران إيجاد مخرج لإنهاء هذه المواجهة؛ شريطة أن يكون هذا المخرج مشرفاً، ومصحوباً برد إيراني يحفظ لها ماء الوجه.
وتُرجِّح طبيعة المواقف الدولية إلى الآن، استمرار محاولات الوساطة، في ضوء خشية إقليمية من ألا تقتصر المواجهة على إيران وإسرائيل، وأن تطال أطرافاً أخرى، أو تنعكس بشكل سلبي على المسارات الاقتصادية التي أظهرت تأثراً واضحاً بالتصعيد الجاري. هذا في حين أن الخشية من أن تترك هذه المواجهة أثراً سلبياً في الاقتصاد العالمي، من منطلق التأثير على إمدادات الطاقة، أو على مسارات الشحن العالمي؛ ما يدفع الأطراف الدولية نحو محاولة وضع حد لها.
وفي ضوء كل ذلك، سيكون المشهد مفتوحاً أمام عدة سيناريوهات لفض هذه المواجهة:
السيناريو الأول: التوافُق على وقف لإطلاق النار؛ يمكن تصور توافق الأطراف على وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل مقابل عودة إيران إلى مسار المفاوضات، من أجل توافق جديد، قد لا يتضمن هذه المرة البرنامج النووي فحسب بل يمتدّ إلى البرنامج الصاروخي. هذا هو السيناريو الذي تدعو إليه الولايات المتحدة على لسان رئيسها، وتبدو إيران مُستعدة للاستجابة له، كما يعلن وزير خارجيتها. غير أن هذا السيناريو يواجه عقبة إسرائيلية واضحة؛ إذ تعتقد إسرائيل أن المسار الذي بدأته لتحييد البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي، ودفعت له ثمناً كبيراً بدأ يؤتي ثماره، وأن مزيداً من الوقت سيكون كافياً لها لإراحة المجتمع الدولي من هذين الملفين الخلافيين.
السيناريو الثاني: فرض وقف إطلاق النار؛ يمكن تصور فرض وقف لإطلاق النار بين البلدين بقرار أممي تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وذلك تحت وطأة الضغوط التي تمارسها أطراف دولية مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، وأطراف إقليمية مثل قطر وعمان والسعودية. ويصبح مثل هذا السيناريو أكثر احتمالاً في حال كانت الهجمات الإيرانية على إسرائيل مؤذية إلى حدّ يصعب على الولايات المتحدة تجاهله، ولم تتوافر الرغبة لدى الإدارة الأمريكية بالانخراط في الحرب. وحينها سيتحرك هذا السيناريو من منطلق الخشية الدولية والإقليمية من تداعيات هذه المواجهة على الأمن والاقتصاد الإقليمي والدولي، سواء اقتصرت على إيران وإسرائيل أو تجاوزتها لتطال مصالح إقليمية ومسارات الاقتصاد العالمي. ويعزز من احتمالات تحقق السيناريو التأثير السلبي الذي تركته المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية إلى الآن على الاقتصادات الإقليمية، وأسعار النفط والغاز العالمية. لكنّه مع ذلك يظلّ احتمالاً مُستبعداً طالما اعتقدت إسرائيل أنها قادرة على تحقيق أهدافها الموضوعة للحرب في خلال مدة زمنية قصيرة.
السيناريو الثالث: انخفاض وتيرة المواجهة دون توقفها؛ ويفترض ألا تؤدي المحاولات الدولية والإقليمية إلى وضع حد للمواجهة الجارية، أو لا ترتقي إلى مستوى ذلك. ومقابل ذلك، ستنخفض وتيرة المواجهة بين البلدين بمرور الزمن، تحت وطأة الكلفة الاقتصادية التي تضعها على عاتق كل من الاقتصاد الإيراني والاقتصاد الإسرائيلي، وتحت وطأة الخشية من ردة فعل الجانب الآخر. خصوصاً وأن إيران أظهرت أنها تحتفظ بقوة الرد على الهجمات على رغم كل المحاولات الإسرائيلية للقضاء على منصاتها لإطلاق الصواريخ. كما أظهرت أنها تمتلك عتاداً صاروخياً يكفل لها بلوغ أهداف مهمة في إسرائيل، ورفع نسبة النجاح في تجاوز الدفاعات الجوية الإسرائيلية. وفي هذه الحالة، ستكون المواجهة بين البلدين مستمرة، ولكن بوتيرة أقل بكثير من الوتيرة الراهنة في حالة يمكن أن توصف بالحالة "لا حرب، ولا سلام" بانتظار حدوث تغيير سياسي في أحد البلدين، أو كليهما.
ويبقى نظريّاً ثمة احتمال قائم لاستمرار المعركة حتى تحقيق النصر لأحد الجانبين. إذ تؤكد إسرائيل أنها ماضية حتى تحقيق النصر الكامل استناداً إلى تفوقها الجوي الواضح. بينما تعول إيران في إمكانية تحقيق النصر على الحصول على دعم (يصعب الحصول عليه) من بعض الحلفاء. لكنّ سيناريوهات وضع حد للتصعيد الميداني تبدو أكثر احتمالاً حتى الآن؛ على رغم أنها لا تزال تواجه عقبات لافتة من بينها عقبة مَنْ يتوقف أولاً، إذ تلح إيران أن انسحابها من هذه المواجهة ينبغي أن يكون مُشرّفاً، وبعد أن تظهر للمجتمع الدولي أن قدراتها الصاروخية كانت فاعلة إلى درجة توفر لها ردعاً معقولاً. وتبقى الخشية قائمة (وإن باحتمال ضعيف) من أن تتجه إيران نحو مناورة لتعزيز الردع تستند على استخدام قدراتها الصاروخية ضد أهداف غير إسرائيلية، وذلك لإرغام المجتمع الدولي على الضغط على إسرائيل لوقف التصعيد. ونظريّاً على الأقلّ فهذا سلوك معهود من إيران في سياق نظريتها التقليدية لتحقيق الردع عبر ابتزاز الأطراف الإقليمية والممرات البحرية العالمية. وهذا السلوك (إن حدث) من شأنه أن يفتح المواجهة على سيناريوهات من نوع مختلف، تتضمن احتمال توسيع المواجهة الجارية، وتدخل أطراف دولية فيها، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الحلفاء الأوروبيين.
عن "مركز الإمارات للسياسات"