المساواة في الميراث: هل تؤرق تونس الأزهر؟

المساواة في الميراث: هل تؤرق تونس الأزهر؟


26/08/2018

المطالبة بالمساواة في الإرث بين الذكور والإناث ليست جديدة؛ حيث تناول المفكّر العراقي، جميل صدقي الزهاوي، قضية التمييز ضدّ المرأة في المحاكم الشرعية، فيما يخصّ تعدّد الزوجات والإرث، في مقال نشر له في صحيفة "المؤيد" في مصر، العام 1910، كما تناولت الصحافية المصرية منيرة ثابت القضية ذاتها، واشتعلت الحرب بينها وبين ورجال الدين، إثر كتابتها مقالاً، في مجلة "الأمل"، عن أحقية النساء في المساواة في الإرث العام 1926.

المطالبة بالمساواة في الإرث بين الذكور والإناث ليست جديدة إذ سبق أن طرحها بعض المفكرين

كما صدر كتابان مهمّان، قاما بالتأصيل لفكرة المساواة في الميراث، هما: "أحوال المرأة في الإسلام" (1913)، للمفكّر المصري منصور فهمي، و"امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (1930)، للمفكّر التونسي الطاهر الحداد، وكلاهما تعرّض للتكفير.

أحوال المرأة في الإسلام

تطرّق منصور فهمي لمعضلة الإرث الإسلامي، العام 1913؛ من خلال رسالة الدكتوراه الخاصة به، التي تحمل اسم "أحوال المرأة في الإسلام"، ومُنِع إثر ذلك من التدريس في الجامعة، وعاد إليها بعد فترة من الزمان، وأصبح، لاحقاً، عميداً لكلية الآداب جامعة القاهرة.

اقرأ أيضاً: المساواة في الميراث بتونس جدل ديني على تخوم الصراع السياسي

لم ينظر د. منصور فهمي للماضي نظرة تقديس؛ بل أخضعه للدراسة الاجتماعية؛ بغرض فهم السياق التاريخي للنصوص الدينية، وملخّص فكرته هي: "إنّ المرأة لدى العرب (قبل الإسلام) لم ترث لأنها لم تشترك فعليّاً في الحروب والغارات، التي هي مصدر من مصادر الثروة حينذاك، وهنا قدّم الإسلام فكرة أدبية بشأن حقّ الميراث، فأصبح يحقّ للمرأة أن ترث، إما من عائلة أبيها أو زوجها، إلا أنّ النظام القرآني لم يُخلّص المرأة من كلّ عجزها الميراثي قبل الإسلام، إنما أعطاها قسماً منه".

تغيّرت الظروف الاقتصادية التي جعلت من المرأة عائلاً لأسرتها بشكل كامل في كثير من الأحيان

وما أثار حفيظة رجال الدين ضدّ فهمي؛ هو ما قاله بشأن النظام القرآني بأنّه: "لم يُخلّص المرأة من كلّ عجزها الميراثي قبل الإسلام"، فتعرّض لاتهامات التكفير ومعاداة الإسلام.

لكن بعيداً عن الأصوات الـُمكفّرة، يمكننا القول: إنّ الإرث جاء منصفاً للمرأة العربية في زمانها، لكن هذا الزمن كان منذ 1400 عام مضى، وقد تغيرت الأحوال، زماناً ومكاناً؛ فلم تعد المرأة المسلمة ساكنة لشبه الجزيرة العربية فقط؛ بل انخرطت في مجتمع المواطنة الذي لا يجلب فيه مواطنوه قوت يومهم بالغزوات.

فنحن لم نعد نعيش ضمن القبائل؛ بل نسكن بلداناً بحدود جغرافية، ونعيش تحت طائلة قوانين تنظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين أفرادها؛ بل تغيّرت الظروف الاقتصادية التي جعلت من المرأة عائلاً لأسرتها بشكل كامل، في كثير من الأحيان؛ لذا انتفى السبب الاجتماعي الذي يجعل "للذكر مثل حظ الأنثيين".

امرأتنا في الشريعة والمجتمع

أما في تونس؛ فكانت كتابات الطاهر الحداد العام 1930 سابقة لزمانها، فيقول في كتابه "امرأتنا في الشريعة الإسلامية": "علّل الفقهاء نقص ميراثها عن الرجل بكفالته لها، ولا شيء يجعلنا نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير"، وتراءى لــِ "الطاهر الحدّاد": أنّ واقع المرأة تغيّر، وأضاف أنّ "الإسلام تجاوز هذه الحالة في كثير من أحكامه".

اقرأ أيضاً: الرئيس التونسي يحسم جدل المساواة في الإرث... كيف؟!

فلسفة الطاهر الحداد قائمة على أنّ المرأة قطعت شوطاً بعيداً عن ماضيها الخامل، واستطاعت أن تتحصل على قوت عيشها بعيداً عن الرجل، وعدّ الحداد: أنّ قدرة المرأة على الاستقلالية المادية يعني أنّ أحوال المرأة في الماضي لم تكن ناتجة عن فطرتها، إنّما عن الظروف المجتمعية الماضوية، فتوصّل إلى أنّ الإسلام لا يمانع في تقرير هذه المساواة في (الإرث)، ﻤﺘﻰ ﺍﻨﺘﻬﺕ أﺴﺒﺎﺏ ﺍﻟﺘﻔﻭّﻕ، ﻭﺘﻭاﻓﺭﺕ ﺍﻟﻭﺴﺎﺌل ﺍﻟﻤﻭﺠﺒﺔ للمساواة.

عدوى حقوقية

لطالما انتقد الأزهر دعوات المساواة ليس فقط في قضية الإرث؛ إذ ناهض حصول المرأة على حقوقها في مواقف كثيرة، قبل أن يخضع للضغوط المجتمعية المتغيرة، فرفض الأزهر حقّ المرأة في التعليم الجامعي (1930)، ورفض حقّها في تولّي مناصب قضائية (1952)، ورفض حقّها في الترشح للانتخابات البرلمانية (1952)، ورفض حقّها في السفر دون محرم، أو دون موافقة الزوج الكتابية (1972)، ورفض تجريم ختان الإناث (1994)، كلّ ذلك قبل أن يقوم الأزهر في أزمنة لاحقة بتعديل فتاواه الرسمية، لتتفق مع التوجهات السلطوية والتغيرات المجتمعية التي لم يسعه الوقوف حيالها، وهو ما جعله في مواجهة السلفيين؛ الذي يرون أنّه رضخ للطاغوت!

ناهض الأزهر حصول المرأة على كثير حقوقها كالتعليم الجامعي قبل أن يخضع للضغوط المجتمعية المتغيرة

لذا؛ فإنّ دعوة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، العام 2017، جعلت الأزهر في موقف الهجوم الضّاري! وذلك لأنّها تختلف عن أيّة دعوة فكرية سابقة؛ فهي دعوة سياسية تشريعية قادرة على دخول حيّز التنفيذ، وهو ما يخشاه الأزهر.

تصدّى شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب لمبادرة المساواة في الإرث، قائلاً: "لا يجب أن تُترك الأمور الدينية لغير المتخصصين"، وهنا نتساءل إن كنّا لا نسمح باجتهاد ما أسماه شيخ الأزهر غير المتخصّصين فقهيّاً في الشؤون الدينية، فهل يُمكن الردّ: إنّه لا يمكن السماح لاجتهاد غير المتخصصين في الشؤون الحقوقية!! فإشكالية الأزهر هي رفض أيّة حقوق خارج الإطار الفقهي.

اقرأ أيضاً: تونسيات يجددن مطالبهن بالمساواة في الميراث

وأضاف شيخ الأزهر أنّ المساواة في الميراث فكرة جامحة؛ لأنّها تعارض نصّاً قرآنياً صريحاً، وهنا يتبادر للأذهان سؤال آخر: لماذا إذاً لا يُحلّل الأزهر ملك اليمين؟ لماذا استشهدت دار الإفتاء المصرية بالمواثيق الدولية في قضية تحريم ومنع زواج مِلك اليمين (رغم وجود آيات قرآنية تحلّلها)، ولم تستشهد بالمواثيق الدولية في المساواة بين الذكور والإناث ومن بينها المساواة في الإرث؟ لماذا ارتضى الأزهر الاجتهاد في آيات بعينها دون غيرها؟

الردّ على نظرية "المرأة ترث أكثر"

تعالت الأصوات من داخل الأزهر؛ بأنّ المرأة ترث أكثر من الرجل، أو بالتساوي معه، في كثير من الحالات، لهذا لا يجب أن نتصيّد بعض الحالات، أو نختزل الميراث الإسلامي في الآية التي تنصّ على أنّه: "للذكر مثل حظّ الأنثيين".

هنا تحدّث الفقهاء على المرأة بصفة العمومية، وتناسوا أنّها ليست المرأة نفسها؛ فالمرأة التي ترث أكثر من خالها أو عمّها في حالة وفاة والدتها أو والدها، ليست المرأة التي ترث نصف شقيقها؛ لأنّه إن كان لها شقيق ما كان عمّها وخالها، أو عمّاتها وخالاتها، ليرثوا بالأساس؟ كما أنّه لا بدّ لنا أن نتساءل: لماذا يحجب (الذكر) العمّ والخال من الميراث، ولا تحجبهما (الأنثى)؟! إنّ حديث رجال الدين عن ميراث المرأة وتعدادهم للحالات التي ترث فيها أكثر من الرجل، ما هي إلا نظرة مبتسرة؛ فإن ورثت امرأة أكثر من عمّها، ما وجه استفادة امرأة أخرى ورثت نصف ما يرثه شقيقها؟

تصدّى شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب لمبادرة المساواة في الإرث لأنّها تعارض نصاً قرآنياً صريحاً

لا شكّ في أنّ هناك من يستعفف عن نيل ميراثهم الشرعي، عملاً بالحديث النبوي: "من يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يُغنه الله"، ولو أن هذا الحديث ليس مرتبطاً بالإرث، لكن كان مرتبطاً بالنفس العزيزة، بحسب نصّ الحديث النبوي.

فالحديث لا علاقة له بآية الإرث، لكن شيوع استخدامه على لسان من يتنازلون عن إرثهم الشرعي له دلاله كبيرة، فالمتنازل عن الإرث يرى أنّ التطبيق الحرفي للآية قد يترتب عليه مظلومية، وبالتالي يبحث العقل المؤمن عن ذريعة، فوجدها في حديث لا علاقة له بآية الإرث، ويلاحَظ أنّ كثيراً من المتدينين يخلطون بين الآية والحديث، للدرجة التي يعتقد فيها البعض أنّ نصّ الحديث "من يستعفف يعفّه الله" جزء من الآية، وهذا ليس صحيحاً.

تنازل البعض عن الإرث الشرعي يُعدّ، في حدّ ذاته تجديداً واجتهاداً في النصّ، لكن الأزهر قد لا يعترض على الاجتهادات الفردية، إنّما يخشى الاجتهادات الجماعية، التي قد تأخذ آيات المواريث في حيّز قوانين مدنيّة، لهذا باتت تونس في توجهاتها التشريعية الأخيرة مؤرقة له.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية