محمد عبده ومسألة الخلافة والإسلام السياسي

محمد عبده ومسألة الخلافة والإسلام السياسي

محمد عبده ومسألة الخلافة والإسلام السياسي


15/06/2025

هاني نسيرة

ربما أراد الراحل حسن البنا وبعض صانعى صورته وهالته أن يظهر حلقة فى مسار الإصلاح الإسلامى، الذى مثلته مدرسة محمد عبده، وليس هذا إلا أقل ما وصف به، فهو عند أنور الجندى الرجل القرآنى، وعند غيره مجدد الإسلام فى القرن العشرين، وقطب والمودودى من اكتشفا الإسلام من جديد!! ذات يوم قلت لمحاورى من جماعته، مستنكرا هذا التقديس له، والاستشهاد بكلامه كأنه نصوص مقدسة، هل علىَّ أن أذكره معقبا بالصلاة والتسليم شأن ما أفعل مع الأنبياء أو الترضية مع الصحابة..

ويبدو أن حسن البنا نفسه كان حريصا على ذلك، كما ذكر فى مذكراته، فقد بدأ تفسيره للقرآن حيث انتهى السيد رشيد رضا، كما بدأ الأخير من حيث انتهى أستاذه الإمام محمد عبده كما يروى فى تاريخ الأستاذ الإمام.

لكن الحقيقة أن البنا هو أقرب للشيخ رشيد رضا، ولكن فى مرحلته الثانية بعد مارس عام ١٩٢٤، وليس مرحلته الأولى، حين كان تلميذا مخلصا وأمينا على تراث أستاذه الإمام محمد عبده، فرشيد رضا تحول عقب هذا التاريخ، للسير فى اتجاهين، أولاهما: الدفاع عن خلافة العثمانيين التى سقطت، ومواجهة مناهضيها من الكماليين، حتى المنادين بالدولة والأمة الوطنية فى مصر وغيرها، وكان فى مقدمتهم على عبد الرازق وكتابه بالخصوص.. وكذلك كتابه عن الإمامة العظمى، وعبر هذه الانعطافة فى مساره كان الطريق الذى سار فيه محمد عبده، الذى اقترب منه كما اقترب البنا من صديقه محب الدين الخطيب، وشاركهم فى تأسيس جمعية الشبان المسلمين، ثم اتجه هو لتأسيس جماعته الإخوان المسلمين بعدها بعام واحد. أما الطريق الثانى الذى اهتم به رشيد رضا وتحدث عنه فى المنار، فكان طريق الدعوة لإحياء علم الحديث، والاهتمام بالسند على حساب المتن، عكس محمد عبده، وهو ما استلهمه من اهتمام الهنود المسلمين به، ومن هذا الطريق خرج أمثال الشيخ القاسمى– شيخ الألبانى– والشيخ محمد راغب الطباخ، وتأثر به وبتوجهه محمد حامد الفقى، والشيخ أحمد محمد شاكر وغيرهم من علماء الحديث المعاصرين.

فيمكن، عقد النسب بين البنا ورضا، وقد استلهم الأول شعارات وعناوين فصول رشيد رضا فى رده على كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبد الرازق، وجعله عناوين وشعارات الجماعة كشعاره: الإسلام دين ودولة، رسالة وحكم، ومصحف وسيف، وغيرها.. مما كان عناوين كتاب رضا فى نقد كتاب عبد الرازق.

أما نسب البنا إلى محمد عبده تحديدا فليس صحيحا، فالأستاذ الإمام لم يفرد الخلافة والإمامة بكتاب شأن أغلب علماء السنة والجماعة، ولم يورد مبحثا للإمامة أو الخلافة فى رسالته عن التوحيد، وتاريخيا كان موقفه من الخلافة العثمانية موقفا نقديا فى أغلب عمره، مقدما عليها الرابطة الوطنية والأمة المصرية، وهو يعبر عن ذلك فى مرحلته المؤيدة للثورة العرابية، برسالة لصديقه المحامى الإنجليزى بلنت فى ٢٥ أبريل ١٨٨٢ حيث يقول: «عرابى أو الحزب الوطنى ليسوا آلة فى يد الأتراك، وليس هناك مصرى واحد ينظر إلى فكرة نزول أى تركى على أرض بلاده، دون أن يندفع إلى إشهار سيفه لطرد ذلك المتعدى، فإن كل مصرى يكرههم ويمقت ذكراهم. إنهم ظلمة تركوا فى بلادنا من آثار السوء ما تزال تعانى منه. وإذا علمنا أنهم يحاولون دخول بلادنا فإننا سنتخذ ذلك ذريعة لاستعادة استقلالنا الكامل».

ويصف سلاطين العثمانيين فى رسالة له أخرى لبلنت أيضا بأنهم «أهملوا ذلك بحيث صاروا غير أهل لإمارة المسلمين،» لكن لأنهم ما زالوا أقوى أمراء المسلمين، فإنهم قد يستطيعون القيام بالشطر الأكبر من العمل لخير الجميع. هذا الموقف الواقعى والتاريخى لا يمكن تجاهله، فهى ليست عقيدة ولكن قوى وموازنات وشوكة! وهو يخاطب هانوتو قائلا: «سياسة الدولة العثمانية مع الدول الأوروبية ليست بسياسة دينية، ولم تكن قط دينية من يوم نشأتها إلى اليوم».

وأثناء اقترابه من الأفغانى وتحريرهما معًا للعروة الوثقى، كان رهانهما معا على المستبد العادل، الذى تختاره الأمة ويشاورها، ولكن بعد عودته لمصر ومفارقته له، لم يكن رهانه على غير الأمة وتعليمها وتربيتها، ومحاولة إصلاح الدين والفقه والفتوى مع كرومر. ولم يدافع عنها إلا متحفظًا أثناء وجوده منفيا فى بيروت، خوفا من جواسيسها وعسسها، وما كانت تفعله مع مخالفيها من الكتاب والمثقفين، الهاربين من عبد الحميد، الذى اتهم بقتل الأفغانى نفسه، كما يرصد الدكتور أحمد زكريا الشلق.

محمد عبده، الذى كان أول من استحيا مقدمة ابن خلدون، والغياثى للجوينى، ودعا لتدريس ابن سينا وفلسفته، والموافقات للشاطبى، فى الأزهر، كان واسعا ومتسعا، واتسع تلامذته من رشيد رضا فى مرحلته الأولى، إلى أحمد لطفى السيد وقاسم أمين، إلى مصطفى عبد الرازق. كان مع الدولة الوطنية الأمة، ولم يكن صارخا فى الأوهام مراهنا، وليس إلا مناهضا مبكرا لفكرة أيقنة الخلافة أو أيقونة الإسلام السياسى وتسييس الإسلام فوق التاريخ وعبر التاريخ.

المصري اليوم




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية