من مسيحيي المطبعة إلى مسلمي الثورة الرقمية

من مسيحيي المطبعة إلى مسلمي الثورة الرقمية

من مسيحيي المطبعة إلى مسلمي الثورة الرقمية


26/12/2023

ما زالت ثنائية العلم والدين، وبالتحديد ثنائية الاكتشافات العلمية والخطاب الديني، ملازمة للتطور الإنساني، وإن كان السائد في أهم سياقاتها يهمّ بالدرجة الأولى المعارك التي جرت بين الكنيسة والمصلحين في أوروبا على الخصوص، لكنّ تبعات تلك المعارك أهمّت بالدرجة الأولى المجال الثقافي المسيحي، أو النصراني حسب الاصطلاح القرآني.

بالنسبة إلى المجال الثقافي الإسلامي، أو المجال الذي يُميّز محور طنجة جاكارتا، لم نعاين القلاقل نفسها التي جرت في الساحة الأوروبية، خاصّة أنّ علوم النهضة العلمية الأوروبية تأسّست في بعض منطلقاتها على ما أنتجته العقول العلمية المسلمة من قبيل ابن سينا وابن النفيس والبيروني وابن الهيثم، واللائحة تطول، ولو كانت جوائز نوبل توزع حينها، لكانت هذه الأسماء بالذات، ومن يدور في فلكها هنا في المنطقة، في مقدمة من يظفر بها، لأنّنا كنا مركز العالم في تلك الاختراعات العلمية.

لا نقيس مصير الخطاب الديني عند مسلمي الثورة الرقمية مع مصير الخطاب الديني عند المسيحيين الذين عاصروا اختراع المطبعة، لأنّ الفوارق كبيرة، لكن ثمّة بعض القواسم المشتركة في التفاعلات والتبعات

 

لكن جرت تطورات أو تحولات حضارية، جعلت الإنتاج العلمي في الرياضيات والفيزياء والطب والكيمياء وعلوم أخرى، يتمركز أكثر في الساحة الأوروبية بداية، قبل انتقاله خلال القرن الماضي على الخصوص نحو مجالات قارية أخرى، من قبيل القارة الأمريكية أو القارة الآسيوية، وتكفي إطلالة بسيطة على جنسيات الفائزين بجوائز نوبل في تلك الحقول العلمية، حتى نتأكّد من هذا المعطى الذي أصبح واقعاً لا يرتفع.

موضوع مقالنا هنا ليس أسباب هذا التحول وتبعاته، بقدر ما نروم تسليط الضوء على تأثير بعض هذه الاكتشافات العلمية على تفاعل وأداء الخطاب الديني، في السياقين؛ المسيحي والإسلامي.

في السياق الأول، جرى منعطف تاريخي انطلاقاً من خمسينيات القرن الـ (15)، عنوانه اختراع الطباعة من طرف المخترع الألماني يوهانس جوتنبرج (1398-1468)، وهو الحدث الذي ساهم في تسريع وتيرة قراءة النصوص الدينية الإصلاحية، وفي مقدمتها الخطاب الديني البروتستانتي، أو قلْ الثورة البروتستانتية، أو الإصلاح اللوثري الذي استهدف إصلاح الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الغربية، بقيادة مارتن لوثر في عام 1517، قبل قدوم أعمال مجموعة من المصلحين من قبيل جون ويكليف (1330-1384) ويان هاس (1369-1415) وأسماء أخرى.

ولا ضير من التذكير بأنّ جون ويكليف أُدين من الكنيسة بعد وفاته، أمّا يان هاس، فكان مصيره الإعدام، ضمن لائحة عريضة من الانتهاكات التي تعرّضت لها هذه الفئة، ووصل الأمر مع الفيلسوف والراهب جوردانو برونو، إلى درجة حرقه حياً، في 17 شباط (فبراير) 1600، وكانت خطيئته أنّه انتقل من الدراسات اللاهوتية إلى الفلسفة، موازاة مع اعتناق نظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض.

ما قامت به المطبعة حينها أنّها ساهمت في نقل خطاب هؤلاء نحو العامّة، لأنّ فئة القرّاء أو المتعلمين كانت نادرة قبل اختراع الطباعة، بل إنّ الكتب كانت تقتصر على الطبقة البورجوازية أو الطبقة المخملية لأنّها كانت غالية.

والحال أنّ الأمر لم يقتصر على نوع معيّن من الكتب، وإنّما وصل إلى طبع الكتب الدينية، ومنها الرؤى الدينية الإصلاحية للأسماء سالفة الذكر، ويُعتبر هذا المنعطف أحد أسباب الإصلاح الديني في السياق المسيحي.

لم تعد المعرفة الدينية بين أيدي رجال الكنيسة وحسب، وإنّما شرعت نسبة من العامّة تنافس رجال الكنيسة في إنتاج الخطاب الديني، ممّا ساهم في توليد تعدّدية دينية بقوة الفعل، أو التأسيس لتعايش أنماط من "الصراطات المستقيمة" بتعبير الإصلاحي الإيراني عبد الكريم سوروش، وإن كان الوصول إلى هذه المحطة قد تطلّب المرور من مآسي "البراكين التراثية" [المسيحية] بتعبير هاشم صالح، أي المرور من مجازر حقيقية وإبادات، لعلّ أشهرها مذبحة سان بارتيليمي التي جرت في 24 آب (أغسطس) 1572، وتُعتبر من بين أسوأ المذابح الدينية في القرن الـ (16).  

ما يتطلّب الكثير من التأمل والتفكّر، تأمّل تفاعل المؤسّسات الدينية مع التحولات المفاهيمية التي تحدثها الثورة الرقمية في ترويج الخطاب الديني، بين مقامي الإنتاج والاستقبال، مروراً عبر محطات التأثير والاستقطاب والدعاية

 

مهمٌ استحضار دروس هذه التجربة التي جرت للخطاب الديني المسيحي مع منعطف اختراع المطبعة، على هامش قراءة تفاعل الخطاب الديني الإسلامي مع منعطف الثورة الرقمية، وقد سبق أن توقفنا منذ أسابيع مضت عند تفاعل أغلب الفاعلين في الحقل الديني مع هذه الثورة، سواء تعلّق الأمر بالفاعلين في المؤسّسات الدينية الرسمية، والمسؤولية إجمالاً عن التوجيه والوعظ والإرشاد (ننصح بقراءة أعمال رضوان السيد في هذا السياق)، أو تفاعل الحركات الإسلامية، وخاصة السياسية، المجسّدة في المشروع الإخواني أو القتالية المجسّدة في الجماعات الجهادية، والأمر نفسه مع تفاعل أهل الخطاب الصوفي.

ما يتطلّب الكثير من التأمل والتفكّر، تأمّل تفاعل المؤسّسات الدينية مع التحولات المفاهيمية التي تحدثها الثورة الرقمية في ترويج الخطاب الديني، بين مقامي الإنتاج والاستقبال، مروراً عبر محطات التأثير والاستقطاب والدعاية، وما جاور العديد من القضايا التي ما زالت في حاجة إلى مواكبة بحثية رصينة، على الأقل من باب التوعية وتسليط الضوء، في حقبة إسلامية ـ عربية نموذجاً ـ مفتوحة على عدة سيناريوهات واحتمالات، أقلّها ما عاينه الجميع إبّان أحداث 2011، ولن تكون آخرها ما جرى منذ منعطف 7 تشرين الأول  (أكتوبر) 2023.

نحن بالكاد في أولى بدايات التفاعل الديني الإسلامي مع الثورة الرقمية، ولن تظهر أولى النتائج المؤثّرة في معالم هذا التفاعل بين ليلة وضحاها، ويحدث هذا تزامناً مع تحولات مجتمعية، محلياً وعالمياً في آنٍ واحد، من قبيل معضلة السيولة في المفاهيم والسلوك كما اشتغل عليها عالم الاجتماع البولندي الراحل زيجمونت باومان (1925ـ2017)، أو معضلة تسليع الإنسان وتفكيكه، كما اشتغلت عليها، على الخصوص، بعض أعمال "مدرسة فرانكفورت"، بما في ذلك تسليع الخطاب الديني نفسه، والإحالة هنا على كتاب "إسلام السوق" للباحث السويسري باتريك هايني.

لم تعد عملية إنتاج الخطاب الديني من مهام المؤسّسات الدينية وحسب، لأنّ هناك مؤسّسات أو مشاريع موازية تقوم بها، وهذا أمر بدهي وقائم منذ قرون وليس اليوم، أي قبل ولادة الدولة الوطنية الحديثة التي أفرزت معها ما يُشبه تقنين أداء المؤسّسات الدينية، من أجل المساهمة في تغذية المخيال الديني للشارع أو العامة، مع فارق أنّ المنافسين اليوم  يساهمون بدورهم في تغذية المخيال نفسه، وهذا ما كرّسته الثورة الرقمية نفسها، لأنّها ساهمت في التسريع من وتيرة تغذية هذا المخيال، وهذه جزئية دقيقة جداً ومفصلية أيضاً.

لا نقيس مصير الخطاب الديني عند مسلمي الثورة الرقمية مع مصير الخطاب الديني عند المسيحيين الذين عاصروا اختراع المطبعة، لأنّ الفوارق كبيرة، لكن ثمّة بعض القواسم المشتركة في التفاعلات والتبعات، وهي القواسم التي تتطلّب الكثير من الكدّ النظري عند صناع القرار والباحثين والمتتبّعين، مساهمة على الأقلّ في صيانة الدولة والدين.

مواضيع ذات صلة:

"ميلاد" غزة يتكلل بالسواد... إسرائيل تحرم المسيحيين فرحة العيد

باحث يروي قصة تدمير الأرمن والمسيحيين في الدولة العثمانية

الجذور التاريخية لـ "عادة البصق اليهودبة" على الرموز المسيحية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية