ملامح أوّلية للحالة الفلسطينية بعد الحرب

ملامح أوّلية للحالة الفلسطينية بعد الحرب

ملامح أوّلية للحالة الفلسطينية بعد الحرب


30/11/2023

عبدالمجيد سويلم

لا أظنّ أنّ أحداً من المفكّرين والكتّاب والسياسيّين، ولا حتى القوى والفصائل والمنظمات من باستطاعته أن يذهب إلى ما هو أبعد من الملامح الأوّلية في قراءة المشهد الفلسطيني لمرحلة ما بعد الحرب، ولا أظنّ، أيضاً، أنّ مثل هذه القراءة مطلوبة وضرورية على الفور بالرغم من أهمّيتها القصوى عندما تنجلي بعض الحقائق والوقائع، وعندما تتوفّر بعض الظروف والمعطيات، وعندما تتكشّف الإمكانيات والقدرات، وخصوصاً ما ستحدثه هذه الحرب من تأثيرات وتغيّرات ومتغيّرات في البنى الفكرية والتنظيمية والسياسية في الواقع الفلسطيني.

فهناك أوّلاً، وقبل كلّ شيء مخاض عميق، وتفاعلات وإرهاصات ما زالت برسم النتائج الحسّية الملموسة لنتائج هذه الحرب، بحيث إنّ الاتجاهات التي ستأخذها نتائج هذا المخاض، وتبعات تلك التفاعلات والإرهاصات ما زالت تحتمل الوجهة «السلبية» والوجهة «الإيجابية» قياساً بالمبتغى والمحبّذ من زاوية المصالح الوطنية، بالرغم من أنّ وجهتها الإيجابية أعلى وأكبر.

وهناك ثانياً، التوازن الدولي والإقليمي الذي «يطمح»، كلّ من زاويته، ومن وحي مصالحه، ومن شبكة علاقاته وتحالفاته أن «يثمّر» في نتائج الحرب نحو تلك المصالح، من على قاعدة توطيد وتكريس تحالفاته لفرض رؤاه وخططه وأجنداته على الواقع الجديد.

وثالثاً، هناك ما يكفي من الاعتبارات «الإسرائيلية» التي ستفرض نفسها على جميع الأطراف، وذلك حسب قدرة العوامل الإسرائيلية على التأثير في المعادلة الجديدة في ضوء درجة الضعف الذي وصلت إليه دولة الاحتلال أو درجة إعادة استجماع قوّتها طبقاً للنتائج التي ستتكرّس مع نهاية هذه الحرب.

وأمّا رابعاً، وأخيراً وليس آخراً، فإنّ كلّ هذه المسائل الثلاث، وبما تنطوي عليه من قدرٍ كبير، وربما هائل لن يكون «بمقدورها» أن تصبح حاسمة، ولا حتى مقرّرة (إلّا) في ضوء قدرة ونجاح الشعب الفلسطيني في إعادة بناء الذات الوطنية، أو فشله في هذه المهمّة التاريخية التي باتت موضوعياً على رأس أولويات هذا الشعب، وذلك لأنّ العامل الحاسم والمقرّر في قياس كلّ الأدوار الدولية، والعربية والإقليمية، ودرجة تفاعلها وتأثيرها واستجابتها سيظلّ محكوما بالعامل الفلسطيني، ودرجة نُضجه، وبرامج إنضاجه لدرءِ الأخطار في حال كانت نتائج الحرب فيها، أو تحمل، أو تحتمل مثل هذه الأخطار، أو تنطوي على وقائع سلبية جرّاء هذه الحرب، أو للاستثمار السياسي الفعّال نحو تحقيق الأهداف الوطنية في حال انطوت هذه الحرب على نتائج إيجابية مهمّة وكبيرة لصالح شعبنا كما نتوقّع.

قراءة الملامح الأوّلية للحالة الفلسطينية ما بعد الحرب تستدعي وتستلزم تقييماً استقرائيّاً، واستنباطيّاً على حدّ سواء.

هُزمت إسرائيل حتى الآن في أربعة مجالات حيوية:

فقد هُزمت عسكرياً وأمنياً بصورةٍ مدوّية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل.

وهُزمت في مجال تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، سواء تعلّق الأمر بالتهجير إلى الخارج، أو «بتدمير» حركة حماس، أو كسرها، أو حتى إضعاف قدرتها العسكرية.
وهُزمت إسرائيل في مسألة استعادة الردع، وتحوّل هذا «الردع» إلى معادلةٍ جديدة من الردع المقابل، ليس من حيث توازن القوّة، أو توازن الردع، وإنّما من حيث إنّ الردع الإسرائيلي أصبح مكلفاً للغاية، ولم يعد حاسماً، وأصبح بالإمكان فشله في فرض الشروط والوقائع، وبات مشروطاً بالدعم «الغربي» الكامل، وبالتالي أصبح محدوداً بحدود هذا الدعم، ولم يعد مدعوماً بالجبهة الداخلية المعهودة، ولم يعد هذا الردع مانعاً أو سبباً لتجميد الصراعات الداخلية، أو مَهرباً كافياً من هذه الصراعات.
وهُزمت إسرائيل هزيمةً أخلاقية مدوّية، وخسرت معركة الإعلام، وانكسرت مراهناتها في الحرب على الصورة، واندحرت أمام فلسطين على مستوى الرأي العام، وتعمّق عداء الشعوب لسياساتها، وتجذّرت مواقف هذه الشعوب بصورةٍ عميقة، وغير مسبوقة، وصولاً إلى أسئلة «الشرعية» التي كانت خارج إطار التفكير والتداول السياسي حتى وقتٍ قريب، وباتت إسرائيل حِملاً أخلاقياً ثقيلاً على أوساط متزايدة من «الرسميّات الغربية»، ومن دوائر كثيرة داخل، ومن حول هذه «الرسميات».
فهل كانت هذه الأهداف الإسرائيلية المعلنة مجرّد غطاءٍ لحرب الإبادة على القطاع، وأنّ نيّتها الحقيقية كانت هذه الإبادة والتدمير، لكي «تكتفي» بها وبه، بعد أن بات الاستمرار بالحرب أكثر صعوبةً، وأكبر كلفةً، وبات مشروطاً من قبل «الغرب»، ومن قبل العرب، وخوفاً من تفاقم أزماتها أكثر ممّا هي عليه، وأخطر عليها ممّا كانت عليه هذه الحرب؟

إذا كانت كذلك، أو إذا أصبحت كذلك بصرف النظر عن النوايا الخاصّة لإسرائيل حيالها، فإنّ الهُدَن ستستمر، وإنّ الوضع الإنساني أصبح ضاغطاً، وإنّ الحرب المفتوحة أصبحت ممنوعة، والزمن بات محدوداً، والمزيد من الإبادة والتدمير بات مرفوضاً، وهذه العوامل والمعطيات كلّها هي التي حوّلت خطاب الولايات المتحدة الأميركية من «الممرّات الإنسانية» أثناء العمليات، إلى الهُدَن المتتالية، وأخيراً الحديث عن وقف إطلاق نار، وعن وقف دائم، والدخول في البحث عن حلول سياسية.
بكلّ هذه المعاني فقد خسرت فلسطين عشرات الآلاف من الضحايا، وخسرت مئات الآلاف من البيوت، وفقدت معظم ما كان من بنى تحتية، ولكنها ــ أي فلسطين ــ صمدت، ولم تُهزَم، ولم تنكسِر أمام حرب عالمية ضارية شُنّت ضدّها، ولم تستطع دولة الاحتلال أن تنتصر بكلّ قوتها، وبكلّ الدعم الذي حصلت عليه، وبكلّ ما أُعطيَ لها من غطاءٍ ومن وقتٍ ومن أسلحة.

لا أُسمّي هذا الواقع الجديد بمعادلة «لا غالب، ولا مغلوب» وإنّما هي ــ كما أرى ــ عجز القوي عن الانتصار، ونجاح الضعيف في الصمود ودرءِ الانكسار، وذلك لأنّ فلسطين في هذه الحالة قد غَلَبت وإسرائيل مغلوبة.

وإذا كان هذا الاستقراء صحيحاً، وأظنّه صحيحا، فإنّ الاستنباط الأهمّ فيما يتعلّق بالحالة الوطنية والسياسية في فلسطين بعد هذه الحرب يتمثل في الوقائع، وربما الحقائق التالية:

1ـــ إذا كانت حركة حماس تتمتّع ببعض الشرعية «الثورية» من خلال مشروعها الخاص بالمقاومة، ولكنها بدأت تفقد بعضاً، وأحياناً كثيراً من هذه الشرعية، حتى جاء يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل لتستعيد «حماس» مرّة أخرى كامل هذه الشرعية، وربما أكثر، ويضعها ــ أي «حماس» ــ في صُلب المعادلة الوطنية الشاملة، وهو ما سيفرض عليها من اليوم فصاعداً الانخراط الكامل في المؤسّسات الوطنية الجامعة، وفي صُلب البرنامج الوطني، بعد أن تجاوزت موضوعياً حالة «التنافس» على أدوار «الموازاة» و»المزاحمة» على التمثيل، وبعد أن بات هذا الانخراط شرطاً لإعادة تموضعها في الإطار الوطني، وضرورة لاستثمار ما أنجزته في هذه الحرب، وبعد أن أصبحت مُلزمة بالمعادلة الوطنية الكلّية بدلاً من المشروع الخاص، وبدلاً من «مشروع الإمارة»، وهذا الطريق هو طريقها إلى حمايتها، وإلى شرعية دورها بكافّة المعاني، الوطنية والإقليمية، وحتى الدولية.

وبما أنّه سيستحيل عليها هذا الانخراط دون الدخول في منظمة التحرير الفلسطينية، وبما أنّ هذا الدخول لن يكون ممكناً دون أن تكون المنظمة قد أُعيد بناؤها وإصلاحها، ودون أن تُصبح فاعلةً ومؤثّرة، فإنّ الطريق بات واضحاً الآن بأنّ على حركة فتح أن تكيّف نفسها مع القادم الجديد، ومع القادمين الجُدد، وأن تتخلّى عن كلّ «ديكورات» الفصائل الصغيرة، وأن تُعيد بناء «التحالف الوطني» على أُسس جبهوية فعّالة من الشراكة الوطنية المؤسّسة على أعلى درجات التوافق، دون التضحية بأيّ قوى أو فصائل، وعلى أعلى درجات الديمقراطية والانتخابات الدورية حيث يجب، وحيث يمكن.

انتهت مرحلة «الكوتات» التي تفعل فعل «الديكتاتورية»، وانتهت مرحلة «القيادات الوحيدة والفريدة والمتفرّدة»، وانتهت إلى غير رجعة «قيادات الصدفة»،

و»قيادات الولاء»، وانتهى عهد «قيادات البراشوت»، وعاد، وسيعود الشعب الفلسطيني ليقرّر بنفسه طريقه، واختيار قياداته، بمحضِ إرادته.

لم تعد إسرائيل بقادرة على العبث في الوضع الفلسطيني كما كانت تفعل في مرحلة الانقسام، أو لنقل مؤقّتاً إنها ــ أي إسرائيل ــ لم تعد قادرة بالقدر الذي كانت عليه.
ولأنّ الحرب على القطاع ليست هي الحرب الأصلية لإسرائيل، ولا حتى للولايات المتحدة، ولأنّ هذه الحرب الأصلية على الضفة الغربية والقدس، فإنّ هذه الحرب بالذات هي الحرب القادمة ميدانياً وسياسياً، وأنّ كل من لا يفهم متطلبات هذه الحرب سينتهي به الأمر إلى الخسارة الكبرى، وينطبق هذا الأمر على حركتي حماس وفتح على حدّ سواء، وما بينهما.

أعداء هذه المعادلة الوطنية كُثر، وهم سيحاولون الإعاقة، وربما سيحاولون التخريب، وأعداء وحدة الفلسطينيين في الإقليم، وفي العالم كُثر، أيضاً، ولذلك فإنّ معركة انتصار هذه المعادلة بالذات هي الحرب الحقيقية القادمة، والتي سيكون الانتصار فيها هو الانتصار الأكبر والأهمّ منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، وهو عمر النكبة.
في مقالاتٍ قادمة سنحاول الاستطراد والتفصيل.

عن "الأيام"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية