مقهى ريش وعبقرية المكان... من هنا مرّ هؤلاء

مقهى ريش وعبقرية المكان... من هنا مرّ هؤلاء

مقهى ريش وعبقرية المكان... من هنا مرّ هؤلاء


28/02/2024

على أنقاض قصر محمد علي بالقاهرة تأسّس مقهى (ريش) في عام 1908 أسفل إحدى البنايات العريقة التي صممت على الطراز الأوروبي في الربع الأخير من القرن الـ (19)، وأتاح له موقعه الفريد في ميدان طلعت حرب (سليمان باشا سابقاً) في قلب القاهرة الخديوية وقرب ميدان التحرير أن يصبح شاهداً على تاريخ مصر في فترات شديدة الأهمية، وقبلة للمثقفين والسياسيين منذ أوائل القرن الـ (20)، ليشهد أهم الأحداث التاريخية في مصر على مدار أكثر من قرن من الزمان؛ بداية من تبلور الحركة الوطنية بجهود مصطفى كامل ومحمد فريد، التي انفجرت في وجه المستعمر البريطاني عام 1919، مروراً بالحقبة الليبرالية والصراعات الحزبية التي انتهت بثورة تمّوز (يوليو) 1952، وصولاً إلى ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011.

شيد هذا المقهى رجل ألماني الأصل، وباعه عام 1914 إلى هنري بيير، وهو أحد الرعايا الفرنسيين، الذي أعطى له اسم (ريش)؛ ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس التي ما زالت قائمة حتى اليوم، وتُسمّى (كافيه ريش). وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى 1918 اشتراه (ميشيل بوليدس)، وهو أحد أشهر التجار اليونانيين بالقاهرة، والذي ساهم بدوره في إضفاء الطابع الثقافي على المقهى، فأجرى فيه بعض التوسعات التي شملت مسرحاً "تياترو"، وركناً للموسيقى. حتى امتلكه مجدي ميخائيل، أول مالك مصري له، والذي توفي في أيّار (مايو) من عام 2015.

شاهد على كواليس الأحداث التاريخية في مصر

يذكر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه (تاريخ مصر القومي) أنّ المقهى كان مكاناً سرّياً يجتمع فيه الثوار، ومنه خرجت إلى النور منظمة اليد السوداء في كانون الأول (ديسمبر) 1919، بهدف التخلص من عميل الاستعمار يوسف وهبة باشا.

ويتبين لنا من خلال وصف الرافعي لهذا المكان أنّه كان ملتقى للحركات التحررية والتنظيمات الثورية، في تلك اللحظة التاريخية التي اشتدت فيها روح المقاومة  ضدّ الاحتلال الإنجليزي، والتي جاءت بدورها لتحمل على عاتقها مهمة تخليص البلاد من سطوة الاحتلال والقوى المتواطئة معه. ويستطرد في وصفه لتفاصيل هذا المكان، حيث صنف رواده طبقياّ بقوله: هم من "الأفندية من الطبقة الوسطى".

المؤرخ عبد الرحمن الرافعي

أمّا ما اكتشف لاحقاً من خبايا هذا المكان، والذي  يوثق دوره أثناء تلك الفترة من تاريخ النضال المصري ضدّ الاستعمار، فهو ما أفضى إليه زلزال عام 1992، عندما بدأت عملية الترميم عقب ظهور شروخ أصابت المقهى، وتمّ اكتشاف دهليز صغير يؤدي إلى مخزن قديم، وجدت به براميل كحول فارغة، وماكينة طباعة يدوية، تدل على أنّ المنشورات والبيانات السياسية كانت تطبع في سرداب بالمقهى؛ كوسيلة للحشد وإذكاء الروح الوطنية في عام 1919.

وفي منتصف القرن الـ (20) كان المقهى مقرّاً للاجتماعات التمهيدية لجمال عبد الناصر ورفاقه للتخطيط لثورة 1952. وفي ستينيات القرن الفائت كان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يرتاد المقهى، ومعه بعض اللاجئين العراقيين، حين كان يدرس في مصر. وقبلهم كان قحطان الشعبي، أول رئيس للجمهورية اليمنية عام 1967، يرتاد المقهى وكذلك رابع رئيس لليمن عبد الفتاح إسماعيل. 

وأيضاً كان الروسي يفغيني بريماكوف من رواد المقهى، ويلتقي فيه المثقفين والسياسيين المصريين والروس، ليصبح بعدها وزيراً للخارجية ثم رئيساً للوزراء.

 أمّا في ثورتي 25 كانون الثاني (يناير) 2011  و30  حزيران (يونيو) 2013 ، فقد تكرر المشهد، وأعاد التاريخ نفسه؛ ليتحول المقهى إلى قاعدة للتحرك والتخطيط، ليسترد مكانته باعتباره جزءاً من الذاكرة الوطنية المصرية.

يقول الأديب يوسف القعيد: "إنّ مقهى ريش، كما قرأت في الكتب التي صدرت بعد الثورة، كان أهمّ تجمع شبابي لثوار التحرير، إلى جانب المكتبات الكبرى في ميدان طلعت حرب، مدبولي والشروق، ودار ميريت للنشر".

كان الروسي يفغيني بريماكوف من رواد المقهى

كما يذكر مدير المقهى أنّ المقهى نظّم "وقفة احتجاجية على دستور 2012"، مضيفاً أنّ المثقفين عقدوا أكثر من (5) اجتماعات اعتراضاً على حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، وأصدروا من المقهى (3) بيانات. وفي 24 آب (أغسطس) 2012 اجتمع في المقهى أكثر من (100) مثقف وناشط حقوقي، منهم الكاتب سعد الدين هجرس، والروائي إبراهيم عبد المجيد، والباحث السياسي نبيل عبد الفتاح، وأستاذ التاريخ الحديث محمد عفيفي، وغيرهم، وأصدروا بياناً بعنوان: "حفاظاً على العقل المصري"، كتب مسودته سعد الدين هجرس وإبراهيم عبد المجيد.

مواقف غاضبة

نصل إلى أبرز المواقف الغاضبة التي خرجت من (ريش)، والتي تعود بنا إلى سبعينيات القرن الـ (20)، وعلى وجه الخصوص في عامي 1972و1973 إبّان احتدام الصراع العربي الإسرائيلي. 

ففي العام الأول انطلقت منه ثورة الأدباء، احتجاجاً على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، شارك فيها أهم رموز الأدب العربي، ومن بينهم يوسف إدريس وعبد الوهاب البياتي وسليمان فياض.

أمّا في العام 1973، فقد تجمع المثقفون وأصدروا بياناً وأرسلوه إلى توفيق الحكيم لنشره بجريدة (الأهرام)، يعبّرون فيه عن سخطهم وعدم رضاهم عن حالة اللّاسلم واللّاحرب التي شهدتها مصر في ظل حكم الرئيس أنور السادات.

الملامح الفنية والأدبية للمقهى 

لم يقتصر الحراك الثقافي في (ريش) على الإطار السياسي والثوري، وإنّما كان الدور الفني والإبداعي رافداً استمر لعقود طويلة، وهو ما وثقته صحيفة (المقطم) في عددها الـ (30) الصادر في العام 1923، من خلال إعلانها عن موعد أسبوعي لوصلات غنائية بصوت أم كلثوم، وذلك قبل أن تحقق من الشهرة قمتها، وينتشر صيتها في أرجاء مصر والوطن العربي.

وفي الأربعينيات من القرن الـ (20) احتشد كل من يعمل في الموسيقى والغناء في المقهى لإيجاد حل لمشاكلهم المهنية، وكان على رأسهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكانت نتيجة هذا التجمع أن تم الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين في مصر، وفي العالم العربي.

وفي ستينيات القرن الفائت عقدت الجلسات الأسبوعية للأديب العظيم نجيب محفوظ، والتي أقيمت في حضور أبرز كتاب وشعراء العصر. وفي شهادة للشاعر السوداني الراحل محمد الفيتوري قال: "إنّ (ريش) كان يمثل عاصمة ثقافية التقيت فيها عند قدومي إلى القاهرة بكامل الشناوي، وعبد الرحمن الخميسي، ونجيب محفوظ، ولطفي الخولي، وكان (ريش) يمثل إطاراً يجمع كل التيارات دون تمييز، ولهذا اتفق الجميع على عشقهم لأجواء المكان".

كان المقهى ملتقى الأدباء والمثقفين، ومن بينهم: يوسف إدريس، أمل دنقل، إحسان عبد القدوس، يحيى الطاهر عبد الله، صلاح جاهين، عبد الوهاب المسيري، الأبنودي، ثروت أباظة، نجيب سرور، كمال الملاخ، الذين برز حضورهم في الندوات والجلسات الثقافية الخاصة بالمقهى.

عقدت الجلسات الأسبوعية للأديب العظيم نجيب محفوظ

وعلى الرغم من كل هذا، انتقد البعض دور المقهى، فكتب عنه الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم، الملقب بالفاجومي، قصيدة ساخرة بعنوان التحالف، معتبراً المقهى مكاناً للثرثرة والأحاديث الفارغة دون تقديم حلول حقيقية لمشكلات المجتمع، ويقول فيها:

يعيش المثقّف على مقهى ريش... يعيش يعيش يعيش. 

محفلط مظفلط كتير الكلام... عديم الممارسة عدو الزّحام.

وكام اصطلاح... يفبرك حلول المشاكل قوام.

يعيش المثقّف... يعيش يعيش يعيش.

وترجعنا قصائد الشعر وكتابات الأدب إلى كلمات رفاعة الطهطاوي عن ذكر أسماء الأماكن في الأدب العربي وكذلك الفرنسي، يقول في كتاب (تخليص الإبريز في تلخيص باريز): الروائيون مولعون بأسماء الأمكنة، وبعض الشعراء مثلهم، يحفظ كل منهم أمكنة يهددها الاندثار في كل لحظة، بين ليلة وضحاها تتساقط الجسور، وتضمحل مدن.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية