سيصعُب على مرتاد مقهى "جروبي" منع ابتسامته من الانفلات، فيما هو يتناول الشوكولاتة الشهيرة هناك؛ إذ سيستحضر في ذهنه أن مائة كغم من الشوكولاتة ذاتها، حُمِلت يوماً ما، عبر الباخرة، للملك الإنجليزي جورج، عندما أرسلها إليه الملك فاروق كهدية عائلية.
فيما يحتسي الزائر قهوته التي يقدّمها النادل المبتسم، بملابسه الكلاسيكية، على أنغام الجاز، في الحديقة الخلفية للمقهى، سيكون بوسعه تأمّل جنباتها التي احتضنت تصوير أفلام سينمائية عدة، وحفلات راقصة، ومقطوعات فرق أجنبية، وجلسات صفوة النخبة الحاكمة، والفنية أيضاً مثل؛ فاتن حمامة وأحمد رمزي وأسمهان وعمر الشريف.
اقرأ أيضاً: تحولات المجتمع المصري.. ما بين معز وحلا ورقصة الساحل
قبل ولوج المقهى، الذي أسّسه السويسري جاكومو جروبي العام 1891 في الإسكندرية، ومن ثم في القاهرة العام 1909، سيكون لزاماً المرور في شوارع القاهرة الخديوية، ليتقافز سؤال: ترى لو مرّ الخديوي إسماعيل، الذي كان يهجس بجعل معمار القاهرة وتخطيطها محاكياً لباريس وفيينا، ووجد كل هذه الدعامات والرافعات ولافتات الترميم تطوّق أبنيته المهترئة بفعل الزمن، هل كان سيسعد بهذه الهبّة لإعادة ألق هذا الجزء الأوروبي من المدينة، أم سيصاب بالوجوم وينفجر سائلاً: كيف تدهورت "قاهرتي" إلى هذا الحد، بعد أن كانت "باريس الشرق"؟
سيجد الباحث عن فرع "جروبي" الشهير في ميدان طلعت حرب، الذي يقع في بناية أوروبية الطراز بحجارة بيضاء منقوشة بتجلّ وواجهة فسيفساء، الباب موصداً؛ بانتظار انتهاء الترميمات، كحال القاهرة الخديوية عموماً، فيكون فرع شارع عدلي بديلاً.
كان المؤسّس لسلسلة هذا المقهى على سويّة عالية من الذكاء التجاري، بأن استحدث فروعاً منه؛ لتلائم الطبقة النخبوية والطبقة الأقل دخلاً، كما استطاع أن يخطب ودّ كلا النظامين؛ الملكي والجمهوري، ولعل هذا ما يفسر أنه كان مقصداً للملك فاروق حين كان يحب احتساء القهوة في الجزء الذي شيّده أجداده من القاهرة، وفيما بعد بات معتمداً لولائم الضباط الأحرار عند حلول ضيف رفيع المستوى، وإن كان قد تعرّض للحرق وتكسير الواجهات الزجاجية، حين ارتبط لدى المنتفضين في وجه النظام الملكي، في مطلع الخمسينيات، بالوجود الأجنبي في مصر.
احتضنت حديقة المقهى تصوير أفلام سينمائية عدة وحفلات راقصة ومقطوعات فرق أجنبية وجلسات صفوة النخبة الحاكمة والفنية أيضاً
ستظلّ ملامح عادل إمام المستهجِن لكلمة "جروبي" في مسرحية "شاهد ما شفش حاجة"، تعنّ على بال المرتاد، لاسيما إن عرف أنّ لهذا المقهى قصب السبق في إدخال الـ "آيسكريم" والـ "كلير" والـ "مارون غلاسيه" لمصر، بل إدخاله أصنافاً نخبوية من المربيات والعصائر والمثلّجات وأنواع القهوة، ما جعله حلماً صعب المنال للطبقة الشعبية في ذلك الحين، واسماً ما يزال يُقال برهبة حتى اليوم، وإن باتت أسعاره حالياً مماثلة لأسعار أي مقهى مصري، وحتى إن عُرِف بأن ملكيته انتقلت لمصريين منذ مطلع الثمانينيات.
الإعلامية المصرية إسراء صالح، واحدة ممن يرتدن مقهى "جروبي" بانتظام. تقول "أكثر ما أقصد، فرع جروبي في شارع عدلي، أو ما يُسمى جروبي الشجرة؛ ذلك أن شجرة ضخمة تتوسّط حديقته".
ترصد صالح اختلافاً في نوعية روّاد هذا المقهى، "كان للأرستقراطيين. الآن تغيّر الأمر. صار فيه شيشة"، متسائلة "شيشة؟ من كان يصدق أن جروبي سيقدّم الشيشة يوماً؟".
لا تنفكّ صالح تستدرك "لكن هناك أصناف ليست موجودة لدى غيره. كاساتا آيسكريم والفواكه المجففة. ثم إن قيمة المقهى المعنوية هامة؛ لأنها تعود لأيام وسط البلد الذهبية".
منذ أعوام، باتت صالح، كما معظم الشباب المصريين، بحسبها، يعودون أدراجهم نحو شقق وسط البلد، "التي عانت إهمالاً من قِبل الجيل السابق، كأنما أنساهم نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك كل ما كان جميلاً وحراً".
تقول إن معظم روّاد "جروبي" الحاليين هم من بات يُصطلَح عليهم "كومينتي وسط البلد"، مكملة "جيلنا متمسّك بإعادة هذه المنطقة لألقها القديم. لن نقبل بحالة المسخ التي أحدثها فيها الجيل السابق".
يذهب الناقد المسرحي وعضو اتحاد كُتّاب مصر الدكتور محمود سعيد، لمثل ما ذهبت إليه صالح؛ إذ يقول "مقاهي القاهرة ليست مجرد مقاهٍ فحسب، بل تاريخ زاخر بالروّاد والأحداث".
يسوق مثالاً عن الملك فاروق وصفوة المجتمع المصري الذين كانوا يرتادون "جروبي"، و"الفيشاوي"، الذي كان من أشهر روّاده كامل الشناوي وعباس العقاد، و"البوسطة" الذي كان ملاذاً لجمال الدين الأفغاني وسعد زغلول، مكملاً "بل إن ثورة 1919 انطلقت من مقهى ريش، الذي كان من أشهر روّاده نجيب محفوظ".
الناقد المسرحي محمود سعيد: مقاهي القاهرة ليست مجرد مقاهٍ فحسب بل تاريخ زاخر بالروّاد والأحداث
عن "جروبي" يقول إنه لا يكاد مرجع تاريخي واحد، يتناول الحقبة الذهبية للقاهرة الخديوية، يقفز عن هذا المقهى، إلى حد استخدمه فيه رومل رمزاً لدخول العاصمة المصرية إبّان معركة العلمين، حين قال بأنه سيشرب الشاي في "جروبي".
يُذكَر أن للخديوي إسماعيل اليد الطولى في المؤاخاة بين الثيمتين؛ الشرقية والغربية في القاهرة، منذ كان يتلقى تعليمه في النمسا، فأصيب بالغيظ حين سمع تندّر الغربيين حول أن من يشرب من النيل مرة سيصاب حتماً بالملاريا، ليضمر في نفسه أن يجعل القاهرة قِبلة عالمية وبأن من سيشرب من النيل مرة سيعود إليه ثانية.
ولعلّ من علامات التدهور الذي أعقب "الزمن الجميل" للقاهرة، أن سبوقات معمارية وخدماتية ونخبوية جرت على يد الخديوي إسماعيل لا تواجه إهمالاً فحسب؛ بل تنكر وتشويه لسيرة الرجل، وما مسلسل "سرايا عابدين" سوى مثال على ذلك؛ إذ عوضاً عن تسليط الضوء على منجز الخديوي، في إضاءة القاهرة على نطاق واسع وتأسيسه الصحف ومدارس البنات وتعزيزه خدمات كالبريد والسكك الحديدية وشق الطرق وتشييد الجسور، فإن تصويراً جرى له كزير نساء مهووس، ليس إلا.