مرّ السودان بنوبة طويلة من السبات، لم توقظه منها إلا صدمة الاستعمار، وما تبعه من تحوّلات على كافة الصعد، استمرت مع المراحل التالية، من الاستقلال، إلى حكم العسكر، ساءلت كلّ شيء مما تعارفت عليه وتوارثته الأجيال، فكان لا بد من إجابات وآراء واجتهادات جديدة، ولكن ثمنها لم يكن بسيطاً.
"الفكرة الجمهورية".. سياق الظهور
عقد مؤتمر الخريجين السودانيين عام 1938، وضم جمعٌ من خريجي "كلية غوردون التذكارية"، وطالبوا في ختامه بجلاء الاستعمار الإنجليزي والحكم المصري عن البلاد، فكان بداية لتبلور حركة وطنية سودانية تدعو للاستقلال، وأن يحكم السودانيون أنفسهم.
كان إعدام طه في ظاهره حكماً دينياً، لكنه حمل في عمقه بعداً سياسياً؛ فلم يقتل إلاّ عندما اتهم نظام الحكم بالفساد
تلا ذلك مرحلة تشكّل ونشوء الأحزاب السياسية في بداية الأربعينيات، فظهر عدد من الأحزاب في إطار ما عرف بـ "الحركة الاستقلالية"، والتي كانت تطالب بالاستقلال عن بريطانيا ومصر (الحكم الثنائي)، مقابل ظهور اتجاه اتحادي دعا للاستقلال عن بريطانيا والوحدة مع مصر.
وفي ظلّ تصاعد الحراك الوطني، بادر محمود طه مع مجموعة من الشباب الثائر، في السادس والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1945، لتأسيس "الحزب الجمهوري"، والذي رفع لواء المطالبة بجلاء الحكم الثنائي، وتميّز عن سائر الحركات الوطني بمطالبته بتأسيس حكم سوداني جمهوري، في حين كانت الأحزاب الأخرى ما يزال طموحها متوقفاً عند حدود النظام الملكي.
صدر البيان التأسيسي للحزب، والمعروف باسم "السفر الأول"، والذي قام بصياغته طه ووضع عليه خلاصة ما عرف بـ "الفكر الجمهوري"، وهو مزيج من الديمقراطية والاشتراكية. ثم بدأ أعضاء الحزب الجديد بتوزيع المناشير للتعريف بفكر الحزب، ولتحريض الشعب السوداني على التحرّك ضد الاستعمار الإنجليزي.
فعمد الإنجليز إلى اعتقال رئيس الحزب المهندس محمود طه وأودع في زنزانة فردية، وهناك أدخل نفسه في عبادة "الصيام الصمدي" الصوفية، وهي بمثابة إضراب مفتوح عن الطعام، إلى أن أفرجت عنه السلطات بعد خمسين يوماً من الصيام.
"قل هذه سبيلي".. الحركة تتحول إلى دعوة
بعد خروجه، عاد محمود طه للمشاركة في الحراك المقاوم، فاشترك في "ثورة رفاعة" عام 1946، ما أدى إلى عودته للسجن من جديد. وفي السجن، عاد إلى الصيام والتفكر والتأمل. وبعد إطلاق سراحه عام 1948، قرر الاعتزال واختار أن يحبس نفسه في خلوة استمرت ثلاثة أعوام، خرج منها في العام 1951.
لتصاعد الحراك الوطني بادر طه مع مجموعة من الشباب الثائر في 26 تشرين الأول عام 1945 بتأسيس الحزب الجمهوري
وفي هذه المرحلة صدر كتاب طه "قل هذه سبيلي" عام 1952، تبلورت الحركة الجمهورية معه وتحولت بعده إلى دعوة تسعى لإحداث "بعث إسلامي" على أسس جديدة تتوافق ومعطيات العصر، وقد وضع فيه خلاصة تأملاته، وخلاصة قراءاته الواسعة في كتب الشريعة والتصوف وفي المعارف الغربية. وتناول الكتاب الدعوة الجمهورية بالتفصيل، ودعا إلى تأسيس مدنيّة وحضارة جديدة مغايرة للمدنية الغربية والتي "ظهر قصورها عملياً عن حل مشاكل الإنسان"، بحسب طه، ودعا فيه إلى أن يكون الإسلام "كتلة ثالثة" تجمع ما بين الاشتراكية والديمقراطية.
وفي عام 1956 حصل السودان على استقلاله، وتولّى "مجلس السيادة" الانتقالي رئاسة السودان، وبذلك تحقق مطلب أساسي للجمهورين وهو جلاء الحكم الثنائي وتأسيس حكم جمهوري سوداني مستقل.
وفي عام 1958، حدث انقلاب عسكري، أدى إلى عرقلة مسيرة الديمقراطية، قبل أن تعيدها ثورة شعبية في العام 1964. وفي هذه الأثناء، استمرت الدعوة وحركة التأليف والنشر للحركة الجمهورية، في ظل تصاعد الخصومات والخلافات مع التيارات السياسية الأخرى، من الشيوعيين والإسلاميين وغيرهم.
قراءات جديدة.. وحكم بـ "الردة"
أصدر طه عام 1966 كتاب "رسالة الصلاة"، والذي أسقط فيه ما أسماه "الصلاة ذات الحركات"، على اعتبار أنّ الإنسان يصل لمرحلة يتلقى فيها الصلاة مباشرة من الله تعالى، بحيث يصبح لكل إنسان صلاته التي يكون أصيلاً فيها، مستشهداً بالآية "لكل منكم جعلنا شرعةً ومنهاجاً" (المائدة: 48)، ممميّزاً بين "صلاة التقليد" و"صلاة الأصالة"، وهو ما بنى عليه المناداة بالشريعة الفردية كأصل عوضاً عن الشريعة الجماعية، وقد رأى الكثيرون في ذلك دعوة صريحة لإسقاط التكاليف الشرعية.
ثم جاء إصدار كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام" عام 1967، ليشكّل ذروة الصراع بين طه والجمهوريين من جهة، وبين التيار المحافظ من جهة أخرى.
اقرأ أيضاً: "تاريخ التكفير في تونس" إذ تكتبه السلطتان الدينية والسياسية
وضع طه في هذا الكتاب نظريته في تطوّر التشريع الإسلامي، وبالتالي تحقيق "البعث الإسلامي"، فقسم نصوص الدين إلى أصول وفروع، فأما الأصول فهي القيم التي تتمحور حول مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية، وهي أصول مطلقة غير مرتبطة بزمن، خلافاً للفروع، والتي هي أحكام دينية تقوم على الوصاية والإكراه.
وفصل طه بين القرآن المكي والقرآن المدني، معتبراً أنّ الثاني يكاد ينحصر في الفروع، ودعا إلى الأخذ اليوم -في القرن العشرين- بالقرآن المكي؛ لأنّ نصوصه تقوم على حرية الاعتقاد والمساواة. وهو ما انتهى به إلى القول بوجود رسالتين في الإسلام: رسالة محمدية، ورسالة أحمدية؛ ففي البداية (العهد المكي) جاء النبي، عليه السلام، بالرسالة "الأحمدية"، ولكن الصحابة، رضي الله عنهم، لم يستوعبوها فنزل بهم إلى مستوى الرسالة "المحمدية".
ولم تتقبل الأوساط المحافظة هذه الأطروحة، وقاموا بمواجهتها واتهام محمود محمد طه في دينه. فحكموا عليه غيابياً بالردة عن الدين، بحكم صادر عن المحكمة الشرعية عام 1968، مع أمره بالتوبة عن كل ما جاء به.
"تطوير شريعة الأحوال".. تعارض مع ثوابت الفكر الديني
ثم جاء كتاب "تطوير شريعة الأحوال الشخصية" وصدرت الطبعة الأولى منه عام 1971. والذي اقترح طه فيه آراء جريئة فاقمت من حدّة المعارضة له، خاصّة فيما يتعلق بتشريعات المرأة، مع مناداته بالمساواة الشاملة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وكان من ذلك دعوته لتجاوز عادة المهر، وإيقاف تعدد الزوجات، إضافة إلى تأكيده على أنّ الرجل والمرأة متساويان في الميراث وفي الشهادة، وبيّن أن سبب تعارض هذه الاجتهادات مع نصوص القرآن الكريم هو أنّ الأخيرة كانت ضمن "الإسلام المدني" الذي انتهى بوفاة الرسول - عليه السلام - وكانت جزءاً من تدرج تشريعي لإعطاء المرأة حقوقها، فالمرأة كانت مثلاً في تلك الفترة ليس لها ميراث بل تورث مع الأموال والعقارات، فشرع الإسلام بتعديل أوضاعها بجعل ميراثها نصف ما يرثه الرجل. وقد عنت مثل هذه الاجتهادات عند التيارات المحافظة تعارضاً صريحاً مع أساس ختم الرسالة وقوله "اليوم أكملت لكم دينكم" (المائدة: 3).
اتفاق "بورت سودان".. التيار المحافظ في الحكم
في أيّار (مايو) 1969 وقع انقلاب عسكري بقيادة جعفر النميرى، بادر الجمهوريون إلى تأييده باعتبار أن البديل عنه سيكون "الهوس الديني". دخل النميرى في المرحلة الأولى من حكمه في مواجهة مع تيارات الإسلام السياسي (حزب الأمة وجبهة الميثاق الإسلامي)، ولكن الأحوال تبدلت في عام 1977 مع إتمام اتفاق "بورت سودان"، والذي نتج عنه مصالحة وطنية بين النظام والإسلاميين بشقيّهم: جماعة حسن الترابي (جبهة الميثاق الإسلامي)، وحزب الأمة (جماعة الصادق المهدي)، فأصبحوا بذلك جزءاً من النظام وأصبح الجمهوريون ضحية محتّمة لهذا الاتفاق.
تمخّض التحالف عن توجّه "نظام مايو" لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فتم تشكيل لجنة تعديل الدستور عام 1978، وخرجت بتوصياتها النهائية في شهر أيلول (سبتمبر) عام 1983. والتي ترجمت مباشرة عبر إطلاق قوانين جديدة سميت بـ "قوانين الشريعة الإسلامية"، وتضمنت الإعلان عن تطبيق الحدود الإسلامية، وفرض الجزية على المسيحيين في "جنوب السودان".
المحاكمة.. الثبات والمجابهة
رفض طه هذه القوانين وأطلق عليها اسم "قوانين سبتمبر"، وفي الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) من عام 1984، أصدر بياناً بعنوان "هذا أو الطوفان"، حذّر فيه من تطبيق الحدود، وفرض الجزية على المسيحيين، معتبراً تلك القوانين "كارثيّة ولا تمت إلى الإسلام بأيّة صلة"، وأكد بأنّها تهدد الوحدة الوطنية للبلاد. وتصاعدت وتيرة الحراك الجمهوري ضد القوانين الجديدة، فباشروا بتوزيع مناشير مضادة لها، وانتهت حملتهم باعتقال محمود طه مع ما يقارب الخمسين من تلامذته وأعضاء الحركة.
اقرأ أيضاً: قضايا الحسبة في مصر: أئمة التكفير يعتقلون العقل النقدي
وفي السابع من كانون الثاني (يناير) من عام 1985، مَثُلَ محمود طه مع عدد من رفاقه أمام المحكمة الجنائية بأم درمان، وتمّت إدانتهم بتهم تتعلق بتقويض الدستور وإثارة الحرب ضد الدولة، إضافة إلى الردة والكفر وإنكار الشريعة.
وحين انتقلت الكلمة إلى محمود طه ليردّ، قال:
"أنا أعلنت رأيي مراراً في قوانين "سبتمبر 83" من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. وأكثر من ذلك، فإنها شوّهت الشريعة وشوّهت الإسلام ونفّرت عنه. ويضاف إلى ذلك، أنّها وُضعت واستُغلت لإرهاب الشعب وسوقه إلى الاستكانة عن طريق إذلاله، ثم إنّها هددت وحدة البلاد.
اقرأ أيضاً: 10 شخصيات عربية وإسلامية تمّ تكفيرها..هل تعرفها؟
هذا من حيث التنظير، وأما من حيث التطبيق فإنّ القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنياً، وضعفوا أخلاقياً عن عدم وضع أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، التي تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب وتشويه الإسلام وإهانة الفكر والمفكرين وإذلال المعارضين السياسيين، ومن أجل ذلك فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنّكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب، وإهانة الفكر الحر والتنكيل بالمعارضين السياسيين".
رفعت الجلسة بعد ردّ طه، وفي اليوم التالي صدر حكم الإعدام شنقاً حتى الموت بحقه. قَبِلَ طه الحكم، وبالرغم من ذلك تم تحويل القضية إلى محكمة الاستئناف الخاصّة.
أيّدت محكمة الاستئناف الحكم بالإعدام، على أن يمهل شهراً كفترة للتوبة والرجوع إلى "حظيرة الإسلام"، كما اعتبرت المحكمة -في حكمها الصادر- جماعة الجمهوريين "طائفة كافرة ومرتدة وتعامل معاملة طوائف الكفر في جميع المعاملات"، وأمرت بـ "مصادرة كتب محمود طه وكتب الجمهوريين من جميع المكتبات، بغرض إبادتها مع منع تداولها وطباعتها ونشرها"، مع حظر تجمعات الجمهوريين في كافة المناطق.
النميرى يعقد محاكمة متلفزة
نقل الحكم إلى الرئيس النميرى والذي أصدر أمراً متلفزاً "باسم الله وباسم الشعب" بتأييد حكم الإعدام الصادر ضد محمود محمد طه، وعلى أساس الشرع والقانون.
وفي كلمته المتلفزة، قال النميرى: "لقد عكفت على دراسة أوراق هذه القضية ومستنداتها على مدى سبع وعشرين ساعةً متصّلة مستعيناً بالله وكتب الفقه والقانون، ومستشيراً ومستخيراً فلم أجد لمحمود محمد طه وحزبه مخرجاً ولا شبهةً تدرأ هذا الحكم الحديّ".
وبالفعل، في صبيحة الثامن عشر من كانون الثاني (يناير) عام 1985، تم تنفيذ الحكم، وأكثر من ذلك، تمت مصادرة الجثمان ونقل عبر مروحية إلى مكان مجهول، حيث دفن في أرض خلاء غرب أم درمان.
اقرأ أيضاً: "آية السيف" شعار التكفيريين لقتل الناس
وبعد شنقه، بعثت هيئات ومؤسسات دينية رسمية بالتهاني للنميري، والتقى بعضها بالمتهمين الآخرين لمناقشتهم وإرجاعهم إلى أمر الدين والإعلان عن توبتهم عن حركة الإخوان الجمهوريين.
كان إعدام محمود محمد طه في ظاهره حكماً دينياً، لكنه حمل في عمقه بعداً سياسياً؛ فهو لم يقتل إلاّ عندما صدح باتهام نظام الحكم بالفساد، حين صمت الآخرون. وبعد الحادثة بثلاثة أشهر، عمّت السودان "انتفاضة أبريل" الشعبية لتسفر عن سقوط "نظام مايو" و"قوانين سبتمبر".