ما وراء الأزمة الفرنسية التركية

ما وراء الأزمة الفرنسية التركية


02/11/2020

حسام ميرو

دخلت العلاقات الفرنسية التركية في حالة أزمة، وشهدت تصعيداً خطيراً بين الرئيسين مانويل ماكرون ورجب طيب أردوغان، على خلفية حادثة مقتل المدرّس الفرنسي صامويل باتي على يد شاب متطرف شيشاني، وما تلا الحادثة من ردود أفعال عامة وسياسية، وقد أطلق الرئيس التركي تصريحات قاسية وغير دبلوماسية بحق نظيره الفرنسي، مشككاً في قدراته العقلية، كما اتهم القادة الأوروبيين ب«الفاشية» و«النازية»، وجاءت الردود الفرنسية والأوروبية مستنكرة ومنددة بتصريحات الرئيس أردوغان.

 خروج الرئيس التركي عن الأعراف الدبلوماسية، وتصعيد حدّة الخطاب تجاه أوروبا، يأتي في سياقات عديدة لتوتر العلاقات بين تركيا وعموم الاتحاد الأوروبي، بالإضافة لمشكلات متفاقمة في الأوضاع التركية، وطريقة تعامل حكومة حزب «العدالة والتنمية» التركي معها، وذهاب الرئيس التركي لفتح جبهات خارجية على أكثر من صعيد، ولذلك لا يبدو من الإنصاف بمكان وصف الأزمة بأنها أزمة ثنائية بين بلدين، بل ينبغي رؤيتها كجزء من مشهد التحولات الإقليمية والدولية، هذا المشهد الذي عرف عدداً من المتغيرات خلال السنوات القليلة الماضية، وما نتج عن هذه المتغيرات من خللٍ كبير لموازين القوى القديمة من جهة، وظهور عناوين جديدة للصراعات من جهة أخرى.

 في العقد الماضي، سوّق حزب «العدالة والتنمية» التركي لرؤية تقوم على تصفير المشكلات الخارجية، لكن هذه الرؤية انقلبت مع الوقت إلى نقيضها، فتركيا انخرطت بشكل واسع، سياسياً وعسكرياً، في أزمات مناطق عديدة، كان آخرها دعم أذربيجان في حربها مع أرمينيا، واستخدام البعد القومي لتبرير هذا الدعم، كما استخدمت من قبل هذا البعد، يضاف إليه البعد الأيديولوجي الإسلامي، في تدخلها بالشأن السوري، ويحاول الرئيس التركي إظهار بلاده ونفسه بوصفهما مظلة قومية ودينية للأقليات ذات الأصول التركية، أو للمسلمين في بقاع مختلفة من العالم.

 تعاني السياسة التركية الخارجية من فقدان البوصلة في معالجة الأزمات بطرق ديبلوماسية هادئة، وقطعت شوطاً كبيراً بالانخراط العسكري في سوريا وليبيا، واستفزاز جارتها اليونان، وهي تدخل اليوم على خط المواجهة والتصعيد مع فرنسا، بعد أن أظهرت الأخيرة دعمها الكامل لليونان في مواجهة سياسات أنقرة في المتوسط، وهو الموقف ذاته الذي تتبناه ألمانيا، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، وقد انعكس سوء العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي على المصالح التجارية والاقتصادية والمالية لتركيا، والتي تعاني منذ سنوات تراجعاً في عموم اقتصادها، بالإضافة إلى تراجع قيمة عملتها الوطنية.  تواجه تركيا العديد من الخصوم، لا يتقاطعون في المصالح نفسها، لكنهم يجتمعون على تحجيم الدور التركي، فكل طرف من أطراف الخصومة مع تركيا يحاول أن يأخذ مساحة ومكانة ونفوذاً أوسع في القضايا التي استجدت خلال العقد الأخير، خصوصاً تشرذم خرائط منطقة الشرق الأوسط، وحدوث تحولات في الموقف الأمريكي على عدد من الساحات، وقد بات واضحاً، على سبيل المثال لا الحصر، أن روسيا تجد أنها الأقدر، بما تمتلكه من إمكانات، على معالجة بعض الملفات، وأن من واجبها عدم السماح لتركيا بالتمدد، واستعادة أدوار توسعيّة قديمة.

 فرنسا بدورها استوعبت الدرس الأمريكي بعد الضغوطات التي مارسها الرئيس دونالد ترامب على الدول الأوروبية، وهي تريد أن تلعب دوراً قيادياً في المتوسط، كما أنها بحاجة موضوعية لهذا الدور للقفز عن المشكلات الاقتصادية الداخلية، وقد بدا واضحاً أن الرئيس الفرنسي يحاول أن يكون حاضراً في قضايا الشرق الأوسط بشكل فعال، فقد دخل سريعاً على خط الأزمة اللبنانية، بعد انفجار مرفأ بيروت، وأظهر موقفاً واضحاً في مساندته لليونان ضد التنقيب التركي في المتوسط، وهو يقوم بتنسيق كامل مع ألمانيا، لضمان وقوف الاتحاد الأوروبي إلى جانبه.

 العنوان الذي اتخذته الأزمة بين باريس وأنقرة هو عنوان شكلي وغير جوهري، فلا فرنسا يمكن أن تقف ضد الإسلام، ومجمل تصريحات الرئيس ماكرون تتعلق بأزمات تاريخية ذات صلة بقضايا الاندماج، ولا تركيا تستطيع أن تحتكر الدفاع عن الإسلام، أو أن تكون مقنعة بادعاءاتها في هذا الاتجاه، لكن ما هو خطير فعلياً هو تحوّل السياسة إلى نوع من أنواع ممارسة الشعبوية، واستعادة عناوين الماضي، ما يشير بشكل كبير إلى أن عوامل بناء التوافق أصبحت غائبة، ما يفتح الباب واسعاً أمام مخاطر محتملة جديدة على منطقتنا والعالم.

عن "الخليج" الإماراتية

الصفحة الرئيسية