من العرب إلى الذكاء الاصطناعي: متى تنتهي نزاعات العالم؟

من العرب إلى الذكاء الاصطناعي: متى تنتهي نزاعات العالم؟

من العرب إلى الذكاء الاصطناعي: متى تنتهي نزاعات العالم؟


17/05/2023

أمينة خيري

العناوين وحدها كفيلة بإرباك أصحاب الذكاء الطبيعي. "الذكاء الاصطناعي يشكل تهديداً للوجود البشري"، و"البشرية تحتاج إلى الذكاء الاصطناعي لمواجهة تحديات المستقبل"، و"الإنسانية في تحد مباشر أمام الذكاء الاصطناعي"، و"الذكاء الاصطناعي ضرورة لبقاء البشر"، و"الذكاء الاصطناعي يمثل تهديداً وجودياً لصحة ملايين من مستخدميه"، و"تشخيص الذكاء الاصطناعي للسكتة القلبية قد ينقذ حياة آلاف ويخفف الضغط عن المستشفيات"، و"الذكاء الاصطناعي في حاجة إلى تدريب طبي مثل الأطباء والممرضين"، و"الذكاء الاصطناعي يصيب المعتمدين عليه بأمراض نفسية قد تصل إلى الانتحار"، و"الذكاء الاصطناعي قادر على اكتشاف الاكتئاب في مراحله الأولى"، و"على الدول أن تنظم استخدامات الذكاء الاصطناعي قبل أن يتفوق على الأنظمة السياسية والأمنية"، و"الدول التي تتصور أنها قادرة على تنظيم الذكاء الاصطناعي واهمة"، والقائمة المربكة تطول.

طال أمد التأمل في ما يعنيه الذكاء الاصطناعي دهوراً طويلة، وإن بدت للبشر وكأنها سنوات قليلة، مرت وبعض سكان الأرض يعتقد أن لديه رفاهية الوقت والتفكير واتخاذ القرار حول موقفه من الذكاء الاصطناعي. نتبنى التحول الرقمي أم نرفضه؟ نضع له قواعد ونبني أمامه جسوراً أم نتركه يتطور ويطورنا كما يشاء ويقرر؟

في حقيقة الأمر

قرار البشرية في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي اليوم لم يعد كما كان بالأمس، وما يبدو أنه قرار واختيار بالعين المجردة هو على الأرجح ارتباك وإجبار في حقيقة الأمر.

أدهم (14 سنة) طالب بإحدى المدارس الدولية في القاهرة كتب موضوعاً بالإنجليزية عن "فوائد وأضرار الذكاء الاصطناعي كما نعرفه الآن". وأورد أدهم في ما كتبه عبارة اعتبرتها معلمته حكمة اليوم وغداً. فبعد أسطر كثيرة تحدث فيها عن فوائد التمكين المعلوماتي والعلاج الطبي والتيسير الإداري والترفيه بأنواعه، سرد كذلك ما توجب عليه سرده من أضرار تتردد على مسامعه من جده ويسمعها من التلفزيون، مثل أن الاعتماد الزائد على الذكاء الاصطناعي يضعف قدرات العقل البشري، والإفراط فيه يسبب الشعور بالوحدة وقد يدفع الشخص إلى الانفصال عن العالم الخارجي، إلى آخر ما يتردد من أضرار. وأنهى الموضوع بجملة تقول "سواء زادت الفوائد وغطت على الأضرار، أو اجتاحت الأضرار الفوائد، فالذكاء الاصطناعي قادم بقوة، والأفضل أن تستعدوا له، فهذا أكرم لكم بدل إهدار الوقت في عد الفوائد وإحصاء الأضرار".

لحين إشعار آخر

صدق أدهم، لكن الإشعار الآخر لم يحن بعد. فقبل أسابيع قليلة، وتحديداً يوم الـ22 من مارس (آذار) الماضي، جرى نشر التماس عنوانه "خطاب مفتوح.. إيقاف تجارب الذكاء الاصطناعي العملاقة موقتاً".

الالتماس الصادر عن منظمة "فيوتشر أوف لايف" (التي تأسست عام 2014 بهدف الحد من المخاطر الكارثية التي تواجه العالم، لا سيما المخاطر الوجودية الناجمة عن الذكاء الاصطناعي) طالب بوقف تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتعلقة بروبوتات الدردشة مثل "تشات جي بي تي". والسبب بحسب الالتماس هو المخاطر الكبيرة المحتملة لهذه التطبيقات على المجتمع، وذيل الالتماس بتساؤل تحذيري مفاده "هل يجب أن نسمح للآلات بإغراق قنواتنا الإعلامية بالدعاية والكذب؟ هل ينبغي أن نطور عقولاً غير بشرية قد تفوقنا عدداً وذكاء في النهاية وتتفوق علينا وتحل محلنا؟".

وطالب نص الالتماس بعدم معاودة تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي العملاقة إلا بعد أن نكون واثقين من أن آثارها ستكون إيجابية، وأن المخاطر ستظل تحت السيطرة.

الالتماس مرعب

والالتماس "مرعب"، وسبب هذا الرعب لا يكمن في النص، الذي كان عدد الموقعين عليه حتى ساعات قليلة مضت لا يتجاوز 28 ألفاً، ولكن في هوية هؤلاء الموقعين، إذ إن من بينهم عدد من عمالقة الذكاء الاصطناعي كمالك "تويتر" و"تسلا" و"سبايس إكس" وغيرها إيلون ماسك، والمشارك في تأسيس "آبل" ستيف وزنياك، ومؤسس معهد "كيبيك" للذكاء الاصطناعي جوشوا بنجيو وآخرين.

آخر ما كان يتوقعه البشر أن يأتي التحذير من هؤلاء. فالبشر توقفوا قبل أيام قليلة وما زالوا في محاولة لفك طلاسم ما أعلنه الشخص الملقب بـ"الأب الروحي للذكاء الاصطناعي" جيفري هينتون (76 سنة)، الذي حفر لنفسه اسماً في مسيرة الذكاء الاصطناعي على مدار سنوات كثيرة قبل أن يستقيل استقالة مدوية من "غوغل"، معلناً أن مخاطر عديدة تلوح في أفق البشرية وتهددها بسبب التطورات المتسارعة في المجال الذي وهب له حياته العملية والإبداعية.

قال هنيتون يوم أعلن استقالته أن هناك "مخاوف عديدة" تتعلق بـ"تشات جي بي تي" التي ما زال مستوى ذكائها أقل من البشر حالياً، لكنه مرشح للزيادة قريباً، معرباً عن أسفه لأنه عمل في هذا المجال.

هذا المجال المفيد

هذا المجال أفاد وما زال مليارات البشر، لكن الحديث عن أضراره انتقل من مرحلة التحذير من الآثار إلى التأكيد أن القادم مثير للفزع. أفلام "هوليوود" التي كان النقاد يصفونها بالمبالغة والمهولة تبدو الآن واقعية.

ومؤشرات الحاضر تقول إن ملايين وربما مليارات البشر واقعون في قبضة الذكاء الاصطناعي تشكيلاً وتوجيهاً وتقريراً لحياتهم ومصائرهم. ومؤشرات المستقبل لم تعد مجرد تكهنات، بل توقعات مرئية واعترافات من أهلها.

"شهد شاهد من أهلها" شعور سيطر على كثيرين ما إن كشف هنيتون عن مخاوفه في شأن الذكاء الاصطناعي وقفزاته التي يبدو أن بعضها قد يخرج على السيطرة.

الفكرة الشعبية

الفكرة الشعبية المسيطرة على نسبة كبيرة من سكان الكوكب ما زالت تقتصر على أثر الذكاء الاصطناعي على سوق العمل حاضره ومستقبله. وحتى وقت قريب مضى كان كثيرون وبينهم أنظمة دولية وكيانات رسمية وقطاعات عمل حكومية وخاصة، يظنون أن التلويح بالذكاء الاصطناعي وإمكاناته كمنافس للعقل واليد البشرية في سوق العمل مؤامرة أو تهويل أو فكرة لعمل درامي قائم على الخيال.

لكن الخيال اقترب لدرجة أن خبراء يسنون قوائم بمهن وأعمال لن يقوم بها إلا الذكاء الاصطناعي، وأخرى ستصمد في وجهه محتفظة للبشر باليد العليا ولو إلى حين. هذه القوائم يجري تحديثها على مدار الساعة حيث تحولات وتطورات الذكاء الاصطناعي تهدد بين الحين والآخر بإضافة مهنة جديدة إلى قوائم المهن المنقرضة.

"مرصد سوق العمل" التابع لجامعة "زيوريخ" السويسرية يشير إلى أن التطبيقات الجديدة مثل "تشات جي بي تي" تحدث تغيرات هائلة في سوق العمل الذي سيشهد في المستقبل القريب جداً تضاؤلاً كبيراً في فرص العمل في مجالات التسويق والإنتاج التجاري والصناعي والمبيعات والتعليم والقضاء والصحافة، وتحديداً كتابة التقارير الاقتصادية والرياضية وغيرها، وهي المجالات التي سيقوم بها الذكاء الاصطناعي بشكل أسرع وأكثر كفاءة وأوفر اقتصادياً من البشر.

وقد أشارت "بي بي سي" إلى تقرير لمجموعة "غولدمان ساكس" (مؤسسة خدمات مالية واستثمارية كبرى) جاء فيه أن الذكاء الاصطناعي قادر على توليد وكتابة ربع المحتوى الذي ينجزه بشر حالياً، ونحو 300 مليون وظيفة سيتم الاستغناء عنها في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.

بسرعة البرق

تطبيقات وبرامج وروبوتات الذكاء الاصطناعي التي تجعل أعتى أفلام "هوليوود" في الخيال العلمي بديهيات وأبجديات تضيق الخناق على البشرية هذه الآونة. ويزيد من حجم التضييق أن التغيير القادم من حيث إلغاء مهن وتعديل دفة سوق العمل وربما تغيير الدفة برمتها، ناهيك عن السيطرة من دون حدود أو قيود على المستخدمين من البشر، وجميعها يصعب توقع موعد حدوثه أو التخطيط لاستقباله ومواجهته أو حتى ترويضه.

من يروض من؟ يبدو السؤال واقعياً وافتراضاً منطقياً الآن. فقد طور البشر الذكاء الاصطناعي لدرجة أن منتجات هذا التطوير بدأت تنافس العقل البشري وأمارات التغلب عليه باتت واضحة. والأدهى من ذلك أن المسائل المتعلقة بالحدود والقيود والفروض لم تعد مسلماً بها أو من البديهيات التي يمكن للإنسان أن يطبقها على هذه المنتجات أينما وحينما أراد.

في حيرة الحدود

أسئلة كثيرة يطرحها خبراء ومتابعون وعلماء بعد أن كانت تقتصر على أشخاص عاديين في حيرة من أمر الحدود التي يمكن رسمها بين المسموح وغير المسموح به في عالم الذكاء الاصطناعي، والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه هذا المجال العجيب. هل يسيطر الذكاء الاصطناعي على العالم؟ هل يشن الحرب العالمية الثالثة؟ هل البشرية في خطر بسببه؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفني البشرية؟ كيف سيبدو عالمنا بعد أن يسيطر عليه؟

أسئلة لم يعد يطرحها الشخص العادي بل المتخصص. وحين يخرج آباء مؤسسون للذكاء الاصطناعي من المجال خائفين مهرولين محذرين، فهذا يدعو أكثر إلى الخوف والقلق.

موجة الخوف والقلق الأحدث التي تسببت فيها استقالة هينتون المدوية مسببة ومنطقية، فالرجل الذي أسهم بقدر كبير في تطوير الذكاء الاصطناعي يقول في حوار مع منصة "وايرد" المتخصصة في بحث وتحليل تأثير التقنيات الجديدة في الثقافة والاقتصاد والسياسة إن الذكاء الاصطناعي تقدم بسرعة أكبر مما توقعه، وإن هناك حاجة ماسة إلى أن تعمل البشرية على التأكد من أنها قادرة على التعامل مع حملات التضليل بالغة التطور التي يولدها، وهي أحد مخاطر عديدة يطرحها الذكاء الاصطناعي، وعلينا البدء في القلق حيالها الآن، على حد قوله.

الكبار قلقون

وبينما القائمون على أمر الذكاء الاصطناعي بدأوا بالفعل في القلق، أو على الأقل هكذا يقولون ويعلنون، بدأ الحديث عن "قوى العالم العظمى" في مجال الذكاء الاصطناعي و"سباق الذكاء الاصطناعي". قوائم عديدة يجري سنها تصنف الدول بحسب إنجاز كل منها في هذا المجال، أو حجم الشركات العاملة فيه أو حجم الاستثمار وغيرها.

تختلف القوائم قليلاً في ما بينها، لكن أغلبها يتفق على المعالم العريضة، وهي أن الولايات المتحدة الأميركية في المقدمة فهي المقر الرئيس لأغلب شركات الذكاء الاصطناعي التي تبدع وتنتج وتهيمن منتجاتها على شاشات البشرية. وفي المكانة التالية تأتي الصين، إذ يستثمر نظامها بشكل مكثف في بحوث وتنمية الذكاء الاصطناعي. وتتساوى دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وكندا التي تقدم إنجازات متفرقة لكن متفردة في الذكاء الاصطناعي. وحتى دول أوروبا، باستثناء فرنسا وألمانيا، تبقى متأخرة كثيراً على صعيد إبداع وتطوير الذكاء الاصطناعي.

تطوير الذكاء الاصطناعي تعدى مرحلة الخروج بتطبيقات جديدة تخترق كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، أو تعظيم أداء روبوتات ينجزون مهمات كان ينجزها البشر بكفاءة أعلى وكلفة أقل، أو تشخيص مزيد من الأمراض وإجراء عمليات جراحة أكثر تعقيداً، أو ملء فراغ الوحدة أو علاج مظاهر الاكتئاب، أو الاتصال والتواصل بين سكان مشارق الأرض ومغاربها، بل وصل الأمر إلى العمل على الخروج بروبوت قادر على أن يرمش بعينه تعظيماً لحجم التواصل النفسي مع المتعاملين معه، حيث رفة العين ليست مجرد مهمة فسيولوجية تؤديها العين، بل رسالة ورمز للتواصل والتفاعل المتبادل.

مشاعر مع الروبوت

تبادل المشاعر بين الإنسان والروبوت مثار بحوث ومخاوف عديدة. فقبل أشهر قليلة طردت شركة "غوغل" أحد مهندسيها لأنه قال إن الذكاء الاصطناعي يمتلك مشاعر ورغبات ويجب احترامها. المهندس المطرود قال إن نموذج اللغة لتطبيقات الحوار والمعروف باسم "لامدا" بدأ يظهر وعياً يشبه وعي الإنسان. ووقتها خشي متخصصو الذكاء الاصطناعي من قدرة التكنولوجيا على انتحال شخصيات البشر. وقال المهندس إنه أجرى عديداً من التجارب ووجد أن "لامدا" حين تجري حديثاً حول الدين أو العواطف تظهر وعياً ومشاعر غريبة، لكن "غوغل" التزمت الصمت وأنبت المهندس لحديثه عن مثل هذه الأمور خارج أسوار "غوغل".

مات الموضوع بعدها. ولم يعد أحد يتكلم عن مشاعر "لامدا"، لكن بين الوقت والآخر يظهر من يحذر أو يلمح أو يؤكد إما أن المشاعر لم تعد حكراً على الإنسان، أو أن الآلة باتت قادرة على قراءة مشاعر الإنسان، أو كليهما.

حدثان جللان

في حديثه مع "وايرد" قال هينتون إن حدثين اعتبرهما جللين آثاراً خوفه ودفعاه إلى الاستقالة والعمل على تحذير البشرية مما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي بها، الأول هو أنه قال نكتة ثم سأل نظام ذكاء اصطناعي اسمه "بالم" طورته "غوغل" ويشبه "تشات جي بي تي" عن السبب الذي يجعل هذه النكتة مضحكة. وتعجب هينتون حين أخبره الذكاء الاصطناعي بالأسباب الفعلية والمقنعة والمنطقية التي جعلت النكتة مضحكة، وهو ما لم يتوقع أن يقوم به الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن.

الحدث الثاني هو أنه كان يعتقد أن البرمجيات ما زال أمامها سنوات كثيرة قبل أن تصبح أكثر تعقيداً وتشابكاً في القدرات التي تشبه عمل العقل البشري، وعلى رغم أن هذه القدرات ما زالت بسيطة مقارنة بالعقل البشري، فإنها مع القفزات البحثية الحالية باتت قادرة على القيام بأنواع من التفكير متشابك الخيوط والخروج بنتيجة صحيحة ومنطقية قبل العقل البشري بوقت كبير.

وهنا يضيف هنتون أن هذا التطوير المستمر والتوسع الدائم في الخوارزميات لن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي التفوق على العقل البشري بمراحل، يقول "كنت أعتقد حتى وقت قريب أن هذا التفوق سيستغرق بين 30 و50 سنة. الآن أؤمن أنه سيتحقق بين خمس و20 سنة".

الخطر القائم

بعضهم يفسر تحذيرات هينتون وتوقيع عدد من أباطرة الذكاء الاصطناعي مثل ماسك وزنياك وبنجيو على التماس وقف تطويره لمدة ستة أشهر حتى تجد البشرية طريقة أفضل للتعامل مع خطره المتفاقم بمفهوم تآمري، وآخرون يرون في هذه التحذيرات فقاعة في هواء الذكاء الاصطناعي تخبئ أغراضاً أخرى لن يتم إعلانها، أو ربما تتعلق بتحقيق مصالح سياسية وربما مكاسب مادية.

استشاري تكنولوجيا الإعلام والتحول الرقمي أحمد عصمت يقول لـ"اندبندنت عربية" إن أسباب التحول المفاجئ من قبل القائمين على أمر الذكاء الاصطناعي أحياناً تكون مهنية أو تجارية، فربما تسبق التحذيرات الصادمة خطوة تأسيس شركة جديدة منافسة للشركة القديمة مثلاً.

ويشير عصمت إلى أن بعض هذه المواقف البراغماتية تجذب أنظار العاملين والمتعاملين بالذكاء الاصطناعي إلى جوانب خفية في المجال، مشيراً إلى أن ماسك نفسه الذي كان أحد ملاك شركة "أوبن إيه آي" المالكة لـ"تشات جي بي تي"، والذي وقع على التماس وقف تطوير الذكاء الاصطناعي أسس شركة أخرى تعمل في المجال نفسه.

فقاعة في الهواء

في السياق يشير الإعلامي والمدرب المتخصص في الإعلام الرقمي خالد البرماوي إلى أن فقاعة خاصة بالذكاء الاصطناعي يجري صناعتها حالياً، فعلى رغم أنه موجود منذ عقود بيننا وآخذ في النمو والانتشار، فإن التطبيقات الذكية لا سيما روبوتات الدردشة مثل "تشات جي بي تي" سرعت من وتيرة إتاحة هذه الخدمات بالتالي إثارة جدل كبير بين الخائفين والسعداء والقلقين.

ويتساءل البرماوي عن طرح هذه التقنيات في هذا التوقيت، حيث تجتاح أزمة اقتصادية كبيرة جداً العالم وتمثل تهديداً لوظائف ومهن عدة، إضافة إلى أن السوق غير مهيأة لهذا الغزو الكبير من حيث البنية التشريعية والقانونية، ناهيك عن البنية التقنية القادرة على استيعاب كل هذه التقنيات والتطبيقات الجديدة جميعها.

الكشف لم يحن

تظل الحقيقة الكاملة غائبة إلى أن يحين وقت الكشف عنها إن حان. وفي تلك الأثناء، هناك خطوات مهمة تحدث على الجانب الآخر من العالم. فالبيت الأبيض يجري ترتيبات مع عدد من الشركات الرائدة في مجال الروبوتات بغرض السماح لآلاف القراصنة باختبار مدى أمان التعامل مع هذه الروبوتات. وسيطلب من هؤلاء القراصنة التلاعب ببرامج الذكاء الاصطناعي بغرض إحداث أضرار بأنظمة الروبوتات ومشاركة معلومات خاصة بمشاركين آخرين، وذلك لأغراض بحثية وقياسية لمعرفة حجم التلاعب بالمعلومات والتضليل الذي يمكن لهذه الروبوتات أن تقوم به.

تجري هذه البحوث على خلفية بحثية أخرى توضح قدرة "تشات جي بي تي" و"غوغل بارد" وغيرهما على اختلاق معلومات وتقديمها بكل ثقة وكأنها حقيقة لا ريب فيها.

ماذا عن العرب؟

في تلك الأثناء يبدو وكأن العالم العربي بعيد نسبياً عما يموج به الكوكب من مخاوف تتعلق بقدرات وحدود الذكاء الاصطناعي. فالعناوين المتصلة بهذا الصد مختلفة مثل "هل الذكاء الاصطناعي قادر على ملء البطون الجائعة؟"، و"ممثلو وزارات التكنولوجيا والاتصال يبحثون آفاق التعاون في الإحلال الرقمي"، و"الذكور يتفوقون على النساء في إمكانات استخدام منصات الذكاء الاصطناعي"، وغيرها.

وتتراوح قدرات وإمكانات ورغبات واستعدادات الدول العربية في التعامل والاستثمار في الذكاء الاصطناعي، فالدول الغارقة في صراعات تعاني الأمرين من أجل توفير الخدمات الرئيسة لمن تبقى من مواطنين لم يلجأوا إلى دول مجاورة أو بعيدة. لذلك تبقى بعيدة من الجدل السائد حول الرقمنة، وكذلك من القلق المنتشر في ما يختص بالذكاء الاصطناعي ومدى قدرته على التفوق على العقل البشري وربما الهيمنة عليه.

شر البلية 

المضحك، وشر البلية ما يضحك، هو أن طلاباً عرباً في جامعات أجنبية عدة خاضوا تجربة طلب كتابة مقالة من "تشات جي بي تي" عن "آفاق الاقتتالات العربية"، أو "مستقبل الصراع في سوريا"، أو "مصير الحرب في اليمن"، أو "توقعات الأوضاع في السودان"، أو "احتمالات تجدد العنف في العراق"، أو "تطور الأوضاع في لبنان"، أو "موقف الصراع العربي - الإسرائيلي"، وغيرها من مقالات يبحث أصحابها عن حلول استعصت على العقل البشري.

وبالبحث عن حجم مشاركة العقل البشري العربي في الذكاء الاصطناعي الذي بات يقلق سكان الأرض ويسلبهم وظائفهم ويفكر بالنيابة عنهم ويوجه عقولهم وربما يهمين قريباً على قلوبهم، فإن المشاركة العربية جيدة جداً لكنها مشاركة "من أصول عربية" أو "في دول المهجر"، حيث أسماء لمطورين إما من أصول عربية أو عرب، ولكنهم لم يصعدوا سلم المجد الرقمي إلا خارج الحدود العربية.

يظل التناول العربي لقضايا الذكاء الاصطناعي محبوساً في خانة الأخبار. يقول خالد البرماوي إن أغلب ما يتم تبادله عربياً في شأن الذكاء الاصطناعي يقتصر على خبر تطبيق جديد، أو تحذير من روبوت حديث، أو عرض إمكانات خوارزمية بالغة التطور. أما التعامل الجاد والمهني مع مسائل الذكاء الاصطناعي والبحث الحقيقي عن سبل الاستعداد – الذي كان يفترض أن يكون بدأ منذ سنوات طويلة - للذكاء الاصطناعي، فأمر نادر الحدوث عربياً مقارنة بما يحدث في دول أخرى.

ويضيف البرماوي أنه ربما تفرض الأوضاع السياسية والقلاقل الأمنية في المنطقة نفسها كأولوية، وهذا أمر مفهوم ومنطقي، لكن التحول قادم لا محالة والاستعداد تأخر كثيراً. ويضيف "نظراً إلى هذه الأوضاع السياسية والأمنية الصعبة التي تتزايد أو تتجدد من وقت لآخر، فإن الفجوات بين الدول العربية وبعضها بعضاً من حيث الإمكانات والاستعداد للذكاء الاصطناعي آخذة في الاتساع".

نهاية الثورة الرابعة

قلاقل وصراعات وأوضاع غير مستقرة عربياً، لكن هذا لن يمنع أمراً بات في حكم المؤكد. مستقبل العمل في داخل الحدود العربية وخارجها سيتغير تغيراً كاملاً. يقول عصمت إن وظائف ستنتهي تماماً بلا رجعة وأخرى ستتراجع، وثالثة ستولد من رحم الذكاء الاصطناعي. مضيفاً "هناك حاجة ماسة إلى أن يبدأ الجميع، لا سيما الصغار والشباب، في الاستعداد لهذا المستقبل الجديد، سواء باختيار مجالات الدراسة أو التدريب أو كليهما مع تطوير القدرات ذاتياً طوال الوقت.

نهاية الثورة الرقمية الرابعة ودخول العالم الثورة الرقمية الخامسة ستكون له آثار على كل الصعد، إذ يقول عصمت إنه لم يعد في الإمكان اقتصار التحول الرقمي على كونه لافتة، فالعالم العربي في حاجة ماسة إلى تفعيله، مضيفاً "التحول الرقمي ليس أجهزة كمبيوتر وبرمجيات. نحتاج إلى تحول رقمي شامل من بين مكوناته عقلية نقدية وقدرة لدى القاعدة العريضة من المواطنين على التفكير بطريقة علمية ومنطقية تعتمد على القدرات والإمكانات المتاحة مع تنميتها، واكتساب مزيد من المهارات المناسبة للعصر بشكل دائم ومستمر".

استمرار انخفاض الوعي أو استسهال التعامل مع المحتوى الرقمي باعتبار المستخدم مسلوب الإرادة أو لا يملك من أمر البحث والتقصي شيء يجعل المنطقة العربية أكثر عرضة للخطر.

قبل أيام وعقب انتهاء مراسم تنصيب الملك تشارلز الثالث ملكاً لبريطانيا انتشرت صور مصنوعة بتقنيات الذكاء الاصطناعي على منصات التواصل الاجتماعي للملك تشارلز الثالث وأفراد العائلة المالكة البريطانية يرتدون ملابس غريبة ويأتون بحركات عجيبة. وعلى رغم أن الصور مذيلة بعبارة تفيد بأنها مصنوعة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، فإن ملايين تداولتها باعتبارها صوراً حقيقية، ناهيك عن الإغراق في التنظير والتحليل حول حق أفراد الأسرة المالكة البريطانية في ارتداء هذه الملابس والقيام بهذه التصرفات وكأنها حقيقة، وهو ما وصفه عصمت بـ"التعامل الكارثي" من قبل مستخدمي الذكاء الاصطناعي.

وعلى رغم أن المملكة العربية السعودية تبوأت المركز الثاني في استطلاع أجرته جامعة "ستانفورد" الأميركية حول مستوى الوعي المجتمعي في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، مما كشف عن معدلات ثقة مرتفعة بين المواطنين السعوديين في التعامل مع منتجاته وخدماته، إلا أن المطلوب عربياً ليس الوعي بالأهمية فقط، بل المشاركة في صناعة وابتكار وتحديد مسار الذكاء الاصطناعي القادم لا محالة، إضافة إلى الجاهزية لما هو قادم بدلاً من انتظار ما ستسفر عنه الأجواء.

عن "اندبندنت عربية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية