محمد أبو الفضل
على حماس أن تدرك معنى التوازنات الصاعدة في النظام الدولي، وتواجه عالما لن يسمح لها بالالتفاف على تناقضاته واللعب على جناح السلاح تارة، والاستعداد لعدم الممانعة حيال التسوية تارة أخرى.
لم تكن حركة حماس الفلسطينية تبدو قريبة من مصر مثلما هي الآن، فلا يزال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية مقيما في القاهرة منذ وصوله على رأس وفد في 9 فبراير الجاري، ولحق به وفدان جاءا من أماكن مختلفة، وانخرط الجميع في مناقشة آليات الخروج من مأزق التسوية والسلاح.
وصول عدد كبير من قيادات حماس والاجتماعات المكثفة التي عقدت في مصر، تشي بأن الحركة وجدت في القاهرة مكانا مناسبا للتشاور، وتخلت ولو مؤقتا، عن الأماكن التي درجت على استضافة لقاءات قياداتها في السابق، مثل قطر وتركيا.
الحركة أرادت استغلال ملامح الفتور في العلاقة بين القاهرة والرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) وتوظيفها لصالحها، وتروج أنها أكثر جدية للانخراط في مشروع المصالحة الذي تتبناه مصر ولم يحقق نجاحا ملموسا حتى الآن، بسبب اختلاف الرؤى السياسية وتباعد الحسابات المادية بين فتح وحماس.
منطق القاهرة في التعامل مع حماس والترحيب بقيادتها محكوم بعوامل أمنية وسياسية وإنسانية، فقوات الأمن المصرية تخوض عملية شاملة ضد الإرهابيين في سيناء ولا تريد هروبهم إلى غزة الذي تسيطر عليه الحركة منذ حوالي 11 عاما، وتسعى إلى سد المنافذ على احتمال تلقيهم مساعدات عسكرية من عناصر تقيم في القطاع وعلى علاقة بحماس.
كما تريد مصر وضع الحركة تحت عيونها مباشرة، خشية عودتها بقوة إلى أحضان قطر أو تركيا أو إيران، أو الثلاث معا، عندما تتحسن الأجواء التي يمرون بها، حيث تواجه كل منهم تحديات صعبة على المستوى الإقليمي، كبحت أي اندفاع باتجاه حماس، في وقت تضع الولايات المتحدة الحركة ورئيسها (هنية) على لائحة الإرهاب الأميركية. علاوة على احتدام الأزمة الإنسانية في غزة، جرّاء الحصار الإسرائيلي، وفشل سياسات حماس في تخفيف المعاناة، وهي من بين عوامل عدة يمكن أن تفضي إلى انفلات الأوضاع في القطاع، وما ينطوي عليه من تداعيات على مصر، لأنها المنفذ الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه حال الانفجار.
وهو ما دفع القاهرة أيضا إلى زيادة وتيرة فتح معبر رفح مؤخرا لخروج ودخول البشر والمساعدات، الأمر الذي منح وجود قيادات حماس في مصر مبررا إنسانيا أمام المواطنين، وتخفيف الانتقادات الموجهة لقيادة الحركة وتحميلها جانبا كبيرا من مسؤولية المأساة التي يعيشها القطاع.
الحوارات والمناقشات التي تجريها قيادات حماس في القاهرة، ترمي إلى الوصول إلى رؤية محددة حيال الخروج من المأزق الداخلي، بشقيه الخاص والعام، وحل معضلة السلام والسلاح، والتوصل إلى مجموعة أفكار تبعدها عن شبح الانقلاب عليها، حركيا وفلسطينيا.
على المستوى الخاص، تعاني الحركة من انقسامات بشأن توجهاتها السياسية حيال التعاون مع مصر وما يبدو من مرونة ظاهرة في تقديرات بعض الملفات، وهناك قيادات تعترض على هذا المنحى، ووصل الخلاف إلى حد فرض الإقامة الجبرية على بعضها وتعرض أخرى لتهديدات بالاغتيال، وتبحث الحركة عن صيغة للتعامل مع هذا الوضع قبل أن تصعب السيطرة عليه.
على المستوى العام، تستعد حماس لمرحلة ما بعد أبومازن الذي يعاني من مشاكل صحية نتيجة تقدمه في السن، وترى أن غيابه عن المشهد سوف يحدث فراغا داخل فتح التي تعاني من خلافات قد تعصف بها، بالتالي لا بد من الحفاظ على ما تبديه حماس من مرونة أمام الجميع، وربما تضطرّ إلى تقديم المزيد من التنازلات بزعم أنها متمسكة بنجاح مشروع المصالحة الفلسطينية وعلى استعداد لمناقشة ملف التسوية.
النجاح ليس إرضاء للقاهرة، لكنه محاولة للقفز على الضفة الغربية وتكثيف التواجد فيها، فمع أن حماس فشلت في إدارة قطاع غزة، غير أنها ترى في المصالحة بابا يقود إلى إجراء انتخابات برلمانية حظوظها فيها أوفر من فتح، وإجراء انتخابات على رئاسة السلطة يمكن أن تساعد أحد حلفائها في الاستحواذ عليها.
في هذا الإطار، يأتي المأزق الخارجي الذي تراه حماس قريبا منها جدا، فقدرتها على الاستفادة من التناقضات الإقليمية تقلصت، والدوائر التي كانت تعتمد عليها تراجعت أو انكمشت، ورغبة الولايات المتحدة في الإعلان عما يسمى بصفقة القرن لم تعد خافية.
كما أن عزمها على نقل سفارتها إلى القدس المحتلة في مايو المقبل، وتنفيذ قرار الرئيس دونالد ترامب، يشكلان تحديا كبيرا لقطاعات فلسطينية وعربية عريضة.
حماس، لم تعد قادرة على تكرار منهجها القديم، الذي يرفع شأن سلاح المقاومة ويخفض سقف التسوية السياسية، ولا تستطيع تحدي الإرادة الدولية التي تقف حائلا ضد الخيار الأول وتتجه لتفعيل الخيار الثاني، وخطاب الحركة الاستهلاكي الذي يحمل الشيء ونقيضه، أي رفع السلاح وعدم الوقوف في وجه التسوية، لم يعد ينطلي على القوى الفاعلة.
جوهر المشكلة يتمثل في كيفية الخروج من هذا المأزق، فاللعبة التقليدية انتهت وثمة ترتيبات جديدة لا تتماشى معها المناورات والألاعيب القديمة التي أدمنتها حماس وأنقذتها من مطبات كثيرة في أوقات سابقة، وهو ما تعكف قيادات الحركة على تدارسه حاليا في القاهرة. التفكير الجمعي لدى الكثير من قيادات الحركة يعي خطورة هذا الموقف، فالتشبث بميراث وثوابت الماضي يخرج الحركة من التاريخ، والتجاوب مع المتغيرات والتطورات ربما يقضي على حماس ويلغي هويتها، خاصة أنها لم تتوقع دخول هذا الاختبار القاسي.
هذا الأمر يفسر توافد قيادات الحركة على القاهرة للبحث عن وسيلة تجنبها الانزلاق في أتون جدل عقيم، وهو ما جعل هذه المسألة متقدمة على ملف المصالحة الفلسطينية، التي لم تحتلّ حيزا كبيرا في الاجتماعات التي عقدتها حماس في القاهرة.
المعلومات الواردة من مصادر تنتمي لحماس وأخرى مستقلة، تقول إن الحركة تواجه موقفا مختلفا، تبدو عملية الخروج منه بأقل خسائر غاية في الصعوبة، فهي اعتادت توظيف البيئة الإقليمية للهروب إلى الأمام من المشكلات التي تواجهها، لكن انسداد هذه البيئة وضعها في موقف لا تحسد عليه.
عندما حاولت الحركة تقديم رؤية وأدخلت تعديلات ظاهرة على وثيقتها الأساسية العام الماضي، لم تجد تجاوبا لافتا وتعاملت معها دوائر كثيرة بعدم اكتراث تقريبا، وقيل وقتها إنها تنحني للرياح أملا في الهروب من عواصف سياسية عاتية.
التعديلات الشكلية لم تفلح في تبديد شكوك قوى عديدة في نوايا حماس، وعليها حسم حيرتها بإجراء تغييرات واضحة، لأن العلاج بالمسكنات لن يتم التعامل معه بجدية، وعليها أن تدرك معنى التوازنات الصاعدة في بنية النظام الدولي وتواجه عالما لن يسمح لها مرة أخرى بالالتفاف على تناقضاته واللعب على جناح السلاح تارة، والاستعداد لعدم الممانعة حيال التسوية تارة أخرى.
عن "العرب" اللندنية