ما البشري وما الربّاني في فكر سيد قطب؟

ما البشري وما الربّاني في فكر سيد قطب؟

ما البشري وما الربّاني في فكر سيد قطب؟


07/04/2024

"وَلَا تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة - 42).

تتشكّل الكتلة الرئيسية من خطاب جماعات الإسلام السياسي على فهم واستنتاجات وتأويلات للنصّ الديني الأصلي، وما فعله سيد قطب، ثمّ الجماعات المتشكّلة على فكره أو التي تحولت باتجاهه أو مدّت عنقها وأطالته لتستظلّ بمظلّته، هو التوسع في بناء تصورات ومناهج وأفكار وتوقعات ناشئة عن فهم أو استنطاق النص الديني، وهذا ليس خطأ منهجياً من حيث المبدأ، لكنّه ليس ديناً، وإنّما توقعات واستنتاجات بشرية يعتريها الصواب والخطأ والنقص والهوى والمصالح، كما يحدث لكلّ مقاربة بشرية للنصوص والأفكار والأهداف والرؤى.

 

الفكر الديني جميعه، لا يحلّ في أصحابه مستقلاً عن أفكارهم وتوقعاتهم، ولا يهبط على أحد من السماء، لكنّه محصلة الجهد البشري في الجدل والتفكير والتأمل واستحضار الخبرات والعلوم الإنسانية والاجتماعية

 

والحال أنّ الفكر الديني جميعه، سواء فكر الجماعات الدينية السياسية، أو غيرها، لا يحلّ في أصحابه مستقلاً عن أفكارهم وتوقعاتهم، ولا يهبط على أحد من السماء، لكنّه محصلة الجهد البشري في الجدل والتفكير والتأمل واستحضار الخبرات والعلوم الإنسانية والاجتماعية، فالاقتصاد الإسلامي على سبيل المثال، أو الخطاب الاقتصادي الإسلامي، هو استحضار للنصوص والشرائع الدينية بعد استيعاب العلوم الاقتصادية الإنسانية، وهكذا فإنّ الخطاب الاقتصادي الإسلامي يمكن أن يكون خطاباً إسلامياً رأسمالياً محافظاً يمينياً، أو إسلامياً وسطياً ليبرالياً، أو إسلامياً يسارياً اشتراكياً، أو يسارياً ليبرالياً، ويمكن أيضاً أن يكون إسلامياً متطرّفاً في أقصى اليمين، أو إسلامياً فوضوياً أناركياً في أقصى اليسار، وفي وسع جميع الاتجاهات والإيديولوجيات أن تجد سنداً دينياً من الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، وهذا موجود ويمكن قراءته وتحليله في الأديان النبوية الـ3، ولعلّي أعود إلى هذه الظاهرة في مقالات قادمة، بمشيئة الله.

اقرأ أيضاً: سيد قطب مُلهم الإخوان ومرجع الحركات الجهادية

لكنّ الفكرة الأساسية لهذه المقالة هي أنّ سيد قطب أنشأ توقعاته الخاصة المبنية على ثقافته (وهي ثقافة واسعة ومتنوعة)، وتجربته الخاصة (وهي تجربة طويلة وغنية)... ومعقدة أيضاً، ملأى بالإحباط والآلام والمفاجآت والتحولات، وهكذا فقد أعاد إنتاج الحالة الاحتجاجية التي توصّل إليها في خطاب إسلامي احتجاجي.

ما البشري وما الربّاني في فكر سيد قطب؟

ليست الإجابة عملية صعبة، ففي وسع كلّ مسلم أو مثقف قارئ للفكر والدين أن يميز بين الربّاني والبشري لدى سيد قطب وغيره أيضاً من المفكرين والمفسرين، وما هو من عند الله وما ليس من عند الله، ومرّة أخرى فلا يعيب الإيديولوجيات والأفكار أن تكون بشرية، لكنّ العيب في لبس الدين على الناس، وتقديم البشري على أنّه إلهي، أو الظن والاعتقاد جهلاً أو خطأ بأنّ أفكاراً وتصورات بشرية هي دين من عند الله، فيحدث للمسلمين أو لبعضهم أن يُدفعوا إلى الكارثة ويحسبونها ديناً من عند الله، كما حدث ويحدث للمشركين الذي زيّن لهم شركاؤهم قتل أولادهم "كَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ" (سورة الأنعام ـ 137)، وبالطبع فإنّ كثيراً من الخرافات والأوهام يمكن أن تكون استنتاجات منطقية لحقائق ملموسة متفق عليها. وعلى سبيل المثال فإنّه من الحقائق الملموسة أنّنا نسمع أصواتاً بشرية لأشخاص نعرفهم تصدر من أجهزة صغيرة مغلقة، لكنّها بالتأكيد خرافة مضحكة أن نعتقد أنّ بشراً يحلّون في هذه الصناديق!

اقرأ أيضاً: كيف تغيّر سيد قطب وغيّر الإخوان معه؟

يصوغ سيد قطب فكرة "الإسلام السياسي" ببساطة على أنّ هناك منهج الله ومنهج البشر، وعلى المسلمين والناس أن يختاروا بين المنهج الإلهي أو المنهج البشري، حكم الله أو حكم الجاهلية! ومن ثمّ، يجب على أتباع المنهج الإسلامي أو "طلائع البعث الإسلامي" أن يكونوا على ثقة بصوابهم وبخطأ الآخر، وقد تمضي البشرية (يقول سيد قطب) "في اعتساف تجارب متنوعة هنا وهناك -كما هي الآن ماضية في الشرق وفي الغرب سواء- ولكنّنا نحن مطمئنون إلى نهاية هذه التجارب، واثقون من الأمر في نهاية المطاف. فهذه التجارب كلها تدور في حلقة مفرغة، وداخل هذه الحلقة لا تتعداها - حلقة التصور البشري والتجربة البشرية والخبرة البشرية المشوبة بالجهل والنقص والضعف والهوى ـ في حين يحتاج الخلاص إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وبدء تجربة جديدة أصيلة، تقوم على قاعدة مختلفة كلّ الاختلاف: قاعدة المنهج الرباني الصادر عن علم (بدل الجهل)، وكمال (بدل النقص)، وقدرة (بدل الضعف)، وحكمة (بدل الهوى)...، القائم على أساس: إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده دون سواه".

 

سيد قطب أنشأ توقعاته الخاصة المبنية على ثقافته وتجربته الخاصة وهكذا فقد أعاد إنتاج الحالة الاحتجاجية التي توصّل إليها في خطاب إسلامي احتجاجي

 

"نحن نُسمّي هذه النظم التي يتعبّد الناس فيها الناس -كما يسمّيها الله ـسبحانه- نظماً جاهلية، مهما تعددت أشكالها وبيئاتها وأزمانها، فهي قائمة على الأساس ذاته الذي جاء هذا الدين -يوم جاء- ليحطّمه، وليحرّر البشر منه، وليقيم في الأرض ألوهية واحدة للناس؛ وليطلقهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ بالمعنى الواسع الشامل لمفهوم (العبادة) ومفهوم (الإله) ومفهوم (الرب) ومفهوم (الدين)".

هكذا، فإنّنا باتّباعنا المنهج الإلهي نمثل الحق والمسؤولية عن "إقامة مملكة الله في الأرض"، وهذا تعبير حرفي لسيد قطب، ويمثل الآخرون الجاهلية التي يجب اقتلاعها، فرسالتنا في تحرير الناس من عبودية البشر ليعبدوا الله، كلام كبير كما يقول الفلاحون، لكنّنا لا نملك الحق المطلق، ولا أحد أيضاً يملكه، نحن نقارب ونسدّد في فهمنا للدين والتكليف الرباني، لكن ليس من حق أحد أن يزعم أنّه الصواب وأنّ غيره خطأ، فقد نكون مخطئين وقد يكون غيرنا على صواب، ثم إنّ كل المؤمنين بالله على اختلاف مذاهبهم (في الدين الواحد)، أو أديانهم المتعددة المنتمية إلى أنبياء، تلقوا الوحي من الله ومضوا في رسالة الإيمان بالله؛ جميعهم يزعمون أنّهم على صواب أو يسعون -ونحسب أنّهم صادقون في ذلك، ولا أحد يملك الحكم على نياتهم وما في قلوبهم- إلى الصواب. قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة - 62)، وقال أيضاً: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ" (فصلت - 30)، ولا يحق لنا أن نحكم على من اعتبر نفسه مؤمناً بأنّه ليس مؤمناً "... وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..." (سورة النساء ـ 94).

اقرأ أيضاً: "أشواك" سيد قطب.. هل تصنع المرأة متطرفاً؟

يوافق جميع المؤمنين سيد قطب في قوله: "لقد جاء هذا الدين ليلغي عبودية البشر للبشر، في كلّ صورة من الصور، وليوحّد العبودية لله في الأرض، كما أنّها عبودية واحدة لله في هذا الكون العريض. (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، وإليه يرجعون)، لكن الحكم على الناس بالجاهلية (التي فُهمت كفراً) لمجرّد خطأ أو جهل أو انحراف، أو لأنّنا نحسبهم كذلك، فربما نكون مخطئين ويكونون مصيبين، هو "اعتساف" وتحميل للمنطق أكثر ممّا يحتمل، وإقحام للدين في الموقف البشري الاحتجاجي والانفصالي والاستعلائي أيضاً. يقول سيد قطب، ويا للهول!: "والناس إمّا أن يعيشوا بمنهج الله هذا بكليته، فهم مسلمون، وإمّا أن يعيشوا بأيّ منهج آخر من وضع البشر، فهم في جاهلية لا يعرفها هذا الدين، الجاهلية ذاتها التي جاء هذا الدين ليحطّمها، وليغيرها من الأساس، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله. والناس إمّا أن يعيشوا بمنهج الله بكليته، فهم في توافق مع نواميس الكون، وفطرة الوجود، وفطرتهم هم أنفسهم، وإمّا أن يعيشوا بأيّ منهج آخر من صنع البشر، فهم في خصام مع نواميس الكون، وتصادم مع فطرة الوجود، ومع فطرتهم هم أنفسهم، بوصفهم قطاعاً في هذا الوجود. تصادم تظهر نتائجه المدمّرة من قريب أو من بعيد". يُذكّرني ذلك بقصة فتى كان يقرأ في المسجد في كتابه المدرسي، فجاءه شاب من هؤلاء وقال له: إنّ الله تعالى يقول: "وإنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً"، وأنت حين تقرأ في كتابك المدرسي تقع في الشرك لأنّك تدعو مع الله غيره. 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية