عبدالوهاب بدرخان
خلال زيارة للعراق استغرقت خمسة أيام ركّز وزير الخارجية الإيراني على محورَين: الوجود العسكري الأميركي وضرورة إنهائه، ومسألة إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب على تنظيم «داعش». وشملت محادثات محمد جواد ظريف مسؤولين حكوميين إلا أن جانبها الأهم كان مع قادة فصائل «الحشد الشعبي»، وسط توقّعات متزايدة بأن العراق سيكون ساحة المواجهة الإيرانية - الأميركية على خلفية العقوبات الاقتصادية والمالية المشدّدة، كذلك الحملة الدبلوماسية التي تشنّها واشنطن على إيران وسعيها إلى بناء تحالف دولي - إقليمي ضدّها. وفيما تجد طهران أن نفوذها في سوريا بات تحت ضغط ضربات إسرائيلية مرشّحة للتصاعد، وأن الوجود الروسي لا يضمن لها تحصيل مكاسب من الانسحاب الأميركي، فإنها لا تشعر بأي تهديد لهيمنتها على العراق لكنها تريد تطويرها لاستباق أي مفاجآت.
تعوّل إيران بشكل خاص على أحزاب المكوّن الشيعي للدفع في اتجاه قانون يُلزم الحكومة بطلب انسحاب القوات الأميركية، فالخلافات بين تلك الأحزاب لا تمنع اصطفافها ضدّ الولايات المتحدة وتعاطفها وولائها لإيران، لكن الأخيرة تعوّل أيضاً على اختراقاتها الواسعة للمكوّنين الكردي والسنّي وانقساماتهما، كذلك على دور إيراني رئيسي كان حاسماً في اختيار رؤساء المناصب الثلاثة الأعلى في الدولة. ومن هذا المنطلق قد لا تكون هناك عقبة تُذكر أمام إقرار قانون لجدولة انسحاب القوات الأجنبية، خصوصاً الأميركية. يجري العمل بهدوء لكن بشيء من السرعة لتحضير هذا التشريع، وقبل ذلك يُفترض استكمال ملء الشواغر في حكومة عادل عبد المهدي بحسم الجدل والخلاف على حقيبتي الداخلية والدفاع.
سلسلة تطوّرات حثّت طهران على إرسال ظريف إلى بغداد، أبرزها هبوط الرئيس الأميركي في قاعدة عين الأسد في الأنبار غرباً وتأكيده أن الانسحاب من سوريا لا يسري على العراق، وبالطبع أثارت زيارة دونالد ترامب وعدم لقاؤه مع أي مسؤول عراقي جدلاً داخلياً سُلّط فيه الضوء على مسألة السيادة. ثم جاءت زيارة وزير الخارجية الأميركي لبغداد وأربيل لمزيد من «الطمأنة» إلى عدم الانسحاب. ولم يكن في الكلام العلني لمايك بومبيو ما يفاجئ، لكن ما عُرف بعده كان فيه ما يستفزّ إيران. فمن جهة دعت واشنطن إلى تعاون وثيق بين الجيش العراقي و«البشمركة» الكردية، ومن جهة أخرى طلبت حلّ نحو تسعة وستّين فصيلاً منضوياً في «الحشد الشعبي» باعتبارها جيشاً موازياً للجيش الوطني وتشكّل خطراً واضحاً ومباشراً على الدولة ومؤسساتها. والواقع أن المطلَبين منطقيّان إذا ما أريد للدولة أن تفرض سلطتها، إلا أن تلبيتهما تبدو صعبة إن لم تكن مستحيلة.
يواصل الجنرال الإيراني قاسم سليماني شبه المقيم في المنطقة الخضراء عمله البعيد عن الأضواء، وتتكامل مهمته مع مهمة الوزير ظريف في تنظيم الردّ الإيراني على واشنطن، تحديداً بتكريس الاعتماد على فصائل «الحشد» كرأس حربة عسكرية في مناوئة الأميركيين وكنواة التحرك السياسي ضدّهم وجعل انسحابهم استحقاقاً داخلياً. لم يكتفِ ظريف باعتبار أن «الحشد» هو الذي حقّق النصر على «داعش»، بل حاجج أيضاً بأن الحرب على الإرهاب انتهت، أي أن السبب الذي دفع الحكومة عام 2014 إلى طلب المساعدة الأميركية لم يعد قائماً. لكن هذا التقويم لأنشطة «داعش» يتناقض مع الوضع على الأرض، ولا يتوقّف على الإيرانيين وأتباعهم فحسب بل يتطلّب قراراً حكومياً بعد التشاور مع الجانب الأميركي. وتشهد الوقائع الميدانية أن ثمة مرحلة حسّاسة في القضاء على قدرات التنظيم وتجري حالياً في منطقة تداخل الحدود العراقية - السورية، وتضغط واشنطن بقوّة لاستبعاد «الحشد» عنها لأنه يريد استغلالها للسيطرة على الحدود من الجانبين.
تُدار حالياً حملة تواقيع للضغط على البرلمان والحكومة من أجل انسحاب الأميركيين. وقد شدّد ظريف على «عدم السماح لأميركا بالتدخّل في علاقتنا مع العراق» حتى إنه قال «نحن أهل الأرض». وفي إطار ترويجه لاستعداد إيران للمساهمة في إعادة الإعمار ولضرورة منح الشركات الإيرانية أولوية «بعد انتهاء المعارك ضد داعش»، قدّم ظريف مبررات مستهجنة، منها مثلاً قلّة التكاليف وعدم حاجة الشركات الإيرانية «للحماية»، ومنها أيضاً أن تلك الشركات تأتي إلى الإعمار «حبّاً بالإمام الحسين». لكن نُقل عنه أن مسؤولين عراقيين «يخشون التعامل معنا خوفاً من الأميركيين». هذا يعيد الأهداف الإيرانية إلى الواقع الذي فرضته العقوبات، إذ أن طلب انسحاب الأميركيين، إذا حصل، لن يكون من دون تداعيات سلبية على الاقتصاد العراقي عموماً وعلى مشاريع إعادة الإعمار خصوصاً.
عن "الاتحاد" الإماراتية