ما دلالات تضامن تركيا مع غزة في الذكرى المائة لتأسيس الجمهورية؟

ما دلالات تضامن تركيا مع غزة في الذكرى المائة لتأسيس الجمهورية؟

ما دلالات تضامن تركيا مع غزة في الذكرى المائة لتأسيس الجمهورية؟


31/10/2023

ترجمة: محمد الدخاخني

تحتفل الجمهوريّة التّركيّة بمرور مائة عام على تأسيسها، إلّا أنّ تدفّق الدّعم للفلسطينيّين قد يجعل من الصّعب تذكُّر إلى أيّ مدى اعتنقت الدّولة التي قادها مصطفى كمال أتاتورك، مؤسّس البلاد، العلمانيّة والمُثُل الغربيّة.

ظلّ الرّئيس رجب طيّب أردوغان يتحدّث عن الذّكرى المئويّة لأعوام، ووعد بقرن تركيّ تفتل فيه البلاد عضلاتها المتنامية للدّفاع عن المسلمين وتأخذ مكانها الصحيح كقوّة كبرى.

في بعض النّواحي، قد يُنظر إلى أنقرة على أنّها فشلت في تحقيق ذلك. لقد عانت تركيا لأعوام من ارتفاع معدّلات التّضخّم وانخفاض قيمة العملة المحلّيّة، ولم يتوسّع النّاتج المحّليّ الإجماليّ إلّا بنحو نصف ما تصوّره حزب العدالة والتّنمية الحاكم قبل أكثر من عشرة أعوام.

لكي يتمكن الغرب من فهم واحدة من أعظم الأزمات العالمية منذ عقود سيحتاج إلى تلقي بعض الإشارات من تركيا والعالم الإسلامي

ومع ذلك، فإنّ صعود قطاع الدّفاع - الذي من المتوقّع أن يسجّل نحو سبعة مليارات دولار من الصّادرات هذا العام - يُسلّط الضّوء على شكل من التّقدّم التي كان ليفخر به أتاتورك، القائد العسكريّ الأعظم في تركيا الذي ترك بصمته، في وقت مبكّر من الحرب العالميّة الأولى، في شبه جزيرة جاليبولي، حيث دفع قوات الحلفاء بقيادة ونستون تشرشل إلى البحر. وبعد أربعة أعوام من ذلك، حشد القوّات التّركيّة في أحلك لحظاتها ودفع الجيش اليونانيّ إلى البحر الأبيض المتوسّط، ليشكّل تركيا التي نعرفها اليوم. وإذا أضفت إلى ذلك قروناً من الغزو العثمانيّ، لن يكون من المستغرب تمتُّع الأتراك بعقلية المحاربين.

اختيار اسم عائلة

بعد عقد من تأسيس أتاتورك للجمهوريّة، فرضت حكومته على جميع المواطنين، الذين استخدم العديد منهم اسماً واحداً فقط، اختيار اسم عائلة. وكانت العديد من الاختيارات تعكس روحاً قتاليّة: فكلمة «أردوغان» تعني «الجنديّ بالفطرة»، و«يلماز» تعني «الشجاع، المقدام»، و«بيرقدار» تعني «حامل الرّاية»، وما إلى ذلك.

ومع اقتراب الذّكرى المئويّة، يسعى حزب العدالة والتّنمية إلى الاحتفاء بهذا التّقليد العسكريّ. في نهاية الأسبوع، قالت الحكومة إنّ ميزانيّة الدّفاع للعام المقبل ستزيد مرتين ونصف المرة عن هذا العام، لتقفز من ستة عشرة مليار دولار إلى أربعين مليار دولار. ويستخدم حزب العدالة والتّنمية أغلب إنجازاته الدّفاعيّة الجديدة لاستحضار نجاحات تاريخيّة مثل معركة ملاذكرد في القرن الحادي عشر. ويرى أردوغان أنّ النّصر الذي حقّقته الإمبراطوريّة السّلجوقيّة، وهي الدّولة السّابقة للدّولة العثمانيّة، هو أوّل إذلال كبير قام به الأتراك بحقّ الإمبرياليّين الصّليبيّين الغربيّين، مما يثبت تفوّق المحاربين الذين يقاتلون من أجل الإيمان.

إنّ مثل هذه التّأكيدات على الفخر الإسلاميّ تُمثّل خروجاً عن رؤية أتاتورك لدولة ذات ميول غربيّة. وقد كتب أحمد كورو، الأستاذ بجامعة ولاية سان دييغو، في كتابه الجديد المكوّن من سبعمائة صفحة، والذي جاء بعنوان «رفيق الذّكرى المئويّة لتركيا الحديثة»: «بدأت الإصلاحات الكماليّة في تحويل هذا الحُلم العلمانيّ إلى حقيقة. لكن ذلك كان بمثابة كابوس ليس للإسلاميين فحسب، بل لمعظم المحافظين الإسلاميّين أيضاً».

العلمانيون

على مدى العقود السّتّة الأولى من عمر تركيا، كان العلمانيّون يُديرون البلاد وكان المحافظون هم المهمّشين. وأدّى ردّ الفعل النّاتج في النّهاية إلى بقاء أردوغان في السّلطة لمدّة عقدين من الزّمن، الأمر الذي قلب هذا الانقسام الاجتماعيّ والسّياسيّ رأساً على عقب. وفي تركيا اليوم، تحظى الأصوات الإسلاميّة بالأولويّة، في حين يتمّ تهميش التّقدميّين ذوي الميول الغربيّة غالباً.

ومع ذلك، يظلّ إرث أتاتورك قويّاً في بعض النّواحي: لا يزال الأتراك يتوقّفون لمدّة دقيقة في الحادي عشر من تشرين الثّاني (نوفمبر) من كلّ عام لإحياء ذكرى وفاته. كما أنّ التزامهم بالدّيمقراطيّة راسخ. وقد أجرى «مقياس الدّيمقراطيّة» التّابع لـ«مؤسّسات المجتمع المفتوح» دراسة استقصائيّة شملت ثلاثين دولة، ووجد أنّ القليل من الدّول تُقدّر الدّيمقراطيّة أكثر من غيرها. وأكّد أكثر من تسعة عشرة من أصل عشرين مواطناً تركيّاً (ستة وتسعون في المائة) أهمّيّتها، متعادلين مع إثيوبيا في المركز الأوّل. قارِن ذلك باثنين وثمانين في المائة من مواطني المملكة المتّحدة وثمانين في المائة فقط من الأمريكيّين.

لا يزال الأتراك يتوقّفون لمدّة دقيقة في الحادي عشر من تشرين الثّاني من كلّ عام لإحياء ذكرى وفاته

ومن نواحٍ أخرى، يبدو الأمر كما لو أنّ العصر الكماليّ لم يحدث قطّ. لقد عادت الدّولة التّركيّة ومؤيّدوها إلى المُثُل العثمانيّة المفترضة، وهذا يعني في الآونة الأخيرة الدّفاع عن الفلسطينيّين بإرادة حديديّة.

دروس التاريخ

قبل عقود، لم يكن بمقدور سوى عدد قليل من الأتراك معرفة اسم الإمام الأعلى في البلاد، رئيس هيئة «ديانت». اليوم، أصبح علي إرباش من المشاهير الصّغار ويتابعه أكثر من نصف مليون على موقع «إكس». وقد حثّ في خطبة الجمعة في آيا صوفيا، وهو يلوّح بسيفه، على «أن يتعلّموا درساً من التّاريخ مفاده أنّ ما يزدهر بالظّلم ينتهي به الأمر إلى الهلاك».

وقال أردوغان إنّ الهجمات الإسرائيليّة على غزّة «تصل إلى حدّ الإبادة الجماعيّة». كما استخدم صهره وخليفته المحتمل، سلجوق بيرقدار، كلمة الإبادة، ووصف ردّ فعل إسرائيل بأنّه «واحد من أسوأ المآسي في التّاريخ» وتبرّع بعشرة ملايين دولار لمساعدة غزّة.

لا يزال الأتراك يتوقّفون لمدة دقيقة في الحادي عشر من نوفمبر من كل عام لإحياء ذكرى وفاته. كما أنّ التزامهم بالديمقراطية راسخ

وتنتشر وجهات النّظر المؤيّدة للفلسطينيّين عبر الطّيف السّياسيّ، ويذهب بعضها إلى أقصى الحدود. لقد نظّمت الجماعات الإسلامويّة مسيرات ردّدت خلالها شعارات مؤيّدة لحماس ودعت إلى نشر قوّات تركيّة في غزّة. وقالت ميرال أكسينر، رئيسة حزب «الخير» اليمينيّ المتطرّف المعارض، إنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، هو «هتلر القرن الحادي والعشرين».

وهذه الآراء لها تأثيرها. فبعد تحسين علاقات أنقرة مع حلفائها الخليجيّين ومصر، شهدت العلاقات مع إسرائيل أيضاً تحسّناً في الأشهر الأخيرة. لكنّ موقف تركيا المؤيّد للفلسطينيّين على نحو متزايد يقوّض هذا التّقدّم. وبعد احتجاجات في مدن تركيّة كبرى وإطلاق ألعاب ناريّة على السّفارة الإسرائيليّة، استدعت إسرائيل الأسبوع الماضي جميع دبلوماسيّيها من تركيا وحثّت مواطنيها على المغادرة أيضاً، بسبب مخاوف أمنيّة.

تناول مقالي السّابق بالتّفصيل كيف تضغط الولايات المتّحدة وإسرائيل على أنقرة لقطع علاقاتها مع حماس، وقد بدأ هذا الضّغط بفرض عقوبات أمريكيّة على الشّبكة الماليّة لحماس. وعرضت تركيا مراراً وتكراراً التّوسّط في إطلاق سراح الرّهائن في غزّة، حتّى مع طلب المسؤولين الأتراك - وفقاً لأحد التّقارير - لبعض قادة حماس بمغادرة البلاد. لكن قطر هي التي لعبت الدّور الرّئيس في تأمين إطلاق سراح أمّ أمريكيّة إسرائيليّة وابنتها في نهاية الأسبوع.

وفي الأسابيع المقبلة، من المرجّح أنّ يؤدّي الدّعم الدّاخليّ القويّ للفلسطينيّين إلى وضع تركيا، الدّولة العضو في «حلف شمال الأطلسيّ»، بين المطرقة والسّندان - خاصّة إذا شنّت إسرائيل، كما هو متوقّع، غزواً برّيّاً لغزّة على نحو يؤدّي إلى زيادة الوضع الإنسانيّ سوءً. ويوم الاثنين، قدّم أردوغان موافقة البرلمان التّركيّ على طلب السّويد للانضمام إلى «حلف شمال الأطلسيّ»، ربما بهدف تقديم غصن زيتون للولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ.

احتجاجات ضد العدوان على غزة

ومع ذلك، في الوقت نفسه، شهدت العواصم الأمريكيّة والأوروبيّة معارضة متزايدة للدّعم المطلق لإسرائيل. واستقال مسؤول كبير بوزارة الخارجيّة الأمريكيّة، الأسبوع الماضي، احتجاجاً على استمرار مبيعات الأسلحة لإسرائيل. وبعد أيّام، التقى وزير الخارجيّة، أنتوني بلينكن، بموظّفين مسلمين وعرب أمريكيين للاستماع إلى آرائهم بشأن حملة القصف الإسرائيليّة، التي أدّت حتّى يوم الاثنين إلى مقتل حوالي خمسة آلاف شخص.

وشدّد مسؤولون أمريكيّون في الأيّام الأخيرة على ضرورة تقليل الخسائر البشريّة في صفوف الفلسطينيّين. وبالمثل، أرسل أكثر من ثمانمائة دبلوماسيّ ومسؤول في الاتّحاد الأوروبيّ رسالة إلى رئيسة «المفوضيّة الأوروبيّة»، أورسولا فون دير لاين، قائلين إنّ الدّعم المستمر لإسرائيل يمكن أن يؤدّي إلى «محو» غزّة وسكّانها من الكوكب.

لم يعد انتقاد إسرائيل فكرة هامشيّة في الغرب، كما كان الحال في وقت الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). ومن المؤكّد أنّ واشنطن وبروكسل تُفضّلان تركيا أكثر كماليّة في الوقت الحاليّ، لكن الرّياح السّياسيّة المتغيّرة اليوم تشير إلى إعادة مُعايرة شعريّة الطّابع.

قبل قرن من الزّمان، تخلّت الدّولة العثمانيّة عن الحكم الإسلاميّ وتطلّعت غرباً لتصبح تركيا. والآن، لكي يتمكّن الغرب من فهم واحدة من أعظم الأزمات العالميّة منذ عقود من الزّمان والاستجابة لها، يبدو أنّه يدرك أنّه سوف يحتاج إلى تلقي بعض الإشارات من تركيا والعالم الإسلاميّ.

المصدر:

ديفيد ليبيسكا، ذي ناشونال، 24 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023

https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2023/10/24/the-israel-gaza-war-shows-a-changed-turkey-does-it-show-a-changing-world-too/

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية