محمود شقير والديالكتيك الفلسطيني الجديد

محمود شقير والديالكتيك الفلسطيني الجديد


15/11/2020

إذا كان لمقولة (العتبات النصيّة) أن تتصدّر مقالاً تحليليّاً بجدارة، فإنّ سيرة الكاتب الفلسطيني محمود شقير تبدو مرشّحة لهذا التصدّر بلا ريب. ليس لأنّه وشّح سيرته التي صدرت مؤخّراً بعنوان لافت هو (تلك الأمكنة) فقط، بل لأنّه لم يدّخر وسعاً أيضاً لتأثيت هذا العنوان وإكسابه مصداقية كبيرة، على امتداد 250 صفحة من القطع الكبير.

اقرأ أيضاً: لماذا انتقد نولدكه الشعر الجاهلي ثم طالب الألمان بالاقتداء به؟

وإذا كانت مصداقية العناوين قد غدت محط قلق الناقد الثقافي الآن، بسبب هذا السيل المنهمر من الإصدارات التي تختبئ خلف عناوين مضلّلة، فإنّ (تلك الأمكنة) تمثّل نموذجاً رفيعاً على صعيد الوفاء بمطلوب المكان؛ بدءاً من القدس مروراً برام الله وأريحا وبيروت ودمشق وعمّان وبراغ وليس انتهاء بالقدس ورام الله مرة أخرى. وكأن محمود شقير قد قطع على نفسه عهداً بأن يقيم لكل هذه الأمكنة نُصُباً تلهج بشوارعها وبواباتها وشبابيكها وأمطارها ورياحها ومناخاتها وروائحها.

 

أضرب محمود شقير عن الكتابة عن (المخيّم) لأنّه ببساطة لم يختبر تجربة العيش فيه، لذلك لا يستطيع الكتابة عمّا لم يعرفه؛ مكاناً أو موضوعاً أو إنساناً

وبحكم حسّه الإبداعي المرهف ووعيه الديالكتيكي العميق؛ فهو يطلق الإنسان بوصفه شرطاً تاريخياً وضرورياً لإكساب المكان شخصيته وخصوصيته وحضوره؛ فهو دون هذا الإنسان ليس أكثر من كتلة صمّاء حتى لو كان جنّة عدن والإنسان دونه أيضاً ليس أكثر من عابر سبيل حتى لو كان هوميروس!

ووفقاً لهذا التبادل الحتمي والجدلي الذي أبدع محمود شقير في تضفير خيوط نسيجه الدقيق والمتداخل، تتعالى أهمية الرتل الطويل من الأسماء التي طرّز بها سيرته الفارقة سياسياً وثقافياً وإنسانياً؛ بدءاً من فؤاد نصّار وفائق ورّاد وسليمان النجّاب مروراً بغسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وليس انتهاء بأحفاده الميامين. 

وإن كان ثمة ثنائية بارزة تنتظم هذه السيرة من ألفها إلى يائها، فهي تتمثل بلا ريب في (الصدق والرصانة)؛ إلى درجة أن محمود شقير قد أضرب عن الكتابة عن (المخيّم) لأنه ببساطة لم يختبر تجربة العيش في المخيمات، وهو لذلك لا يستطيع الكتابة عما لم يعرفه؛ مكاناً أو موضوعاً أو إنساناً. وإلى درجة أنه قد أضرب أيضاً عن الخوض في تفاصيل اعتقاله وسجنه على أيدي زبانية الكيان الصهيوني، فضلاً عن إبعاده عن فلسطين؛ ربما لأنه يعدّ تفاصيل هذه المحنة ضرباً من ضروب تحصيل الحاصل لكل مناضل ومثقف فلسطيني، وربما لأن هناك كتباً استهلكت هذه التجربة فلم تبق منها زيادة لمستزيد، وربما لأن الخوض في تفاصيل هذه التجربة قد يضطره للحديث عن سلوكيات ومواقف بعض المعتقلين! وأياً كان سبب إضراب شقير عن الاستطراد في وصف هذه التجربة المريرة، فقد ألزم نفسه بتحرّي الدّقة المتناهية في التعبير وفي التفصيل؛ إلى درجة المواظبة على ذكر أسماء الأماكن وأسماء الشخوص ووقت الحدَث وملخّص موضوع النقاش، بل إلى درجة أنه يحدّد أحياناً الدقائق التي استغرقها هذا اللقاء أو ذاك! ولا ريب في أن التزامه بتدوين يومياته في الحِلّ والترحال، قد ساعده على استدعاء وتوثيق قدر كبير من الأحداث والذكريات والحوارات والمشاهد، وهي مواظبة استدعتها تجربته السياسية وتجربته الثقافية في آن واحد.

اقرأ أيضاً: هل خَلَت الأندلس من المعتزلة حقّاً؟

ولا يسع الناقد الثقافي المدقّق في في هذه السيرة التي نُفّذت على صعيد الأسلوب، وفق تقنية القطع والتقطيع السينمائي؛ فهي تتقدم إلى الأمام حيناً وتعود إلى الوراء حيناً آخر، إلا أنه يتوقف عند أربع محطات، من شأنها تسليط الضوء على محمود شقير المفكّر والسياسي. ومن البديهي أن تمثّل الانتفاضة الفلسطينية التي تفجُرت عام 1987 أولى هذه المحطات؛ حيث لم يتردد شقير في القطع بعظمة هذه الانتفاضة التي جعلت النضال الفلسطيني يتصدّر قائمة اهتمامات شعوب العالم من جهة كما أسهمت في إبراز الوجه القبيح للكيان الصهيوني من جهة أخرى. لكنه لم يتردد أيضاً في تحميل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادات الفصائل الفلسطينية، مسؤولية إفقاد هذه الانتفاضة زخمها على نحو تدريجي، جرّاء التعامل البيروقراطي معها من جانب المنظمة وجرّاء استثمارها لتفريخ مؤسسات فئوية متصارعة من جانب الفصائل.

 

لم يتردد شقير في تحميل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادات الفصائل الفلسطينية، مسؤولية إفقاد الانتفاضة الأولى زخمها على نحو تدريجي

وأما المحطة الثانية التي لم يَفُت شقير التوقف طويلاً فيها، فتتمثّل في تشخيصه الشجاع لأسباب انهيار المنظومة الاشتراكية التي قُيّض له أن يواكب ملابسات وإرهاصات تداعياتها بحكم موقعه المتقدم في حزب الشعب الفلسطيني وبحكم تواجده لسنوات في إحدى معاقل العقل المفكّر لها. إن التوقف عن مواكبة أشكال وأدوات التقدم عالمياً، والتمترس خلف الأبراج العاجية بعيداً عن الجماهير، فضلاً عن تشديد القبضة الأمنية على حساب الحريات، مثلت مجتمعة مقدمة السقوط الدراماتيكي لقلاع الأنظمة الشيوعية التي اكتوى صاحب السيرة أحياناً بنار شموليتها وبوليسيتها، رغم انتمائه الشيوعي الفاقع.

اقرأ أيضاً: لماذا استنكر الفلاسفة المسلمون الشعر العربي؟!

وأما المحطة الثالثة التي استأثرت بغير قليل من المعاينة الفكرية والسياسية في (تلك الأمكنة)، فتتمثّل في (ثورات الربيع العربي) التي بدأت سلمية مبشّرة وانتهت دموية منفّرة؛ ما يؤكد الحاجة -وفقاً لصاحب السيرة- إلى استقراء وتمثّل تجربة أميركا اللاتينية التي احتكمت بعد مخاض طويل إلى صناديق الاقتراع. فيما تمثّلت المحطة الرابعة والأخيرة في إبراز الوزن النوعي للثقافة الفلسطينية والمثقفين الفلسطينيين. وأحسب أن الرسالة الرئيسة التي توخّى شقير إيصالها لكل من يهمه الأمر، تتبدى في اعتقاده بأن الثقافة تمثّل الآن -في ضوء تراجع إمكانيات الثورة المسلحة لأسباب كثيرة- خط الصراع الأول مع الكيان الصهيوني، وأن على كل مثقف فلسطيني أن يتعامل مع كل مقال يكتبه وكل كتاب يصدره وكل دعوة يتلقّاها، على أنه / أنها مجهود نضالي خالص وغير قابل للمساومة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية